سفينة نوح وأسطورة السامية

طبعاً لم يعد خافياً على الكثير من الباحثين أن هذا التصوير لسفينة نوح عليه السلام إنما هو تصوير توراتي وجد صداه في هذه المرويات (=انظر سفرالتكوين من العهد القديم)، في حين أن القرآن تحدث بمنطق مغاير وبلغة مختلفة عما تحدثت به أسفار العهد القديم عند اليهود وروايات كتب التفسير، لكن المشكلة أن آيات القرآن في شأن سفينة نوح قرئت تحت ضغط هذه المرويات، فكانت النتيجة أن قُدم النص القرآني في ثوب توراتي.

noah arch

سفينة نوح وأسطورة السامية

خالد بن مبارك الوهيبي

(1) سفينة نوح

صورت لنا كتب التفسير سفينة نوح عليه السلام أنها سفينة غير معتادة ضمت في ثناياها أثناء الطوفان كل الكائنات الحية، ورويت في الشأن مرويات كثيرة حفلت بها كتب التفسير، من ذلك مثلاً:

(أخرج ابن أبي حاتم عن مسلم بن يسار قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه من كل زوجين اثنين ومعه ملك، فجعل يقبض زوجاً زوجاً وبقي العنب، فجاء إبليس فقال: هذا كله لي.

وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما حمل نوح عليه السلام الأسد في السفينة قال: يا رب إنه يسألني الطعام من أين أطعمه؟ قال: إني سوف أعقله عن الطعام. فسلط الله عليه الحمى، فكان نوح عليه السلام يأتيه بالكبش فيقول: ادر يا كل فيقول الأسد: آه.

وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر وابن النجار في تاريخهما عن مجاهد قال: مر نوح عليه السلام بالأسد وهو في السفينة، فضربه برجله فخمشه الأسد فبات ساهراً، فبكى نوح من ذلك، فأوحي إليه إنك ظلمته وإني لا أحب الظلم.

وأخرج ابن عدي وابن عساكر من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً مر نوح بأسد رابض فضربه برجله، فرفع الأسد رأسه فخمش ساقه، فلم يبت ليلته مما جعلت تضرب عليه وهو يقول: يا رب كلبك عقرني. فأوحى الله إليه أن الله لا يرضى الظلم أنت بدأته.

وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن زيد بن ثابت قال: استصعبت على نوح الماعزة أن تدخل السفينة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر ذنبها فصار معقوقاً وبدا حياها، ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها.

وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه من كل زوجين اثنين، فحمل معه من اليمن العجوة واللوز.

وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: لما أمر نوح عليه السلام أن يحمل من كل زوجين اثنين قال: كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب؟ وكيف أصنع بالحمام والهر؟ قال: من ألقى بينهما العداوة؟ قال: أنت يا رب. قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون.

وأخرج ابن عساكر عن خالد قال: لما حمل نوح في السفينة ما حمل، جاءت العقرب تحجل قالت: يا نبي الله أدخلني معك. قال: لا، أنت تلدغين الناس وتؤذينهم قال: لا أحملني معك، فلك علي أن لا ألدغ من يصلي عليك الليلة.

وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من قال حين يمسي: صلى الله على نوح وعلى نوح السلام لم تلدغه عقرب تلك الليلة”.

وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر في مكايد الشيطان عن أبي العالية قال: لما رست السفينة سفينة نوح عليه السلام إذا هو بإبليس على كوتل السفينة…! فقال له نوح عليه السلام: ويلك قد غرق أهل الأرض من أجلك.؟! قال له إبليس: فما أصنع؟ قال: تتوب. قال: فسل ربك هل لي من توبة؟ فدعا نوح ربه، فأوحى إليه أن توبته أن يسجد لقبر آدم. قال: قد جعلت لك توبة قال: وما هي؟ قال: تسجد لقبر آدم. قال: تركته حيا وأسجد له ميتا؟!.

وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحاً عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم قال: هذا لي. وقال: هذا لي. فاصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها.

وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن علي مرفوعا أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر.

وأخرج إسحق بن بشر أخبرنا رجل من أهل العلم أن نوحاً عليه السلام حمل في السفينة من الهدهد زوجين، وجعل أم الهدهد فضلا على زوجين فماتت في السفينة قبل أن تظهر الأرض، فحملها الهدهد فطاف بها الدنيا ليصيب لها مكانا ليدفنها فيه، فلم يجد طينا ولا ترابا، فرحمه ربه، فحفر لها في قفاه قبراً فدفنها فيه، فذلك الريش الناتئ في قفا الهدهد موضع القبر، فذلك ثناء أقفية الهداهد) اهـ  مختصراً من: السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور.

طبعاً لم يعد خافياً على الكثير من الباحثين أن هذا التصوير لسفينة نوح عليه السلام إنما هو تصوير توراتي وجد صداه في هذه المرويات (=انظر سفرالتكوين من العهد القديم)، في حين أن القرآن تحدث بمنطق مغاير وبلغة مختلفة عما تحدثت به أسفار العهد القديم عند اليهود وروايات كتب التفسير، لكن المشكلة أن آيات القرآن في شأن سفينة نوح قرئت تحت ضغط هذه المرويات، فكانت النتيجة أن قُدم النص القرآني في ثوب توراتي.

نأتي لقراءة الآيات الواردة في شأن السفينة والطوفان وفق نظرية تكامل عنصري اللغة والسير في الأرض والنظر:

– فيما يخص السفينة ومادتها، يقول تعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) القمر: ١٣ والدُسر هي المسامير، فالقرآن يتحدث عن كونها سفينة عادية من ألواح ومسامير.

وكذلك فإن قوم نوح لما رأوه يصنعها سخروا منه (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) هود: ٣٨، ولعل سبب سخريتهم مرجعه إلى كون منطقتهم ليس بها بحر، لكن الشاهد في الموضوع أنها لم تشكل لهم ذلك الإبهار، بل جعلتهم يسخرون منه، فهي بهذه المقاييس سفينة عادية مثل بقية السفن في ذلك العصر، فمن أين لسفينة هذا حالها أن تحمل كل هذه الكائنات التي تحتاج لعشرات الآلاف السفن من حجم سفينة نوح.

إذن نخلص من كل ذلك السفينة من حيث مادتها وبنائها سفينة معتادة، ولم يتحدث عنها القرآن إلا بهذا الاعتبار.

– ركاب السفينة: سفينة نوح عليه السلام ضمت بين جنباتها: نوحاً وأهله ومن معه من المؤمنين وما يحتاج إليه من كل زوجين اثنين:

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) هود: ٤٠

وهنا بيت القصيد، فالعهد القديم وكتب التفسير صورت سفينة نوح عليه السلام على أنها سفينة ضمت كل الكائنات الحية من كل زوجين اثنين، لكن دعونا نقرأ النص القرآني بعيداً عن ضغط العهد القديم وإيحاءاته، وذلك بفهم للغة القرآن والسير في الأرض والنظر:

أولاً: هم افترضوا ابتداء أن الطوفان قد عم الأرض جميعاً لذا افترضوا انتهاء أن نوحاً عليه السلام حمل في سفينته جميع الكائنات الحية من كل زوجين اثنين، وهذا ما لا تؤيده لغة القرآن ولا السير في الأرض والنظر، فالقرآن الكريم يتحدث عن دعوة نوح باعتبارها دعوة موجهة لقوم معينين (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) نوح:1 وهؤلاء الذين كذبوا نوحاً صلوات الله وسلامه عليه هم الذين أغرقهم الله في الطوفان (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) الأنبياء: ٧٦ – ٧٧، فلا يوجد في القرآن ما يؤيد أن الطوفان عم الأرض جميعاً حتى يقوم نوح عليه السلام بحمل جميع الكائنات الحية في سفينته تجنباً لغرقها وانقراضها.

وكذلك فإن التاريخ القديم الذي دونته مختلف الشعوب والأمم لا يتحدث عن طوفان عم الأرض جميعاً، وذلك لأنهم لم يعرفوه ولم يحصل في بلدانهم، أما الثقافات التي حصل بمناطقها أو قريباً منها فقد تحدثت عنه، فلا غريب أن تجد صداه في العهد القديم وأسطورة جلجمايش في بلاد بابل.

ثانياً: أن أمر نوح عليه السلام بحمل من كل زوجين اثنين جاءه بعد الإرهاصات الأولى للطوفان وذلك بعد فوران التنور وهي البراكين  (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) هود: ٤٠، فالوقت المتبقي لا يكفي سوى لحمل الأهل والمؤمنين وما يحتاجه من كل زوجين اثنين، وطبعاً التفسير المفترض الذي يعترض به على لغة القرآن والسير في الأرض والنظر هو أن الله تعالى على كل شيء قدير، لكن يجاب عليه بأنه لا اعتراض على قدرة الله التي لا يحدها حد، لكننا أمام سياق تاريخي علينا فهمه وفق ما نعرفه من أساليب اللغة والسير في الأرض والنظر دون افتراضات لم يتحدث عنها القرآن.

ثالثاً: أنهم عولوا على العموم في اللغة للقول إن نوحاً قد حمل في سفينته كل الكائنات الحية من كل زوجين اثنين (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) هود: ٤٠ أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع، وهذا التفسير وإن عول على ألفاظ العموم في اللغة، إلا أنه أهمل السير في الأرض والنظر، فقد ذكرنا فيما سبق أن أمر نوح بحمل من كل زوجين اثنين جاء قبيل الطوفان، فلم يكن هناك متسع من الوقت لحمل من كل زوجين اثنين، وهذا الجمع لكل هذه الكائنات في العالم مما تفنى الأعمار قبل تمامه؛ فكيف يتأتى حصوله في هذه المدة القصيرة، أضف إلى ذلك طبيعة السفينة التي ذكر القرآن أنها سفينة عادية بمعايير تلك الحقبة، فمن أين لها أن تتسع لكل هذه الكائنات؟!.

رابعاً: وعليه فإن التفسير الذي أراه لقوله تعالى (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) هود:40 هو حمل من كل زوجين اثنين من الأشياء التي يحتاجها في رحلته، وهذا ليس مستغرباً في لغة القرآن، فقد عبر القرآن بقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) الأحقاف:25  أي أنها دمرت كل شيء أُمرت بتدميره ولم تدمر كل شيء في الأرض.

أما قوله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) العنكبوت: ١٥ فيحتمل وجهان:

– إما أن المقصود بالآية هي السفينة

– أو أن المقصود بالآية هي الحادثة ذاتها، أي حادثة إنجاء نوح ومن معه من الطوفان.

وعلى الوجه الأول: وهو أن المقصود بالآية هي السفينة ذاتها، والآية كما يُعلم من لغة القرآن تشمل المعتادة منها وغير المعتادة، فخلق عيسى من غير أب آية (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء: ٩١، وكذلك بديع خلق الله في الكون آية (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) يوسف: ١٠٥

وعلى الوجه الثاني:  وهو أن المقصود بالآية هي مجمل حادثة إنجاء نوح عليه السلام بواسطة السفينة، فالسفينة في ذاتها هي ألواح ودُسُر، لكن إنجاء نوح من ذلك الطوفان الرهيب هو الآية، فالضمير في (وجعلناها) يعود على مجمل الحادثة لا السفينة وحدها، قال ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج20 ص222: (ويجوز أن يكون ضمير النصب في “وجعلناها” عائداً إلى الخبر المذكور بتأويل القصة أو الحادثة)، وهذا الوجه هو الأقرب إلى الصواب([1]).

(2) أسطورة السامية:

من الأساطير التي روجت لها توراة الكهنة وروج لها لقرون طويلة أن البشرية قد فنت في الطوفان الذي افترضوا أنه عم الأرض جميعاً، ونشأت الأجناس البشرية الجديدة بعد الطوفان من أبناء نوح عليه السلام وهم:  سام وحام ويافث، جاء في العهد القديم (وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث.وحام هو أبو كنعان. هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح.ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض) سفر التكوين: (9/17-19)

(وهذه مواليد بني نوح.سام وحام ويافث.وولد لهم بنون بعد الطوفان.

بنو يافث جومر وماجوج وماداي وياوان وتوبال وماشك وتيراس.

وبنو جومر اشكناز وريفاث وتوجرمة.

وبنو ياوان أليشة وترشيش وكتّيم ودودانيم.

من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيهم كل إنسان كلسانه حسب قبائلهم بأممهم وبنو حام كوش ومصرايم وفوط وكنعان) سفر التكوين:(10/1-6)

والمؤسف حقاً أن المفسرين والمؤرخين المسلمين قد تبنوا أسطورة السامية بحذافيرها، مع أنها من صميم التراث الكهنوتي اليهودي الذي رفضه القرآن جملة وتفصيلاً؛ وجاء القرآن بالبيان الشافي وحوى التراث السليم والصحيح للأنبياء عليهم السلام، وقرر أن ما دونه الكهنة مثَّل التزوير والتحريف لشرع الله وأخبار الأنبياء (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة:79 (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:78) ومرد الرفض لأسطورة التقيسم السامي والحامي واليافثي للأمم هو:

– كما ذكرنا قبل أن افتراضهم بعموم الطوفان الأرض جميعاً أدى بهم إلى القول بأن الطوفان أفنى البشرية إلا من نوح وأبنائه، وهذا ما لا تؤيده لغة القرآن ولا السير في الأرض والنظر، فالقرآن الكريم يتحدث عن دعوة نوح باعتبارها دعوة موجهة لقوم معينين (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) نوح:1 وهؤلاء الذين كذبوا نوحاً صلوات الله وسلامه عليه هم الذين أغرقهم الله في الطوفان (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) الأنبياء: ٧٦ – ٧٧، فلا يوجد في القرآن ما يؤيد أن الطوفان عم الأرض جميعاً وأن البشرية قد فنت إلا ممن كان في السفينة .

وكذلك فإن التاريخ القديم الذي دونته مختلف الشعوب والأمم لا يتحدث عن طوفان عم الأرض جميعاً، وذلك لأنهم لم يعرفوه ولم يحصل في بلدانهم، أما الثقافات التي حصل بمناطقها أو قريباً منها فقد تحدثت عنه، فلا غريب أن تجد صداه في العهد القديم وأسطورة جلجمايش في بلاد بابل.

– أيضاً الذي يكذب هذه الأسطورة التوراتية أن القرآن يقص علينا أن السفينة كانت تضم مع نوح وأهله من آمن معه، وعلى التسليم جدلاً بما تقوله توراة الكهنة فمن بقوا بعد الطوفان لم يكونوا من أبناء نوح وحدهم، بل من آمن برسالة نوح (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) هود: ٤٠.

–  وأيضاً فإن المخاطبين من خلال سياق قوله تعالى: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) الإسراء:2-3  هم مشركو العرب وبنو إسرائيل في جزيرة العرب، أي (يا ذرية من حملنا مع نوح) ، وهؤلاء ينحدرون كما يشير القرآن من ذرية ممن حُمِلوا مع نوح في الفُلك، ومن حُمِلوا في الفلك هم من آمن مع نوح، مما يكشف عن أن الطوفان كانت له بقعة جغرافية معينة غطاها وهي بقعة في جزيرة العرب، وأن من ذرية من حُمِلوا مع نوح أناس من العرب بمن فيهم قبيلة بني إسرائيل([2]) التي عاشت في جزيرة العرب.

=====================================================


[1] ومن الجدير بالذكر أن من أوائل من طرح اطروحات مغايرة للطرح التوراتي حول سفينة نوح: خميس بن راشد العدوي في سلسلة دروس (قصص الأنبياء) قبل أكثر من عشر سنوات من الآن، وجمعية التجديد البحرينية في كتاب (طوفان نوح بين الحقيقة والأوهام).

[2] بنو إسرائيل هم أولاد يعقوب، وقد سكنوا الجزيرة العربية، فيعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم –عليهم السلام-، وكلهم عاشوا في الجزيرة العربية كما قص علينا القرآن، وعلينا التفريق بشكل حاسم بين بني إسرائيل-وهي قبيلة عربية- ومن يعتنق الديانة اليهودية التي نشأت بعد فترة من الزمن من بعثة موسى عليه السلام، وقد ذابت قبيلة بني إسرائيل ولم يعد لها كيان يذكر، وبقي معتنقو الديانة اليهودية من شتى الأجناس البشرية ممن يحاولون اجترار تراث قبيلة بني إسرائيل، وآخر هذه المحاولات ما قامت به وتقوم به العصابات اليهودية الأوروبية والأمريكية  التي تحتل أرض فلسطين العربية والإسلامية؛ من استثمار تاريخ وتراث قبيلة بني إسرائيل في تبرير الاحتلال والاغتصاب للأرض العربية الإسلامية.

العدد الرابع ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي