هل التقنية مجرد أدوات؟

كتب بواسطة علي بلجراف

قال الفيلسوف الفرنسي ألان: “إن شئت أن تلاحظ، عليك أن تكف يدك عن الإمساك”.

بداية، لا بد من تسجيل فرق قائم بين علاقة التقنية بالعلم من جهة وعلاقة الفلسفة بالحياة الاجتماعية. يوجد نوع من عدم اكتراث متبادل بين العالم والتقنية، وهو أمر لا يطرح أي إشكال كما يبدو، أما موقف الفيلسوف من الحياة أو الممارسة اليومية فلا يمكن أن يكون شبيها بموقف العالم من التقنية أي اللامبالاة التامة؛ فعلاقة العلم بالتقنية هي في وضعية معكوسة مقارنة بعلاقة الفلسفة بالحياة اليومية. من المعرفة العلمية تنبثق تقنية هي أداة للسيطرة والتحكم في الطبيعة والأشياء. أما ما ينبثق من النظرية الفلسفية فهي الأخلاق والسياسة بالمعنى العام أي ما يؤدي إلى التحكم وتنظيم حياة الناس في المجتمع. فمن الطبيعي إذن أن لا تكون الفلسفة لا مبالية بالممارسة الحياتية لأنها تخص الإنسان لا الأشياء. لكن هل التقنية مجرد آلات وأدوات؟

ثمة، حسب فيلسوف الحضارة الألماني الشهير أزفالد شبنغلر، ثلاثة عوائق على الأقل تحول دون إدراكنا كنه وجوهر التقنية.

1- ينتصب العائق الأول أمامنا حين نجعل من تقنية العصر الآلي منطلقا للفهم.

2- والثاني أساسه مفهوم خاطئ يختزل هدف التقنية في صناعة الأدوات والآلات.

3- أما العائق الثالث فيتحدد في النظر إلى التقنية من خلال وظيفة الأداة.

لكن هل توجد التقنية فعلا في تضاد وغربة عن الطبيعة أم هي منغرسة فيها وجزء من تطورها؟ وإذا كان العصر الآلي لا يتيح فهم التقنية على حقيقتها، فبأي عصر يلزم ربطها بالضبط؟ ثم ما فائدة التمييز بين التقنية والأداة والآلة؟ وأخيرا، إذا كان من الخطأ فهم التقنية من خلال وظيفة الأداة، فمن خلال أي وظيفة أخرى يمكن أن يتحقق الفهم الصحيح المراد؟

يؤكد صاحب كتاب “الإنسان والتقنية” أن البداية التاريخية للتقنية غير معروفة على نحو دقيق، ما يعني أنها ترجع إلى أزمنة موغلة في القدم وهو يرى، أكثر من ذلك، أن التقنية بما هي إضافة، فإنها خاصية عامة تتجاوز الإنسانية لتطال الحيوان. فالحيوان، مقارنة مع النبات مثلا، يضيف مضمونا جديدا لوجوده الطبيعي يتمثل في القدرة على التحرك في الوسط، الأمر الذي يمكنه من نوع من الاستقلال إزاء الطبيعة ليصير أكثر قدرة على حماية نفسه والدفاع عنها. فالحركة في هذه الحالة حرية وتقنية في نفس الوقت وهي تشكل إضافة متاحة للحيوان مقارنة مع ما دونه من الموجودات. إلا أنها تقنية غير متوسلة بأي أداة.

فإذا كانت حركة/ تقنية الأسد، على سبيل المثال، هي ما يتيح له السيادة والسطوة على رشاقة وسرعة الغزالة، فإن نمط التقنية هذا لا علاقة له بأي أداة أو آلة. والأداة والآلة تتمايزان. فالأداة تبدو امتدادا للعضو الطبيعي (الفأس امتداد لليد والمجهر امتداد للعين مثلا) ولا يمكن للأداة أن توجه العضو أو تحل محله لتشتغل من دونه. أما الآلة، بما هي مميزة للعصر الآلي، فيبدو أنها قائدة وموجهة للعمل الجسدي بل وقابلة للحلول محله أيضا. وقد صور الشريط السينمائي غير الناطق المعروف “الأزمنة الحديثة” الذي أدى دور البطولة فيه الممثل شارلي شابلان هذا العصر أحسن تصوير

غير أن القبض على ماهية التقنية، حسب منطق تفكير شبنغلر، يفترض تجاوز هذه الدلالة الأولى أعني دلالة “الإضافة الخارجية” كما هي بارزة في صور الحركة والحرية والاستقلالية (مثال الحركة والحرية الحيوانية) الموجهة بالطبيعة والغريزة، نحو دلالة أخرى مرتبطة وملتحمة بالفكر. فرغم الحرية والاستقلال، نسبيا، عن الطبيعة، يظل الوجود الحيواني وجود صراع. هذا ما يجعل دلالة التقنية، في ظل هذه الشروط، مندرجة ضمن ما يسميه شبنغلر “خطة حيوية”. يميز شبنغلر إذن في التقنية بين مستوى الحركة ومستوى الإستراتيجية. يحيل هذا التمييز على الفرق بين الشرطين الوجوديين الإنساني والحيواني. فالظاهر أن الحيوان لا يستثمر وجوده الحر والمستقل نسبيا عن الطبيعة، مقارنة بالجمادات، إلا كصراع من أجل الحفاظ على الحياة. لذلك من الطبيعي أن تشتغل التقنية بالنسبة للشرط الحيواني كمجرد خطة حيوية.. أما بالنسبة للإنسان فليست التقنية مجرد حركة. إنها إستراتيجية أي خطة للحياة.

إلى جانب الفرق البين بين الحرب البشرية وما سواها، تعتبر الإستراتيجية، بما هي قيادة للعمليات، عنصرا حاسما في الحرب الحديثة. يدل دخول مفهوم الإستراتيجية على الخط، بالنسبة للإنسان، على أن التقنية هي في المقام الأول مسألة سلوك واع وهادف أكثر مما هي مسألة أشياء وأدوات وآلات. إنها حسب شبنغلر مسألة حرب وليست مسألة سلاح. يقول شبنغلر: “نحن نميل إلى نسيان أن الأساسي في التقنية ليس شكل الأدوات والأشياء ولا وصفنا لها، بل ما نفعله بها وكيف نستعملها فما يهم ليس السلاح بل الحرب”.

يبدو إذن من هذا القول أن القيمة والأهمية في الأصل والبداية ترتد إلى الفكرة والتصور. لعل هذا ما فكر فيه هايدغر وعبر عنه بتحول الميتافيزيقا، التي هي أفكار وتصورات، إلى تقنية أي تحول الفكر والتأمل إلى أدوات في خدمة إستراتيجية الفكر. يقدم شبنغلر مثالا ماديا ملموسا في هذا الاتجاه. فهو يقول: “كل وسائل نقلنا ولدت وتم تطويرها انطلاقا من فكرة (التشديد من عندي) السياقة والتجديف والإبحار والطيران”. بإمكاننا أن نضيف: ألم تولد كل أجيال الراديو والتلفزيون والحاسوب والهاتف المحمول وتم تطويرها انطلاقا من فكرة الاتصال عن بعد؟

 

مقالات ملفات الفلق

عن الكاتب

علي بلجراف