المغني الراحل

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

”بلاد بلا فن كليلٍ بلا نهار“

”الفن مرآة الشعوب“

سالم بن علي

١. لك يوم تذكرني وتندم حيث لا ينفع ندم”

 

المغني في لحظة الغناء مشاعر متجسدة، تجسيد عاطفة، المغني صادق لأنه يتحد بصوته ويندمج في الأغنية. يذهل عن باقي وجوده ويذوب في الأمواج الصوتية. عند رحيل المغني نحاول محاسبة أنفسنا، هل اغتربنا بين الأغاني البعيدة والمغنين الذين كانوا في غنىً عنا ؟ تاركين المغني الذي كان يحتاجنا ؟

لمن يغني المغني إن لم يكن لنا ؟

فهل خُنا مغنينا ؟ هل تركناه يغني وحيدًا في الحفلة بلا جمهور؟ هل كانت أفئدتنا هي الحبيبة الهاجرة ؟

 

هل صدقنا المثل ”مغني الحيّ لا يطرب“ ؟

شهر منذ أن مات وأنا أعيد أغانيه، هل قصّرنا ؟ وأشعر أنني أعيد شريط عمري معها.

 

٢. ” صافي ودادك”

 

إذا كان قدر الفنان في بلادنا أن يكون مغنياً فأمامه ألف حاجز عليه تجاوزه. وفي نهاية الطريق قد يجد من يصم عمله بأكمله بأنه يجب أن يدفن معه ! هي حالة من الجهل تطغى علينا حتى ينبري بيننا من يقارن من ينشر الفن بالمجرمين، ويظن أنهما سواء، ويريد أن يدفن تراث الفنان، الذي هو تراث الإنسانية كلها.

ألا يكفي الإهمال، وانعدام الفضاء، والقتل البطيء، الذي أحاط الفنان في حياته وهو كائن من الحساسية الشفافة، كائن من الفن والحماسة لهذا الحلم بالأغاني، وحدهم الفنانون يحرسون الأحلام؛ لكن الواقع يتفنن في محاولات التخريب، وإذا لم يكن قلب الفنان قادرًا على تجاوز تلك الضربات التي تريد أن تمرغ سماويته في الوحل فإنه سيسقط.

دمعة العمر كانت قريبة، لقد امتلأ المغني بالحزن حتى فاض. لكنه كان مغمورًا بالحب أيضاً حتى فاض بالأغنيات.

 

٣. “مسافر لي م المسا غطى جناحه والألم ما طاع ينزاح”

عند الدوار الرابع في عمّان التسعينيات، كما أذكر، أوقفتنا أنا وحمود البلوشي وهو زميل سكن من السويق، دورية الشرطة الأردنية لتجاوز السرعة، حاول زميلي وكان هو السائق أن يشرح لهم أننا نسرع للحاق بالطائرة المغادرة إلى مسقط لأني مسافر، “عمانيين هاه؟” قال متسائلاً الضابط المسؤول، وأردف: “طيب بسامحكو إذا عندكو شريط سالم علي سعيد”. يا للمفاجأة، الأغنية ستساعدنا. كان عندي شريط جلسة صباح الخير الذي كان جديدًا أيامها، وأعطيناه للشرطي، هل ترددت للحفاظ على الشريط حينها؟ لا أذكر؛ لكني أذكر أن الأغنية يومها تدخلت لتساعدنا.

 

٤. “أبات الليل أناجي طيف من أهوى”

صمد المغني وحده مع أغنيته، وسط ضعف البيئة الفنية، ولا شك أنه تعرض للهجوم والعداء المباشر، في زمن التطرف والمد الديني، شاهد أغنيته تغرق وتدفن في عصر السيول الإعلامية الخارجية التي تعيد وتكرر أغنيات المغنين المكرسين في بلدانهم، سقطت أغنيته وسط التنافس الغنائي العربي الشرس، والإهمال الداخلي، ذلك الذي تحمس للمغني لحظة ثم فتر، ثم لم يعد مكترثاً للمغني والمغنين عموماً إلا حين يحل موعد العيد الوطني.

لم تعد قضية الفن قضية أحد غير الفنان نفسه، وكيف للفنان أن يصنع؟ هل يوافق على المغامرات الصغيرة والمقاولات التي بصورتها البائسة كانت تحاول أن تتسلق على ظهره العملاق مثيرة التراب من حوله.

 

٥. “عش سعيد لا تبعد بعيد”

 

الأغنية امتداد الحلم، لها تأثير الحلم الساحر على الواقع، سالم ذلك الصبي الصغير الذي ولد في الإبراهيمية في صلالة في منزل خاله، تبع حلمه وذاب فيه، ظل يغني بلا توقف. من طفولته إلى آخر عام من حياته.

يفتح المغني قلبه كاملاً ولا يدخر شيئاً، يسند صوته بكل ما يملك، يخلص للأغنية.

ما الأغنية؟ حلمٌ يضع أول أقدامه في الواقع؟ ما الأغنية؟ مولد سماء جديدة؟ أفقٌ مسموع؟ هي روح المغني وقد تجسدت في الصوت. بين كلام الشاعر، ودم الملحن، وإيقاع قلب العازف، كلهم حراس، وحياتهم هي الأغنية.

لكن الأغنية ليست مضمونة على الدوام، إنها لحظة اجتهاد متصلة وإخلاص لا يتوقف. الأغنية ساحرة لا توافق على الرضوخ دائمًا، ليست كل الأغاني ناجحة. ولا كل أغنية يكون صوتها قوياً وساحراً للقلوب، وحدها الأغاني التي تلمس الأفئدة هي التي تبقى.

 

أعطته ظفار مزمارًا من مزاميرها، هو الذي شاهد معجزة السحاب في المغسيل وسمعها. كانت الغيوم تنهمر بالموسيقى في صدره، حتى صارت الموسيقى والأغنية في دمه، يتنفسهما كالهواء ويشربهما كالماء.

كانت الألحان تولد قبل الأغنية، تقوده الموسيقى إلى الأغنية، والأغنية تكبر بين يديه: “أضعت فيك أيامي وأحلامي ولم ألقى جواب”.

 

٦. “يراودني كذا مرة”

الأغنية تذهب أبعد مما يمكن للراصد أن يرصد، إنها تسلك طريقًا سريًا، هكذا كانت أغاني سالم علي سعيد تتجاوب أصداؤها من كل مكان من العالم. صوت المغني الصادق لا يضل طريقه، ها هو المغني الذي أنفق عمره في أغنيته وموسيقاه. سبك الهواء ألحاناً وأغنيات. أخلص جهده كي لا يخذل الصبي الصغير الذي كان يغني مع أخيه سعيد في أزقة صلاله، كي لا يخذل الغلام الذي كان يغني في مدرسة الشارقة العسكرية، وهكذا أول ما بلغ الحلم انطلق يؤلف الأغاني في معسكر فرقة صلاح الدين التي التحق بها مستثمراً أول شاعر يجده أمامه (مسلم عساس) لينطلق نحو الإذاعة ويسجل، في الإذاعة تجاوز كل العقبات فلا شيء يقف أمام رغبة الفنان. أي جبل يستطيع أن يعترض طريق هذه الإرادة الصاعدة؟

الفن وحي ورسالة تمتلك كيان الفنان، ليس الفن اختيارًا بل قدرًا.

 

٧. “لي مطلب إذا تسمح”

 

تميزت تجربة سالم علي سعيد الغنائية بالانتقائية الدقيقة التي تعكس حساسية فنية عالية وذائقة رفيعة تمتح من بيئة غنائية ثرية تحتضنها المحافظة الجنوبية، تجري في أنساغ ظفار وتعكس جزءًا من محيطها الجنوبي اليمني والحضرمي. وهكذا قدمت ظفار عددًا كبيرًا من المغنين الشعبيين بحيث تكاد لا تباريها أي محافظة عمانية أخرى.

استطاعت ذائقة سالم بن علي سعيد التي ترعرت في مناخ فني صحي تقديم روائع غنائية ما زالت حية في الذاكرة ولا تمحي بسهولة، وكلما غاص المرء في تراثه الغنائي يكتشف المزيد من الأغنيات الحقيقية التي تنعش القلب. أعاد تقديم التراث الجنوبي في عدد من أغانيه؛ إذ غنى أعمال الراحل جمعان ديوان كما فعل في أغنية (صولي).

لكن للأسف الشديد لن يجد المرء في هذا العالم الرقمي كل أعمال أفضل مغن عماني معاصر.

تعاون المغني مع عدد كبير من الشعراء خاصة من الجنوبية ومن خارجها، ومن عدة أجيال متعاقبة، ولعل التعاون التأسيسي الأوضح كان مع سالم ناصر الحبشي وعلي عبدالله الصومالي، لكن التعاون الأبلغ تأثيرًا، الذي خلق الفترة الذهبية لأغاني سالم علي سعيد في الثمانينات تحديدًا كان تعاونه مع الشاعر الراحل عوض بخيت العمري؛ إذ استمعنا إلى ألبومات مثل لك يوم. وعش سعيد. تلك الألبومات الأخاذة، نقاوة صوت وتوزيع، حتى إن عددًا من مقدماتها الموسيقية البارعة ما زالت تبث وتستخدم في الإذاعات والتلفزيونات العربية المختلفة إلى يومنا هذا. ومن لا يتذكر مثلاً تلك المقدمة الرائعة التي يتناغم فيها عود أحمد فتحي مع الكمنجات، في أغنية مسافر، وهي من كلمات علي الصومالي وألحان خالد بن حمد. ثلاثون أغنية تقريباً كانت نتيجة ذلك التعاون، هي القمم الأبرز التي بقيت من مسيرة الفنان سالم علي سعيد.

في ٢٠/ ٣/ ١٩٩٠م توفي شاباً الشاعر عوض العمري في عمر الثامنة والعشرين، ما شكل صدمة كبيرة لظفار كلها، وكانت الهزة الأكبر في محيطه، وبالأخص لفناننا الرهيف الحس. هكذا بعد فترة الثمانينات الذهبية خبا نجم الفنان، كأنما انكسر شيء في داخله، لم تبلغ الأغاني تلك الروعة نفسها، بقيت الأغاني الكبيرة ماكثة بعيدًا والمغني يبتعد. يحاول مقاومة التيار وهو يأخذه بعيداً. لقد كانت علاقة سالم بن علي بالشاعر عوض بخيت قمة حقيقية في تجربة الفنان، ولقرب الشاعر من العائلة السلطانية، ودراسته في أكسفورد أيامها استطاع أن يذلل الكثير من الصعاب أمام الفنان، وأن يرعاه فنيًا من ناحية الذائقة والثقافة والروح العصرية، وماديًا بالطبع حتى إن تسجيلات الفنان تلك الفترة كانت بين القاهرة ولندن، وبعد وفاة الشاعر جاءت معظم الأغاني اللاحقة أكثر خفوتًا من ذلك الصدى الكبير. أضعف من الصوت العالي الذي تحقق في تلك القمم الجبلية الشاهقة، والخالدة له.

بقيت أغلب الأغاني الكبيرة هناك في الماضي: عش سعيد، أبات الليل، سلامي يا رسولي أو أنا باعاتبك، ونامي ياعين نامي، صافي ودادك، يا ناس يا أهل الهوى، وهي الأغاني التي كانت الأكثر شهرة وقوة وانتشارًا من مجمل الأغاني.

 

٨. “ذا مستحيل يقسى عليّه خل في طبعه أصيل”

 

إحدى سمات تقاليد الغناء الشعبي الظفاري الخاصة، هي سرعة الأداء، وتلك صعوبة تواجه كل من يتصدى لإتقان هذا الفن، الكلمات سريعة، لا مجال للتأخير. حتى إن عددًا من الكلمات تفوت السامع لا يدرك ما هي بالضبط؛ أما المغني فليس له عذر، عليه أن يغني بالسرعة المطلوبة كي لا يفسد انطلاقة اللحن السريعة. ونستطيع أن نشعر بأن ذلك غلب على تجربة سالم علي سعيد؛ حيث لا مجال للتباطؤ، خاصة في الأغاني الشعبية. وتلك الخاصية طغت على معظم المغنين الجنوبيين، ونستطيع أن نستشفها بوضوح، وهي تمثل تقليداً عربياً خالصاً نرى نظائره في الكثير من الفنون الشعبية.

فمثلما كان سالم بن علي فناناً تجاوز حدود الوطن وسماواته إلى الأفق العربي الكبير؛ لكنه ظل متشبثاً بإخلاص بتلك الجذور الشعبية التي استقى منها فنه وإبداعه، وهذا ما يمكن ملاحظته في الاستماع إلى الأغنية المشتركة الملأى بالحنين بينه وبين سالم محاد (عودة الماضي: على الله عودة الماضي) وكذلك مع أغنية أنا باعاتبك أو سلامي؛ مع أن التمييز الرئيس بينه وبين بقية المغنين الجنوبيين هو أنه أعطى فرصة للهدوء في روائعه، وذلك كان التمييز الأسلوبي، أما أساساً فهو ذلك الصوت الجميل الغارق في الشجن، الذي يهيأ لك أنه حزين، من كثرة ما امتلأ بالشجن.

مليء بالشجن، تنسكب الدموع من أغنية “نامي ياعين”، لأن العين المغنية سافرت للغيب.

“سلامي يا رسولي إلى حبيبي وقل له الوعد دين ما عدل ينسيه”

 

رحل سالم بن علي.. والقلب شله.

أدب الحادي والتسعون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد