حارس العزلة وفلّاح الظلال

كتب بواسطة حمود سعود

عبدالله البلوشي حارس العزلة وفلّاح الظلال

 

” أتأمّلُ

في البقعة الأشبه بخارطة القلب

كيف أن قطرة الدّمِ

تُعمّدُ بهجة الكون

وأن الوردة طريقنا

إلى الأبديَّة.”

 

 

( يقف الشاعر إذن  في مواجهة الحقيقة، مشعّة في صفاء معتم، لا يذهب إلى ذلك إلا السائر في الطريق إلى المطلق، لأنه يحمل متاع الروح وجوهرها وصدقها وينطلق بحميمية خارج بهجة المعيشة وألقها)

سماء عيسى

 

(1)

من ظلال الأمكنة وهوامشها وجراحها ودمها وأشواكها، ومن جبال الشرق العماني وبحر قريات إلى ظلّ القصيدة والحرف والكلمة، يأتي صوت عبدالله البلوشي خفيفا ومكتنزا بالجمال وملتحما بالأرض وتفاصيلها الصغيرة وهوامشها، ويذهب عبدالله كذلك إلى قصائده وقرياته وقراه وعزلته واعتزاله الوجودي وحضوره الشعري، يتماهى مع زمنه الخاص ومنعزلا عن زمن الأشياء العابرة.

يمتزج بطين المعنى وبماء الموت وبرياح الجبال، ينبثق كنبع مائي من أقاصي الجبال، ويظلُّ هذا النبع يجري في تضاريس الكلام ومنحدرات الدهشة والزمن والتأملات، ولا يهتم إذا ما مرّ عليه رجل عابر وتذوّق قصائده أو حطَّ على ضفتيه طائر مهاجر نحو شرفات الفقد وأخذ يُغنّي قصائده أو نبتتْ عشبة وحيدة على ضفاف هذا النبع أو لم تنبت، أو ظل وحيدا يتدفق ويزهر بعزلته. عبدالله البلوشي في رحلته من ظل الأمكنة وتفاصيلها إلى حدائق الشعر، من طين الكلمة إلى ماء القصيدة ظلّ يزرع أشجار المعنى والمجاز والعزلة والطفولة والأمومة خلال هذه الرحلة الممتدة لأكثر من ثلاثين عاما. ثلاثون عاما قطع عبدالله الصباحات والمساءات والأفكار والحنين والعتمة والضوء من قريات إلى مسقط، قطع الدروب والمجاز والمعنى والقافية والعتمة وصوت الطائر والوهم  إلى القصيدة. سكنتْ روحه برزخ العزلة وشاكست وتماهت هذه الروح مع  المعري والحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي.

” في حين

تحملني الجذور

نحو طرقات بعيدة

فيسكنني هناك

هذيان طيورٍ يحرقها الشتاء”

 

في كلّ صباح من هذه الرحلة الممتدة من قريات إلى مسقط، يضع عبدالله رأسه على النافذة الزجاجية للحافلة لا ليتأمل الطريق والرحلة والزمن والرعاة وحفلة الأشجار في الخارج         ( خارج النافذة والرحلة) فقط؛ بل لينادي أرواح الجبال والأسلاف والعابرين والمرتحلين والراحلين الوردة، ولا لينصت إلى صوت الريح في الخارج فقط؛ بل ليبكي تعب صانع الزجاج. ولا ينتظر شروق شمس البلاد؛ بل يشرق وحده على عوالمه الصغيرة. في رحلته يسبر جوهر الأشياء يقترب من الأشجار والغدران والطيور والمقابر. يقرأ المنسي ويتأمل الهامشي من الأشياء والكائنات. قصائده  تطير إلى المطلق لتقرأ لنا سير المتصوفين والأولياء.

” وتلك الشجرة النائمة

على ظلالها المقدسة

هكذا أنا

مثل طائر منسي

لو صوّبت إليه مديةُ لبكى”

 

(2)

يمثل الشاعر العماني عبدالله البلوشي تجربة فريدة ومتفردة في المشهد الشعري العماني المُعاصر؛ إذ نحت تجربته الشعرية والكتابية بصمت وهدوء وصبر، هذا الصمت عميق وشفاف، وليس مصطنعا، بعيدًا عن الأضواء والضجيج وصفّ الكلمات وأبواب السلطة ونوافذها. نحت التجربة في المكان حيث الشرق العماني ( قريات) حيث يلتقي البحر بفضاءاته وكائناته ومكوناته الواسعة مع عوالم الجبال وما تمثله هذه الجبال من منبع ومعين للتجربة الشعرية. يذهب بعيدا في المكان يحفر ظلاله وأصوات الأسلاف وحكايات السحرة والقتلة والموتى والقراصنة والفراشات وحشرجات الدمع ورمزية الطائر والشجرة ودلالة البحر والميناء والنجمة الوحيدة، يتتبع الجذور ويتأملها، يشتم رائحة المطر والجفاف والينابيع التي هجرتها العصافير، يرسم المشهد بعين سينمائي ويكتب القصيدة بروح صوفيّ. يبني قصيدته من طين قريات وأشجارها. يجرّ قصائده إلى بحيرة الطفولة، طفولته المكتنزة بأصوات الرعاة والبحر والفلاحين، وربما ستجد قصائده ترقص في حفلات النيروز في (دغمر).

 

” يتراقص الظل

خلف فوهة النافذة

شجرة غُرستْ على حافة قبر

فأسقطت

روحها

على جدار عزلتي”.

 

إذا كنتَ تبحث عن تجربة شعرية “عمانية” أصيلة ومتأصلة بالصدق والشاعرية والدهشة، فتجربة عبدالله البلوشي الشعرية ( وكذلك النثرية) قادرة على جذبك إلى ما هو شفاف وجارح وبسيط وعميق. تجربة متدفقة متمهلة منحازة كليا إلى الجمال بكل تجلياته، وإلى ما هو إنساني وحميمي إلى النفس البشرية المتعطشة إلى الجمال والفن. بعيدة كل البعد عن المباشرة والخطابية. الومضات الشعرية التي يكتبها عبدالله البلوشي مكتنزة بالدلالات والعمق والأجواء الصوفية كالشجرة والطير والطريق والفجر.

” منذ أن تأملت ذلك البحر

يستوطن قلبي بين شغف وخوف

من أحدّث أولا؟

هل أحدّث البحر عن الشجرة؟

أم أحدث الشجرة عن البحر؟

كلاهما عميقان

كأغوار قلبي الأدق من قبضة طفل

يغفو بنعاس نقي “.

 

عبدالله المُتشبث بجذور الأرض ورائحتها البكر، وبرائحة بكارتها العذراء وبتفاصيل المكان كتشبث الجنين بالرحم، كتشبث الثمرة بالشجرة، كتشبث الينابيع بالجبال. حتى أصبح لا يفارق محبوبته قريات. ثلاثون عاما وهو يطلّ على حدائق الشعر والجمال متأملا ومتدبرا حركة الكون والنجوم والدروب حينا، ونابشا طين العزلة وصوت الريح أحيانا أخرى. لم يسقط في مستنقع الأضواء يوما، ولم يبحث عن ضوء الخديعة كذلك، بل أشعل نور قصيدته وروحه لتنير دروب الجمال والعزلة والفقد. درّب طيوره على الطيران في السموات الزرقاء الصافية، اعتنى بأشجاره في السفوح البعيدة.

ثلاثون عاما وهو يسند رأسه على النافذة ليغني للطريق من قريات إلى مسقط صامتا. لم تكن أغانيه تشبه أصواتا موسيقية، بل كانت صلوات صامتة أو تشبه تراتيل صوفية. ثلاثون عاما كان فيها كل يوم يتشبث بقرياته وبقرى الأقاصي والمقصية. ثلاثون عاما فتحتْ النوافذ أسرارها لروحه، أما الدورب التي قطعها فإنها امتدت إلى أقصى نقطة في الفقد. يتألم كطفل إذا سقط غصن من شجرة في قريات، يبكي إذا سقط جدار من أحد البيوت الطينية. ينتحب كمدينة منكوبة إذا تُركت الدروب وحيدة  من دون رحلة. يحرس قريات من القراصنة والسحرة بقصائده. وكأنه ميناء ينتظر كل صباح سفن الصيادين والعابرين. شامخا ووحيدا ومتوحدا بذاته يقف كقلعة (الصيرة).

” هكذا

كمثل برعم أنجبته الحياة وحيدا

ألقتني الأكوان على حافتها المائلة

بعدما كنت هاجعا في مهد صغير”.

 

(3)

ها هو منذ ثلاثين عاما يقف بالقرب من أشجاره الخمس، أو لنقل نجومه وينابيعه أو لنقل قصائده الخالدة. الأشجارُ الخمس يقفن وحيدات على طرف المقبرة، يحرسن دموع الأمهات والجدات. في الليالي المقمرة والمظلمة يجلس عبدالله البلوشي بالقرب من الأشجار الخمس ينتظر القتلة والموتى لا ليصرخ في وجوهم وقلوبهم بل ليحدق في دموع أمهات الموتى. وربما سيردد قصيدة حفظها في منتصف الثمانينيات لعروة بن الورد، أو لينصت لنشيد طفل ضل طريقه إلى الحياة.

في الصباح كان يقف بالقرب من الأشجار الخمس، في بِرْكة الماء التي تجمّعت في الطريق الترابي كان يتأمل حقيبته المدرسية، وانعكاس صورة الأشجار في البِركة المائية، في سطح البركة المائية تداخلتْ أصوات التلاميذ وأصوات العصافير، مرّتْ حافلة المدرسة على البركة المائية وداستْ العجلات على الأحلام. ومرّ قطار العمر ولكن الطفل ظل يقف بالقرب من أشجاره الخمس منصتا لها. وفيا لعزلتها الليلية، عندما تنام كائنات قريات يذهب عبدالله  البلوشي إلى أشجاره ونجومه وينابيعه ومقابره ليسبر ويعصر أصواتها ويسكبها في جذور وطين قصائده.

” من أودع فيَّ كل هذا اليتم

لكي أقتفي أثر امرأة عابرة

تضع إكليل الرّيحان

على شاهدة قبرٍ منسيّ”.

 

طفلا كان في قريات ( وطفلا سيظل في قلب قريات وطينها وذاكرتها وذكرياتها وزمنها العابر) عندما حاول السحرة خطف روحه، فكانت الأم هي حارسة روح طفلها، وطاردة السحرة. بعدها ظلّتْ روح الطفل تبحث عن دهشة الظلال وتنصت لهسهسة الشجرة ولصوت الريح وهي ترتب أغصان الشجرة. الأم التي عمّقت شلالات الفقد بداخل هذا الطفل/ الشاعر. ثيمة الأم حاضرة بقوة في تجربة عبدالله البلوشي وخاصة في ديوانه الأخير (طائر يتبتل على الضفة). وكذلك عمّق عبدالله  ثيمة الأم ووسعها وجعلها تشمل الشجرة والزهرة والأرض والنجمة والسماء.

” كانت هناك

في أعالي جبل الحب

كان يؤنسها الرعد

وهو يقصف شفة الكون

وكان الليل

قبلة لا تغتفر “.

الأم التي جعلت قصائد هذا الشاعر تنبت أشجارا وتراتيل طفولية. الأم التي ينصت لها عبدالله في أصوات الطيور والبحر وخرير الماء في الأفلاج، ظلتْ الأم ثيمة حاضرة بقوة في كتابات عبدالله البلوشي.

مثلما تحضر الأم والأشجار والعزلة كثيمات في نصوص عبدالله، الموت له حضوره الطاغي في نصوصه كذلك، الموت المتجذر في القصيدة والرؤيا والفكرة والأمكنة، الموت العاصف بكل مظاهر وقشور الحياة والمنبثق منها، لذا يذهب عبدالله بتجربته إلى شرفات الموت ونوافذه وسطوته فترجع القصيدة محمّلة بروائح الحياة وبتراب العزلة لتكون شجرة الطفولة أكثر اخضرارا.

” على يدي أحملُ الطّير

على كتفي أحملُ التّابوت

مُتعبُ جسدي

ومتعبة هذه الروح

حيث يضمها الليلُ

كحوصلة نورسٍ

يبحثُ عن عتمة مجهول”

 

يحمل عبدالله عشقه الأبديّ لقريات ( وللأمكنة بشكل عام)  لدرجة التطرف الجمالي، قريات الحاضرة بكل تجلياتها في تجربة عبدالله هل ستذكره وتتذكره في حياته القصيرة التي هي أقصر من وردة وأطول من أغنية، أم تنتظر الرحيل لترثيه؟

تجربة كتجربة عبدالله البلوشي غنية ومتنوعة وثرية بالدلالات، تبحث الأرواح النقية عنها لتنصت لها، تجربة هي الأقرب إلى الصوفية والتصوف وخاصة في كتابيه المصطلم، وفي دار أبي العلاء عزلة وكلمات، وكذلك في النصوص الأخرى.

 

 

” تفيض مياهك

أيها الليل

لتجرف ما تبقى

من رماد المدفأة”

أدب الثاني والتسعون

عن الكاتب

حمود سعود