شهاب فنيٌّ خاطف

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

هل انتصر المرض على الفن؟

قراءة في بعض أعمال الفنانة الراحلة ريا الرواحي

 

                                    “الفن عندي هو ما يجعل المرء واعياً ومتفرداً، عملي في الفن طرح الأسئلة والبحث عن معنى، إنها عملية متواصلة للحصول على إجابات، للعثور على الغاية الشخصية التي تجعلنا إنسانيين

ريا الرواحي

١٩٨٧-٢٠١٧م

 

١. معجزة الفنان:

ولادة الفنان في أي مكان معجزة، معجزة ولادة ثانية إضافة للولادة البيولوجية الأولى، الطبيعية، على الفنان أن يلد نفسه بنفسه، لكنها معجزة لا تجذب عموم الجماهير، إنها معجزة خاصة وصغيرة وقد تبدو عادية، لكنها استثنائية في عين العارفين.

إن القوة الإستثنائية التي يحملها الفنان في روحه، والتي بوجودها يستطيع الإحاطة بالوجود والعالم وإعادة إنتاجها في فنه، هي ينبوع المعجزة الدفاق والذي يسكب نفسه بسخاء في عمل الفنان.

هكذا رحلت في ١٥ ديسمبر ٢٠١٧م عن عالمنا فنانة شابة صغيرة السن، والتجربة بطبيعة الحال، مواليد ١٩٨٧م، رحلت في عامها الثلاثين، نفس العام الذي يرحل فيه المبدعون العظام، فالزمن البخيل لا يسمح لهم بوقت أكثر، لكنهم في ذلك الوقت الضيق، من عمرهم الصغير والخاطف، في تلك البرهة التي يهدر الآخرون أضعافها المضاعفة بلا أثر، يستطيعون رفع علامتهم الفنية وإبقائها، مثلما فعلت ريا الرواحي.

 

٢. هل انتصر المرض على الفن؟

في صالة ستال للفنون كنت أقف أمام عمل الفنانة ريا الرواحي (حياة وجود وموت) ويلمسني بذلك العمق الأخاذ، ذلك لم يكن صدفة.

عدت بعدها للبحث عن أي معلومات إضافية عن الفنانة لكني نسيت أنني كتبت عن ذلك المعرض، (مكان الصمت) حتى ذكرني رفيقي يومها عصام المعمري، حين بلغنا نبأ وفاتها فتذكرت.

 

 

ياللذاكرة..

كان العمل عن مرض السرطان، وقتها ظننت أن العمل مبني على تجربة عاشتها الفنانة لإصابة أحد أقربائها بالسرطان، لم أكن أدرك، لم يدر بخلدي أيضاً، أنها هي المصابة بالسرطان، كان عمرها أصغر من ذلك، ونسيت أن السرطان لا يضع اعتباراً لصغر السن.

هل انتصر السرطان على الفنان؟

في عملها الفني ذلك كانت ريا الرواحي بتجهيزها وصورها والصوتيات المرافقة للعمل تضع المتلقي في صلب تجربة الإصابة بالسرطان، صور للشعر المحلوق، الكمامات الطبية، حوامل السقّايات المنتصبة في قاعة العرض أمام الصور، سماعيات تلاوة القرآن، وصفارات أجهزة القياس الرتيبة، كل ذلك التماس كان يأخذ المتلقي أعمق في تجربة مرض السرطان، يصدمه به، يولد أسئلته الكبرى التي تسعى إليها الفنانة عن الحياة والوجود والموت. لا زلت اليوم بعد مرور الأعوام أكتب كأني أقف أمام العمل. هذا بقاء حقيقي، الفنان الذي يمكنه أن يحول مرضه الشخصي إلى عمل فني ليس فناناً عابراً، احتوت ريا مرض السرطان وقدمته للجمهور، قد تفتك الخلايا السرطانية بجسد الفنان البيولوجي، لكنها تعجز عن الفتك بجسده الثاني، جسد العمل الفني، هكذا يوثق الفنان انتصاره على السرطان، عبر تجسيده فنياً وتقديمه للناس.

 

٣. أعمال البساطة والعمق:

لم أتمكن من حضور كل أعمال الفنانة أو الإحاطة بها، لكني بقليل من البحث وجدت صفحتها التي تعرض فيها أعمالها https://www.behance.net/shng00ba أعمال قليلة تعكس الكثير، هناك يمكن للقارئ أن يتجول بين أعمالها وتصاميمها المختلفة، وتسكنه الأفكار الكبيرة التي كانت تحاول الفنانة مقاربتها بفنها.

 

 

في عملها موطن Habitat استثمرت ريا كلمات دلالية خاصة مثل فخر وغرور وهوية وانحياز وتقاليد وقيود، فجاء العمل ليسائل تلك المشاعر التي يبعثها الموطن والموئل الأساسي كانطلاقة للفرد وتأسيس، مدى تأثر الفرد بمحيطه الذي يولد فيه، تلك العوائق التي تحاول اعتراض الفرد وتجربته الوجودية. طرق التحكم الإجتماعي بوصفها تسيج تجربة الوجود، الفخر والغرور بالموطن، والتقاليد والقيود، والهوية والإنحياز. فالمعنى الذي يبحث عنه الفنان هو طريق الحرية الشائك، ذلك الذي تصبو إليه الروح التي تدرك وجودها وتعي قيمته.

 

 

التشكيك في الدين هو عملها الذي فاز بجائزة الفنانين الواعدين ٢٠١٥م بصالة ستال للفنون كان يتعرض لأحد العوامل الثقافية المهمة في التكوين الإجتماعي في عمان والعالم العربي والإسلامي بشكل تام، وتعامل الفرد مع أسئلته الداخلية، مع ضميره الباحث عن الحقيقة، عبر تجهيزات مختلفة في ثلاث مراحل هي التلقين والشك واليقين، حيث نجد الميكرفون الذي يبث موجات مقدسة، وتجهيزها للتصوير الإشعاعي للدين (XRAY)، عبر صور أشعة للكتاب المقدس واليد المرفوعة للدعاء، تصور مرحلة الشك، جاء العمل تسليطاً للضوء على العقيدة، باستخدام السؤال التشكيكي: (هل التفكير خطيئة؟ هل أنا مؤمن أم راضخ للتقليد؟ لماذا أتبعهم اتباعاً أعمى؟ ماذا إن كانوا مخطئين؟) هي رحلة تختصرها الفنانة بثلاثة كلمات (سألت، صليت، بحثت) إذ أن الإفتراض الأساسي هو أن الحقيقة لا تخاف من البحث والسؤال، بل هو الطريق إليها. والفنانة تعبر عنها بمقولة رائعة في المرحلة الثالثة من العمل وهي اليقين: (الحقيقة لا يمكن تقييدها، الحقيقة تصمد في وجه التدقيق، المعرفة هي الإيمان، التفكير هو البحث، الساعون للحقيقة هم من يبصرون النور. فهل فعلت؟)

في عمل بسيط وبأدوات بسيطة يسأل الفنان الأسئلة الكبيرة، يواجه زمناً ودهراً، يعيد تفكيكه وتعريته، ليس الفنان معنياً بتضخيم الذات، والنفخ في بالون الإنتماء، بل معنياً بالحقيقة لوجوده كإنسان، أو بالأحرى هو معنيٌ بسمو الإنسان، وذلك السمو لا يمكن بدون البحث عن الحقيقة والبناء عليها لا على الضلال، سؤال الدين المفصلي تواجهه الفنانة متسلحة بالفن وحده، لتضعه أمام الإختبار الشخصي، لتصل إلى الإجابة، التي لا تقفلها الفنانة في عملها بطريقة الأبيض والأسود الأيدولوجية والصواب  والخطأ، بل باليقين اللازم الذي هو الإيمان الحقيقي النابع من الداخل لا المعطى من الخارج.

 

 

في هاتف الهايكو تقترب الفنانة من الشعر وتختار الهايكو ببساطته ووضوحه أو كما تصفه الفنانة: (يختزل بمفرداته البسيطة والمستوحاة من الطبيعة أهم حالات الروح. القصائد هنا تحاول عكس ذوات الفنانين بدون مجاملة أو تملق.)

هكذا تختار موضوع قصائدها من الفنانين حولها، لكن لننتبه أكثر أن العمل كله يدور حول مسألة غاية في التعقيد، وتقارب الإستحالة، هي إدراك الروح وكتابتها. ما تريد الفنانة من عملها هو إخراج الإنسان من وجوده الفيزيائي إلى وجوده الروحي، وتريد أن تكتب عن ذلك الوجود وهو ما تتمثله بإضاءة الطيف البنفسجي، على سطح تنتشر فيه نقاط كتابية وتبرز مثلثات مظلمة، سوداء، تمثل في تركيبها شبحاً يابانياً خاطفاً.

كان العمل مغامرة محفوفة بالكثير من الصعوبات ما دام الإنسان لم يصل ليلقي ضوءاً بصيراً على روحه، تلك التي تمثل رابطه الوجودي الأكثر أهمية، ذلك الساكن الثمين داخل كل كائن حي. لم تخش ريا من ذلك كله وواصلت اتباع النداء وأخرجت لنا عملاً بارعاً آخر هو هاتف الهايكو.

 

 

في هندسة الأخلاق اشتغلت مرة أخرى على ثنائية مستقيم ومعوج، بين الإستقامة الخطية التي تمثل الإستقامة الأخلاقية وبين الإعوجاج حيث يطالعنا عمل عبارة عن كتابة متوالية لكلمتي مستقيم معوج على التوالي فيما يشبه السالب والموجب في التيار الكهربائي، أو في الرياضيات كأن الفعل الأخلاقي يقوم بالتصنيف البسيط للأفعال في سالب وموجب. ثم تخلص الفنانة عبر العودة إلى جملة مرجعية هي جملة الطبيعة المكونة من الاثنين من الخطي والمائل، باعتبارها هي الهندسة المثلى للأخلاق أي المناخ الثري للفعل الإنساني المناخ الخلاق الذي ليس خطياً مستقيماً فقط ولا مائلاً معوجاً فقط، بل هو مزيج متنوع من حركتين كالتنفس.

بين الأعمال المختلفة لريا الرواحي يمكننا أن نرى تقاطعات محددة مواد تعود إليها، الأرض المعشوشبة وأنابيب الإضاءة، الأرض والضوء، والأصوات، تلك الثلاثية المتزنة، كانت تميمتها الفنية وتعويذتها.

 

٤. أثر الفن ومكابدته:

بإبداعٍ مبهر تجاوزت أعمال ريا الرواحي الفنية ليس فقط جيلها أو الذي سبقه، بل حتى الأجيال المؤسسة من الفنانين وحاذتهم، وفي أحيان تقدمت على تجاربهم في الفن المفاهيمي، فبعد أن كان فنانونا فيما رأيناه من أعمال يجاهدون لإمساك موضوعاتهم أو ملامستها أو مقاربتها والموضوع يهرب نوعاً ما منهم، جاءت هي بفنها الذي يمسك فكرته بإحكام ويقبض موضوعه ويطرحه أرضاً في قاعة العرض ليتمكن الجمهور من تأمله، وكانت تفعل ذلك بمستوى يخرج من إطار المحلية الصغير الضيق إلى المستوى العالمي للفن المعاصر نفسه الذي نراه مثلاً في أعمال الفنانين الصينيين المشتهرين اليوم.

إن الفنان يجد نفسه في العمل ويدرك أنه سيعثر على المعنى هناك، في خضم عمله. وأن طريق الفن هو طريق الجمال. وهكذا تكون كل قطعة فنية هي لحظة مدهشة من الإكتشاف والبصيرة والإدراك.

الفنان يعرف أنه يملك الأداة والوسيلة التي يستطيع بها أن يقرب الحقيقة، مهما كانت تلك الأداة ريشة أو قلماً أو أي أداة أخرى، إن الفنان قادر على مقاربة الحقيقة وعلى محاولة المستحيل، لأنه معزز بقوة الفن.

الإبداع اشتعال يستهلك وقود المبدع الحيوي بإفراط وتبذير كي يوقده وينيره، هكذا يحرق المراحل الزمنية داخله بكل حب، يهَبُ روحه لفنه بكل عشق مضطرم، تراه رغم المرض وآلامه المبرحة واقف على عمله الفني، كلما شم عبير العافية نهض وشمر ليواصل العمل، يستغرقه الفن كلياً حتى تغدو بقية مناشط الحياة مجرد استراحات وتجهيز، لأن الفن استغرق كيانه ووجدانه.

لا وقت لدى الفنان دوماً، لأن عمله عظيم وهائل، والعمر الواحد أقصر من الوقت المطلوب لإنجاز أعمال فنية عن الوجود، لذلك يهرع الفنان دوماً ليمكنه إنجاز ما يستطيعه بأسرع وقت ممكن.

تحية الفنان هي محاولة فهم العالم وإفهامه للأخرين، إن شغف الفنانة ريا بالصوت كان محاولة للإنصات، لفهم وتقدير أصوات الحياة المختلفة، للإصغاء الصادق حتى للتشويش والغمغمة الغير مفهومة، من أجل إدراك أثرها وقوتها والمدى الكامل لبحر الأمواج الصوتية، وكان فنها تحليلاً حتى للأصوات، وإصغاءاً قلبياً وإعادة تجسيد فني لها، هذا الإلتفات الذي أولته لهذا الجزء من الحياة كان ثميناً ومبدعاً ويجرف الروح لتطير معه.

صورة الفنانة منكبة على عملها هو التعبير عن انكبابها بكل جوارحها ورهافتها ودقتها الروحية. حياة كاملة كانت تركع هناك في محراب الفن وتسجد، تلك هي التحية الحقيقية التي يؤديها الفنان لهذه الحياة وهذا الوجود. قبل رحيله.

أدب الثاني والتسعون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد