هيرتا موللر: فن الخيال (١)

كتب بواسطة ثابت خميس

 

ولدت هيرتا موللر في السابع عشر من أغسطس ١٩٥٣ في مقاطعة نيتزكيدورف في رومانيا لعائلة من أصول ألمانية، وهي روائية وشاعرة وكاتبة مقالات. تتمحور معظم كتاباتها عن الوضع الإنساني تحت ربقة الخوف الذي تزرعه دكتاتورية الأنظمة الشمولية، وذلك من وحي تجربتها الشخصية في فترة حكم نيكولاس شاوشيسكو بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف تنكرت رومانيا من ماضيها النازي، وتحالفها مع ألمانيا بعد خسارتها الحرب لتتحول رومانيا إلى دولة اشتراكية تمارس القمع على الأقليات الألمانية، تكتب هيرتا موللر بالألمانية وعلاقتها مع اللغة علاقة خاصة تتضح من أسلوبها الكتابي الموجز، الذي – مع ذلك – يخلق أثرًا عميقاً في نفس القارئ، ترجمت أعمالها لأكثر من عشرين لغة من ضمنها العربية لأعمال مثل: إسقاطات، ما الإنسان سوى دراج كبير في هذه الدنيا، كان الثعلب يومها هو الصياد، الملك ينحني ليقتل (مقالات)، حيوان القلب، وآخرها أرجوحة النفس، الذي تزامن إصداره وترجمته إلى العربية – وصدر عن دار كلمةمع حصول الكاتبة على جائزة نوبل للآداب في عام ٢٠٠٩ ، في هذا الحوار المنشور في مجلة باريس ريفيو (خريف ٢٠١٤ ، العدد ٢١٠) الذي حاورها فيه مترجمها للإنجليزية فيليب بويم سنقترب أكثر من هيرتا موللر الكاتبة و المناضلة والإنسان.

 

 

هل كان الجميع في المنزل يتحدثون الألمانية ؟

 

في القرى الألمانية كانوا يتحدثون الألمانية، في القرى الهنجارية كانوا يتحدثون الهنجارية، في القرى الصربية كانوا يتحدثون الصربية، لم يكن الناس يختلطون ببعضهم — كل مجموعة لها لغتها وديانتها وعُطلاتها الخاصة، وطريقتها الخاصة في اللبس، حتى بين الألمان كانت اللهجات العامية تختلف من قرية إلى أخرى.

 

ماذا عن مدرستك ؟

 

في البداية عانيت من صعوبة كبيرة؛ لأن اللهجة العامية كانت مختلفة كليًا عن الألمانية الفصحى التي كانوا يدرسوننا إياها، لم نكن متأكدين إن كانت ألسنتنا تُهَرب ألفاظاً عامية لا يفترض بها أن تكون موجودة في كلامنا الفصيح، مع أنها غالباً ما بدت متشابهة، مثلاً كلمة “خُبز” هي نفسها في الحالتين ( بروت = Brot ) لكن الأمر لم يكن صحيحًا بالنسبة لي، كان يجب أن يكون نطقها مختلفًا بالفصحى؛ لذلك كنت أقول شيئاً مثل “خَبز ” (برات = Brat ) فقط لأنني كنت أظن أن هذا ما يجب أن تبدو عليه الكلمة بالفصحى؛ لذا فقد كانت النتيجة الشعور بعدم الأمان، لم أكن أؤمن أن أيًا من اللغتين كانت بالفعل تخصني، لطالما تملّكني شعورٌ أنهما تخصان أشخاصًا آخرين . كنت أشعر أن اللغة شيء قد اقترضته، وقد تعزز هذا الشعور عند كل منعطف حاد في حياتي، لأنهم لا يسمحون لك أن تنسى أنك من الأقلية، في كل استمارة أقوم بتعبئتها كان عليّ أن أذكر أنني من الأقلية الألمانية، مع ذلك فلم يطلق علينا اسم “أقلية” بشكل رسمي؛ بل ”جنسيات مصاحبة“ كما لو أنهم يَمنون علينا بالسماح لنا بالعيش مع الآخرين ، كما لو أن حقنا في الوجود في مكان ما كان موضع تساؤل، وبالطبع كان هذا غريبًا لاسيما أن أولئك الناس يسكنون ذلك المكان منذ ثلاثمائة سنة.

 

الأمر كما لو كنت ضيفة في وطنك.

 

حين كانوا يحققون معي، أفراد الشرطة السرية غالبًا ما كانوا يقولون ”لا تنسي أنك تأكلين خبزاً رومانياً“

وكنت أجيب “نعم ، هذا صحيح الآن ، لأن كل ما كان يملكه جدي سُلب منه؛ لكن في السابق كان لديه ما يكفي من الحبوب لصنع خبزٍ يكفي لـخمسين، ستين، سبعين سنة. وبما أنه سُلب كل هذا فمن الطبيعي اليوم بما أنني لا أملك خيارًا آخر سوى أن آكل خبزاً رومانياً”. و في كل مرة أقول هذا كانوا يستشيطون غضباً ويخبروني بأنني إن كنت لا أحب الشعب الروماني — كانوا دائماً يستخدمون كلمة ”شعب“ بدلاً من ”نظام حكم“ – فيجب علي اللجوء للغرب مع أصدقائي الفاشيين. دائماً ما كانوا يستخدمون مثل هذه التلميحات ولأسباب تتعلق بالسياسات الخارجية طبعاً، كانوا يقومون بتوجيه أصابع الاتهام للأقليات في أي وقت يحلو لهم، على الرغم من أن رومانيا في فترة حكم أنتونيسكو كانت حليفة لهتلر، والجيوش الرومانية حاربت مع الألمان في ستالينغراد. وهذا ما جعل الأمر غريباً بشكل استثنائي، وقد كانوا يعاملون الهنجاريين بالطريقة نفسها، متنصلين من تاريخهم المظلم، ليجعلوه حصرًا على الآخرين . وقد كانت تلك تجربة مريرة للأقليات؛ لأنهم كانوا على علم بحقيقة كيف جرت الأمور.

 

في مشاركتك في ندوة جائزة نوبل عن الأدب كشاهد، كتبت عن انتظارك لعبور القطارات.

لم يكن لدي ساعة، لذا كان علي انتظار القطار الرابع ليمر عَبر القرية، قبل أن أعود بالأبقار للمنزل، تكون الساعة حينها الثامنة — كان علي قضاء اليوم بطوله في الوادي كنت بحاجة لمراقبة الأبقار، لكن الأبقار لم تكن بحاجتي أبدًا ، كانت تمتلك حياتها اليومية، وتحدق في الأفق دون أدنى اهتمام بوجودي . كانت تعلم تماماً من تكون — لكن ماذا عني ؟ كنت أنظر مطولاً ليديّ وأقدامي وأتساءل عن ماهيتي. من أي مادة خُلقت ؟ من الواضح أنها مادة مختلفة عن مادة الأبقار والنباتات وكوني مختلفة، كان أمرًا صعبًا عليّ . كنت أنظر للنباتات والحيوانات وأقول لنفسي ”لديها حياة جيدة ، فهي تعرف كيف تعيش“ لهذا كنت أحاول الاقتراب منها، كنت أتحدث مع النباتات، كنت أتذوقها وأميز طعم كل واحدة منها. أكلت كل عشبة عثرت عليها ظنًا مني بأنني بمجرد تذوق النبتة؛ فإنني أقترب منها قليلاً، مما قد يحدث تغييرًا، كأن يتبدل لحمي، وجلدي لشيء أقرب للنباتات التي ستتقبلني. وبالتأكيد كان هذا نابعا من شعوري بالوحدة الذي تضاعف من المخاوف التي اعترتني أثناء الاعتناء بالأبقار، لهذا قمت بدراسة النباتات، كنت أقطف الزهور وأجمعها سويًا وأزوّجها ببعضها، أياً كان ما كنت أعرفه عن البشر كنت أظن أن النباتات تفعله أيضاً، كنت مقتنعة أن لها عيونًا وأنها تتحرك مساءً وأن شجرة الزيزفون القريبة من بيتنا زارت شجرة الزيزفون التي في القرية.

لقد كتبت عن اختراعك لأسماء جديدة للنباتات أيضا مثل الضلع المشوك وعنق الإبرة بدلاً من الحرشف البري.

لأنني لم أشعر أن النبتة كانت تستجيب عند مناداتها بالحرشف البري؛ لذا قمت بتجربة أسماء أخرى، تسمية النباتات أمرٌ معقد جدًا، أجمل الأسماء هي الأسماء الشعبية التي يستخدمها الفلاحون، الأسماء التي يطلقها الناس على النباتات تِبعاً لشكلها أو فائدتها. الأسماء العِلمية تبدو بعيدة جداً عنها. إنه أمر مُحزن؛ فقد ذهبت لمحل زهور في برلين وهم لا يعلمون أبسط أسماء النباتات، لديهم لافتات تحمل أسماءً كـ”عشبة الكولوروكيوم“ أو شيئاً آخر لا يدل على أي معنى، لكن النباتات التي أعرفها من الريف يطلق عليها أسماء رنانة مثل (القبس \ phlox = فلوكس) أو (أرجل الضفدع \ Froschgoscherl = فروش غاشرل) .

نحن نسميها القبس أيضاً، أما الثانية فتسمى أنف العجلبالإنجليزية لكنني ألاحظ أنها تسمى فم الضفدعبلهجتك.

أو ( لوفن مويشكن = Löwenmäulchen) بالألمانية .

 ”فم السبع“ — أو بالأحرى فم الشبل.. لكن متى بدأت بابتكار أسمائك الخاصة ؟

عندما ابتكرت أسمائي الخاصة كان الأمر محض محاولة للتقرب من النباتات؛ لأنها كانت تعلم كيف تعيش بينما أنا لا، و هي عقبة لم أستطع تجاوزها والأمر ينطبق كذلك على المناظر الطبيعية، لم أكن من محبي المناظر الطبيعية الشاسعة قط، كنت أكتفي بمشاهدتها فقط، لطالما تملكني ذلك الشعور بأنها شديدة الاتساع إلى حدٍ يجعلني أشعر بالضياع. أظن أن هناك طريقتين للتفاعل مع المناظر الطبيعية؛ فبعضهم يشعر بالأمان والحماية؛ وثمة أشخاص يقفون على قمة جبل و يتصرفون كما لو أنه الجبل بأكمله ملكٌ لهم؛ لكنني أتفاعل معها بطريقة أخرى فلا أستطيع الوقوف على قمة ثم النظر للأسفل نحو القرى، وأقنع نفسي بأن هذا شيء رائع، أنا دائما أشعر بالخوف والبؤس وأشعر أن المنظر الطبيعي يبتلعني ، يجعلني أشعر أنني متناهية الصغر كنملة، أدرك أن الأشجار في غاية القدم، وأن الأحجار ستعيش للأبد وأن الماء لن يتوقف عن الجريان ثم أستنتج أن كل ما تبقى لي هو هذه المدة الزمنية القصيرة المضغوطة داخل جسدي وبأن جسدي مجرد سَلف، مقارنه بكل شيء حولنا فإن حياتنا لحظة، إنه ذلك الشعور بالتلاشي والفناء . حين كنت طفلة لم أكن أملك كلمة تصف هذا الشعور لكنني كنت أشعر به وقتئذ، وكان هذا يسبب لي رعباً شديداً، مثل حقول الذرة وتوسيعهم لها بتلك الطريقة باسم الاشتراكية بعد أن تم تقسيم كل شيء أصبحت الحقول ضخمة ما إن تكون فيها حتى تشعر بأنك عاجز عن الخروج منها، لطالما ظننت أنني حين أتمكن من عبورها كلها سأكون امرأة عجوزًا ومسنة .

ثمة فصل في (أرجوحة النفس) حين يتم إرسال ليو للعمل في الحقول ليوم واحد وكان يتوجب عليه المشي مسافة طويلة عبر السهول الريح تندفع نحوي، السهل بأكمله يجري بداخلي، يطالبني بالانهيار لأنني كنت في غاية النحافة بينما كان هو في غاية الجشع“ .

بالنسبة لي لطالما كانت هذه الأراضي الشاسعة مبعثًا للخوف .

و في أوقات نادرة، فجزء من الطبيعة قادر على إعطاء السلوان مثل أغصان شجر الصنوبر لـليوفي  (أرجوحة النفس) .

ذات مرة كنت مع أوسكار بايستور في جنوب تايرول ثم بدأت بالتذمر من أشجار الصنوبر، وكيف أنها تقف هناك فحسب، لا تفعل شيئاً وأنها مملة ومتعجرفة، ولماذا بحق الأرض يُدخلها الناس بيوتهم في عيد الميلاد. لكنه نظر إلي، وقال إنه يجب أن لا أتحدث بسوء عن أشجار الصنوبر، ثم بدأ بإخباري عن وضعه حين كان في المخيم، حرفياً على شفا الموت جوعاً وإحباطاً، كان يصنع شجرة عيد الميلاد مستخدماً أسلاكاً كهربائية وصوفاً أخضر، وقد كانت هذه الشجرة ارتباطه الأخير بالحضارة، قال لي ”ليس عليك أن تؤمني بعيد الميلاد، مع ذلك فلتؤمني بأشجار الصنوبر، بل يجب عليك هذا“.

وهذا ما حدث في (أرجوحة النفس) لكن أولاً هو يعثر على شجرة صنوبر حقيقية ويحاول تهريب غصن منها إلى المخيم لكن الحراس يأخذونه منه، و يستخدمونه لصنع مكنسة ـ بينما ليو يراقب هذا كتبت بصوته في غضون ثلاثة أيام سيحل عيد الميلاد كلمة تسمح لأشجار الصنوبر الخضراء بالدخول للغرفإنها جملة مذهلة لأنك تأتين بالواقعي غصن الصنوبر مع كلمة عيد ميلاد ثم تعيدين بناء شجرة العيد بالأسلاك و خيوط الغزل مما يعيدنا بنفسه للواقع. وهذا ما تفعلينه في كتبك تماماً بطريقة ما، هو الحس الطفولي نفسه الذي كنت تملكينه منذ طفولتك حين كنت تبتكرين كلمات تتلاءم مع العالم الذي تمرين معه بتجربة، لكن حتى تلك الكلمات التي قمت باختراعها لم تكن ملائمة دائماً .

مما جعل الفجوة بيني وبين الأشياء أكثر وضوحاً .

تماماً كالفجوة التي بين اللغة و الأشياء التي تبتغين وصفها .

للكلمات حقيقتها الخاصة، وهذا متأتٍ من طريقة نطقها، لكنها لا تشبه الأشياء بذاتها، لا وجود لتماثل تام مطلقاً.

كتبت دائماً عن عدم تكافؤ اللغة، كيف أننا لا نفكر دائماً بالكلمات، وأن الكلام لا يحيط بما يعتمل بدواخلنا،  لذلك فلعله من الأدق أن نقول إنك في بحث مستمر عن طرق للتعبير عن ما هو كامن بين الكلمات وخلفها. في الغالب يكون هذا صمتاً . ثمة مشهد آخر من (أرجوحة النفس) حين جد ليو يحدق بعِجل، يلتهمه بعينيه، وفي الكتاب ذُكرت الكلمة ( Augenhunger = آوغن هونجا ) وتعني عين الجوع ، هل ثمة شبيه ما لكلمة جوع ؟

إن الكلمات هي الجائعة، أنا لست جائعة للكلمات؛ بل هي من تتضور جوعاً لذواتها، إنها تريد استهلاك ما أملك من تجربة، وعلي التأكد من تحقق هذا.

هل تسمعين الجمل في رأسك قبل كتابتها ؟

أنا لا أسمع أي جملة في رأسي، لكن أثناء الكتابة يجب علي رؤية كل ما أكتبه، أنظر للكلمة وأسمعها كما أنني أقرأها بصوت عالٍ.

هل تقرأين كل شيء بصوت عال ؟

كل شيء، حفاظاً على إيقاعية الجُمل — فإن لم تبدُ الجملة جيدة بصوت عال فهي غير صالحة؛ مما يعني أن ثمة خطأ ما، يتوجب عليّ سماع الإيقاع دائماً ، فهي الطريقة الوحيدة للتحقق من تواؤم الكلمات. والغريب في الأمر أنه كلما كان النص أكثر سيريالية زاد اتصاله بالواقع؛ وإلا فإنه لن يفلح، هذا النثر دائمًا ما يتحول إلى أمر مبتذل ورخيص ”كيتش“ يعاني الكثيرون في محاولة تصديقه، ولكن الحس السريالي يجب تفقده قِبالة الواقع بدقة متناهية، وإلا فإنه لن ينجح إطلاقاً، فيصبح النص غير ذي نفع بتاتًا . يجب على السيريالية إثبات نفسها أمام الواقع وأن تُبنى وفق معمار لغوي واقعي.

هل تتركين للكلمات دفة القيادة ما إن تباشري بالكتابة ؟

هي تعلم من تلقاء نفسها ما قد حدث، اللغة تدري أين ينبغي أن ينتهي بها المطاف، أعلم ما أريده لكن الجملة هي من تدري كيف أصل إليه. مع ذلك فاللغة يجب أن تظل دائماً في قبضة مُحكمة، وأنا أعمل ببطء شديد. أحتاج للكثير من الوقت لأنني أتبع طرقاً عديدة، أكتب كل كتاب قرابة العشرين مرة، في البداية أحتاج لكل هذه الركائز، كما أنني أكتب الكثير من الأشياء الزائدة عن الحاجة، لاحقاً حين أكون بعيدة بما يكفي بينما — في داخلي ما زلت أبحث — أقوم باقتطاع ما يقارب ثلث ما كتبت؛ لأنني لا أعود بحاجته لكن حينها أيضًا، غالباً ما أعود لما كتبت في النسخة الأولى لأنه الأكثر أصالة ، وكل ما سواه أثبت أنه غير مرضٍ. وأشعر بشكل مستمر أنني لن أكون قادرة على فعلها، فاللغة مختلفة كلياً عن الحياة المُعاشة، فكيف يفترض بي أن أطابق الأولى بالثانية ؟ كيف يمكنني أن أجمع بينهما ؟ لا يوجد بينهما ما يمكن تسميته بعلاقة تشاركية، يجب علي أخذ كل شيء على حدة. أولاً ، أن أبدأ بالواقع لكن يجب عليّ تدمير هذا الواقع كليا، ثم أن أوظف اللغة لخلق شيء مختلف تمامًا، وهي عملية تصنيعية بحتة.

مثل شجرة ليو لعيد الميلاد، وما قلته في ستوكهولم أثناء استلامكِ جائزة نوبل للآداب لعام ٢٠٠٩ بأن الكتابة لا تعتمد على الحقيقة بل على مصداقية الخداع وتتطلب شخصًا مشحونا بطاقة هائلة.

نعم، ومن الممكن أن يحولك هذا لشخص مهووس، فحين يتحدث الناس عن جمالية النص، هذا هو مصدره، حقيقة إن اللغة هي من تدفعني لكتابتها، لكنه أمر مؤلم أيضًا ولهذا السبب أخاف كثيراً من الكتابة، و غالبًا ما أتساءل إذا كنت قادرة على هذا، إن كنت قادرة على تحمل مسؤولية خلق اللغة. لكنه أيضًا — كما ذكرت أنت سابقاً — نصفها صمت . ما قد قيل شيء ولكن ما لم يتم قوله موجود أيضًا، يجب أن يطفو مع ما تكتبه، وعليك أن تشعر به أيضًا.

وهذا الصمت ليس مقتصراً في دواخل الشخصيات، إنه أيضاً بين الشخصيات وفي النص نفسه ، في كتابك (حيوان القلب) كتبت : ”متى تسكن الكلمات في أفواهنا ندوس على أشياء كثيرة بذات القدر الذي تدوس فيه أقدامنا العشب، صمتاً وقعه ثقيل أيضاً“.

الصمت شكل من أشكال البوح أيضاً ، بل هما وجهان لعملة واحدة، فالصمت جزء أساسي من اللغة، فكما نختار ما نريد قوله فنحن أيضاً نختار ما لا نريد قوله، فما الذي يدفعنا لقول شيء ما دون سواه ؟ نحن نفعل هذا لا شعورياً ؛ فمهما كان الأمر الذي نتحدث عنه؛ فهناك الكثير مما هو مسكوت عنه حياله. ولا يعود هذا لرغبة منا لإخفاء شيء — فهو بكل بساطة اختيار لا شعوري لكلامنا، هذا الاختيار يختلف من شخص إلى آخر؛ لذا فلا يهم كم يبلغ عدد الأشخاص الذين يصفون الشيء نفسه، فهذا الوصف سيكون متمايزًا ، فوجهات النظر تختلف وإن تشابهت فالناس يختلفون في اختيارهم لما يقال وما لا يقال، كان هذا واضحًا جدًا لي، أنا الآتية من قرية لا يقول فيها الناس شيئاً يفوق احتياجهم، وعندما بلغت الخامسة عشرة، وذهبت للمدينة، أدهشني كم هو هائل القدر الذي يتحدث به الناس كلاماً لا طائل منه، وتلك الطريقة التي يتحدثون بها عن أنفسهم — كل هذا كان غريباً كل الغرابة علي. بالنسبة لي ، لطالما كان الصمت شكلاً من أشكال التواصل، إذ يمكنك استنتاج الكثير؛ بإلقاء نظرة على شخص ما فحسب، في البيت كنا دائماً نعلم الكثير عن بعضنا؛ حتى حين لم نكن نتحدث عن أنفسنا، لقد واجهت قدراً هائلاً من الصمت في مكان آخر أيضاً ؛ كان ذلك النوع من الصمت الذي يفرض نفسه؛ لأن قول ما تفكر فيه حقاً أمر مستحيل .

أدب الثاني والتسعون

عن الكاتب

ثابت خميس