التفات الصورة

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

من بين المصورين الثلاثة الراحلين أحمد العبادي ومحمد النهدي استطعت أن أرى عددًا أكبر من ضوء المصور عمان العدوي، لعله كان الأكثر نشرًا لأعماله، هل قلت من قبل إن الروح تشعر باقتراب رحيلها ؟ ها أنا ذا أكرره.
في الصور التي التقطتها روح المصور الشاب الذي غادر مع رفقاء دربه هذا العالم في الخامس والعشرين من نوفمبر هذا العام 2017 م أمكنني أن أرى طيفًا مبدعًا، لحظة خاصة ملتقطة بروح العين، الإلمام الشامل للصورة، إنها تبرز لعين الرائي المتأمل شغف المصور، حبه المسكوب في اللحظة الضوئية الهاربة التي يحاول انتشالها من العدم، لحظة الزمن الخاصة بالصورة، المتجمدة الآن، تجمدها هو وسيلتها التعبيرية الوحيدة، إنها هنا ماثلة تنتظر أن تُرى، أن تتم رؤيتها وتأملها، أنظرُ للصور، ويفترض أن أنسى المصور أمام الصورة، لكن الآن بالعكس، أنا عثرت على الصورة لأني كنت أبحث عن المصور. كلما حاولت الصورة أن تنسيني أتذكر.

١. جلاميد الصخر

 

هل كانت تعبيرًا عن وحشة الروح، يا لضآلتنا أمام هذه الجلاميد الصخرية الضخمة، ويا لضآلة العين، ويا لمعجزتها الدقيقة إذ تستطيع الإحاطة لتبصر كل هذا السحر.

٢. طريق المجرة

 

إذا كنا ضئيلين أمام الجلاميد الصخرية فما مبلغ حجمنا نحن وأرضنا معنا أمام الفلك العظيم، ها يصور عمان العدوي لنا مرور مجرة درب التبانة على قمة جبلٍ أرجّحُ أنه الجبل الأخضر في القنة جبل شمس، أقف على صخرة جبل هائل مثل آثار خطى الكون لأرى تلك الأضواء البعيدة جلاميد ضوء هائلة وعيني التي تراها مجرد ذرة غبار غير مرئية، إنها لحظة انعكاس الأجسام الهائلة الضخمة اللامتناهية في ماء الأجسام الدقيقة الضئيلة المتلاشية.

٣. ميزان الأرض

 

لكن هنا في هذه الصورة أمام ذلك الكوكب المضيء في البعد، وهذا الجبل القريب نرى أحشاء الفلك، لكن لندقق أكثر في الفوالق الصخرية القريبة منا، تلك الشعاب التي خددت الجبل هي لمسة سماوية رقيقة شقتها المياه، تلك الغيوم البيضاء التي تحضر كأنها طيوف شبحية تعكس الضياء على الجبل الواضح لكنها تضاد تلك الظلال الداكنة الغامقة في جسم الجبل. إنها تقف في كفة ميزان غير مرئي ! الجبل يعترض السماء أمام عيوننا، ونتساءل أيهما الراسخ أكثر الجبل أم السماء التي خلفه؟

٤. شمس الأفق

 

في الصورة التالية تشرق الشمس في الأفق لكن لنلاحظ الاتزان البصري بين هذه الصخور البحرية المليئة بالأصداف الصغيرة المتحجرة معها والملتصقة بها والغيوم السماوية الداكنة هي الأخرى، البياض الذي يغطي البحر يسرب الغيوم في الماء، والشمس تحضر ولا تحضر، دائرتها غير واضحة لكن ضياءها راسخ الحضور، أحيانا تبدو بقية ما في الصورة مجرد ظلال، ونحن أيضًا خلفنا ظل الشمس التي في الصورة. تلمع الأصداف كالنجوم البعيدة، هل نزلت النجوم إلى الأرض؟

٥. الزرقة

 

تأخذ الزرقة امتدادها فينا أكثر، الباقي من زرقة البحر المتخفية خلف البياض الشفيف يمتزج بزرقة السماء ويدخلنا، الزرقة تلون صخورنا الكالحة، تعطيها معنى حقيقيًا ناطقًا، ما خارج كادر الصورة، ما تلمح له الغيوم المنطلقة من خارج الكادر، شيء يخصنا، امتداد عيوننا أيضًا يتبع خيوط الغيم.

٧. عناق الغيم

 

في هذه الصورة يحل الظلام على الأرض، الشجرة مظلمة، لكن السماء مضاءة، حتى طبقات الغيوم واضحة، وتلك الغيوم التي تحتوي الصورة، تعانقها، تمد نفسها من الجهتين، أهي تعانق الصورة أم الشجرة ؟ أم العين التي ترى. هذه النظرة القادمة من لمسة روحية تعجز الكلمات عن بلوغها.

٨. نظرة البحر

 

هذه الصورة مكانها في يتي كما أحسب، البحر خلف المصور، وأمامه هذه القطعة الجبلية المتوحدة، كناسك أمام البحر، الخلفية ضياء شديد ينسكب الذهب على الأرض، في الأرض نرى انعكاس القمة الجبلية وبعدها على يسارنا الزرقة وفي البعيد غيم، تنكشف أعماق المكان في صورة كهذه، البحر متوارٍ لكن بصمات الأمواج واضحة ومديدة أمامنا، وبالأحرى تحت أقدامنا، تحت أقدام الصورة، الصورة التي هي نظرة العين، العين الراحلة.

٩. جبل الروح

 

هذه الصورة أول ما رأيتها ذكرتني برواية غاو شينغجيان جبل الروح، ذلك الشيء الصغير الأسود في يمين الصورة، الذي يبدو كبطة سوداء هو قارب. أين يمكن أن يكون عمان التقط هذه الصورة، في الغيب مثلاً، هذا الضباب الذي يغطي البحر ولكنه يعجز عن تغطية الجبال، الجبال المجابهة لنا وللبحر، في مواجهة صريحة واضحة، تلجم اللسان وتوقظ الروح في الصمت العزيز. تنظر وتصمت، لا كلمة أخرى تقال.

١٠. تلويحة الوداع

 


يغيب المصور عن إطار الصورة لكنه يحضر في الوجدان، الله هو المصور الأعظم، لا يُرى، لكن كل شيء يشي به، المصور الإنسان ينعكس فيه شيء من خالقه، ذلك الوجود الماثل للصورة، المصور لم يخلق الموضوع، لكنه التقط الصورة، لحظة العين المحفوظة في الصورة، في حزمة الضياء، أمد عيني في الحزمة وأشعر بشيء أكثر من الموضوع، بلمسة إنسانية كانت تحاول تطويع آلة الكاميرا الباردة، لتحمل أمانة قلب الشاعر، عين الشاعر بالأحرى وهي تسكب نفسها في عملها بسخاء، تدرك تلك الروح أن هذا ما يبقى، ليست فكرة البقاء شقيّة كما يتم تصويرها عادة، إنها الشغف الذي من أجله يجوب المصور الأمكنة ليلتقطها من الفناء، هي فكرة الوجود نفسه متجسدة في صورة، موجودة وتبقى أطول ممن التقطها، تحمل بعضه، تحمل ما انعكس في عينيه قبل أن ينعكس، بما أن الكاميرا تتقدم العين كشبكة صيد متقدمة، ولا تكون خلفها.

الصورة الأرض، الطبيعة، الشروق اليومي للشمس، الأطفال، الأصدقاء، تلك اللحظات التي تحاول الصور جمعها من الوجود وحفظها في ألبوم إلكتروني يحمل اسم المصور، ”هذه حياتي“ تلك الجملة التي يقولها المصور وهو يشير إلى الكاميرا، وهو لا يقصد الكاميرا نفسها، فالكاميرا نفسها زائلة أسرع منه هو، لكنه يقصد ذلك النهر الضوئي الذي يمر داخل عين الكاميرا، هناك حيث يصطاد هو أسماك الصور، ويحنطها بالتحميض، بالإظهار، ويعرضها على الآخرين، على الأصدقاء وعلى العالم، كصورة شخصية للعالم.

كانت السماء موجودة وممثلة بشكل واضح في صور عمان العدوي، بشكل يبدو الآن بعد رحيله أكثر وضوحًا ودلالة، إنها المسكن القريب القادم، في السماء، الأرض نصف الصورة والباقي سماء، أحيانا يكون البحر في المنتصف، هل البحر هو الحياة، هو الوجود؟ ربما، لكن ذلك الشغف بصورة الأرض والسماء يعكس شيئًا جميلاً، لحظة واضحة، صورة بالغة الدقة، لهذا الوجود نفسه، السريع، الشغوف، العاشق، وهو يضحك للمصور كما يبتسم الصبي الذي يكتب آية التوحيد على الباب الحديدي المغلق، لقد مسح وكتب كثيرًا لكنه الآن يكتب هذه الآية العزيزة ويلتفت للخلف، للكاميرا المتقدمة، لعمان العدوي المصور، ولنا نحن أيضًا خلفهم، نحن الذين وصلنا متأخرين، أصبحنا موجودين في ذلك الحشد الذي يكبر يومًا بعد يوم أمام الصورة، الصورة تلتفت صوبنا، تلمحنا أخيرًا في عين الصبي التي تبدو كأنها منحرفة قليلاً للأسفل لكنها بالعكس مصوّبة نحونا جميعًا نحن الناظرين، تلك اللمعة التي في عين الصبي لن تتبع الالتفاتة للخلف؛ بل العكس ستتبع اتجاه جسد الصبي وتغادر، إنها تشبه تلويحة وداع، في اللمعة الأخرى المعنوية الماكثة قبل الدال الأخيرة الناقصة في كلمة (أحد) هناك في تلك الوحدة الإلهية يغيب المصور عمان العدوي، مخلفًا لنا الكثير من الأمل ممزوجًا بهذا الأسى الأصيل، الحزن الحقيقي، الذي هو حزن الرحيل بعد الوجود المليء باللون. بيضاء وسوداء هي الصورة الأخيرة؛ لأنها تحكي عن أبيض وأسود، عن مرئي ولا مرئي، عن وجود وعدم.

أدب العدد التسعون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد