“حَتَاتها بعيد”

كتب بواسطة عبد الله حبيب

 

 

 

حَتَاتها بعيد“:  العرب ينفقون على تعليم الغرب

 

 

 

في الفصحى تعني كلمة حتاتعدة أشياء منها ما تناثر من الشيء أو سقط منه، وما تناثر من أوراق الشجر أو ثمارهأما في الدارجة العمانية فلدينا مثل يقول:  “حتاتها بعيد“.  والمقصود بالمعنى الحرفي للمثل هو سقوط أثمار الأشجار كالمانجو، والنخيل، والليمون بعيداً عن محيطها المكاني والنطاق المباشر لوجودها في التربة المزروعة فيها تلك الأشجارأما من الناحية المجازيَّة فهذا المثل يستعمل شعبيَّاً للإشارة إلى مصدر ثروة أو خيرٍ لا يذهب ناتجه لأهله أو مالكيه بل يحتُّبعيداً عنهم، وبذلك ينتفع منه الغرباء الذين هم ليسوا بأصحابه، ولم يبذلوا أي جهد في سبيل رعايته والاهتمام به.

وما أصدق هذا المثل العماني البسيط والعميق معاً على واحد من أسوأ مظاهر تسيُّب وهدر الأموال العربية بعيداً عن مواطن أهلها ومستحقيها؛ أي دلقها السخي بالمجَّان في سبيل إنشاء مراكز دراسات وبحوث وبرامج علمية في المؤسسات الأكاديمية الغربية لا تعود علينا نحن العرببالكثير من الخير والمردود الإيجابي والفعلي إن لم يكن العكسولأكن واضحاً منذ البداية هنا كي لا يساء فهمي؛ فالتعاون والتعاضد بين الأمم، والبلدان، والشعوب على اختلافها ثقافياً وتباعدها جغرافياً في سبيل دفع عجلة التعليم وما ينجم عن ذلك من تقدم ورقي وانعكاس إيجابي في أقطار العالم قاطبة ينتفع منه البشر قاطبة لهو غاية سامية وهدف نبيل، بل هو واحد من أكثر المظاهر الحضارية جوهرية فيما يخص التلاقح الثقافي والتبادل المعرفي.

وعلينا ألا ننسى هنا أن ثقافتنا حضارة كانت من أوائل من دعا إلى غض النظر عن الاعتبارات الجغرافية والثقافية في سبيل تلقي العلم كما في القول المأثور اطلبوا العلم ولو في الصين“.  وفي العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في الأندلس التي كانت مركز إشعاع فكري وثقافي ومدني بينما كانت أوروبا غارقة في ظلام العصور الوسطى كان أبناء الأرستوقراطية الغربية يبعثون أبناءهم إلى الأندلس للنهل من العلم والمعرفة في مختلف أنواعها ومجالاتها وبالمجان على أيدي علماء ومفكرين مثل ابن رشد وغيره.

ليس في هذا دعوة للتباكي المتحسِّر على الماضي التليد بأمجاده العريقة والمضيئة، أو الوقوف على الأطلال، بل هي دعوة للتأمل في الحاضر الذي تغيرت صورته؛ حيث دار الزمن دورته في سنن ونواميس التاريخ، فقد أصبحت أوروبا (ومعها العالم الجديدبالطبع) قِبلة طلاب العلم والمعرفة من شتى أقطار المعمورة (وليس بالمجَّان طبعاً، بل بأضعاف مضاعفة من الرسوم الدراسية والتكاليف الأخرى التي يدفعها الطلبة من مواطني تلك البلدان، ربما باستثناء بعض المساعدات الرمزية من هذه المؤسسة الغربية الأكاديمية أو تلك).

يعود الأمر في الحقيقة تاريخياً إلى قيام الثورة الصناعية في أوروبا ونضج الرأسمالية العابرة للقارات الذي أدى إلى ظهور الكولونياليَّة التي كان هدفها العالم الثالث بما في ذلك الوطن العربي (ولكل زمان دولة ورجال“).  لقد تسببت الحركة الكولونيالية الغربية ليس فقط في نهب خيرات وثروات الدول المُستَعمَرة وإبادة الملايين من مواطنيها، بل في إبقائها في حالة كاملة من التخلف العلمي والثقافي

وفي المرحلة ما بعد الكولونيالية، سواء أكان الاستقلال حقيقيَّاً أم شكليَّاً (على طريقة الخروج من الباب للعودة من النافذة)، فقد ظلت المستعمَرات المنهَكة تسابق الزمن في محاولة للتخلص من نير وميراث عقود، بل وأحياناً قروناً كاملة، من التجهيل المطلق تقريباًهذا ناهيكم عن اختصار السنين والعقود في إنشاء بناها التحتيَّة التي تتطلبها الحياة الحديثة.

وفي هذا الصدد بدأ التعليم العام الحديث أولى خطواته في بلدان العالم ما بعد الكولونيالي (بما في ذلك أقطار الوطن العربي بالطبع)، ثم تلا ذلك بالتدرج الذي سمحت به الظروف والإمكانات دخول مضمار التعليم العالي والبحوث والدراسات المتقدمة إنْ محلياً أو عبر برامج الابتعاث البينيِّ أو الخارجيأما الاستثمار في مجال التعليم الخاص فإنه في العالم العربي عموماً، وفي دول الرفاه منه خصوصاً، أبعد من أن يكون في أفضل أحواله؛ فعلى الرغم من المساعدات الباذخة التي تقدمها حكومات ما بعد الاستقلال للقطاع الخاص في كافة الميادين والمجالات لا يزال الاستثمار في التعليم الخاص يحبو خجولاً كميَّاً ونوعيَّاً، إذ أن عقلية الربح السريع والمضمون تطغى على فكرة الاستثمار في العلم والتعليم والأجيال القادمة التي سترسم مستقبل الأوطان وتحدد خطاها في عالم يتسم بأقصى درجات التنافسيّة الشرسة.

وإن كانت هذه كارثة بما فيه الكفاية، فإن الكارثة الأكبر هي تسابق الموسرين العرب والمؤسسات الثقافية والعلمية العربية إلى دعمالتعليم العالي في الغرب، وذلك عن طريق تمويل برامج دراسية وإنشاء مراكز وبحوث ومقاعد أكاديمية هنا وهناك من أقطار ذلك العالم المتفوق علينا بدءاً من جودة أقلام الرصاص التي يصنعها ولا انتهاء بالوصول إلى الكواكب الأخرى.

وإذا كانت مثل هذه المبادرات التطوعيَّةالعلمية والثقافية مظهراً لا بد منه في مقتضيات الدبلوماسيَّة الدوليَّة والعلاقات العامة، بل وحتى في التكتيكات السياسية، فإنه ما لم يتم النظر إليه والتعامل معه بعقلية نافذة البصيرة تأخذ كل شيء في الحسبان، فإنه يتحول إلى هدر غير مسؤول لما بلداننا بحاجة إليه أكثر، وإذا كان النبي وصّى على سابع جار، فـالأقربون أولى بالمعروف“.  وإذا كان الآخرون يطالبونك بدفع الشيك، فليس أقل من المتابعة الدقيقة كي تعلم إلى أين تذهب مردودات ذلك الشيكالثقيلويصل الأمر أحياناً إلى طريقة المضحك المبكي؛ فعلى سبيل المثال حُزْتُ على درجة الماجستير في جامعة أمريكية يوجد بها واحد من أقدم مراكز دراسات لغات وثقافات الشرق الأوسط، وهو مموَّل عربيَّاًولكنك لو تقصيت الأمر على حقيقته لاكتشفت أن ذلك المركز متخصص في الواقع وبالدرجة الأولى في تدريس إحدىلغات وثقافات الشرق الأوسط (هي اللغة العبريَّة تحديداً)، لدرجة أن القسم العربي من مكتبة ذلك المركز المُمَوَّل عربيَّاً، للتذكير هو القسم الأصغر، ولدرجة أن من يقوم بتدريس اللغة العربية فيه هم من غير الناطقين باللغة العربية بوصفها لغة أولى، بل أناس من جنسيات ومشارب سياسيَّة وأيديولوجيَّة معينةوحين أوصلنا الأمر في وفدٍ منتَقى منا نحن طلبة الدراسات العليا العرب والطلبة الأمريكان من ذوي الأصول العربية في اجتماع مع رئيس المركز عدنا بخفي حنين.

ويتجاوز الأمر أحياناً حدود المؤسف والمحزن لينافس مسرح العبث واللامعقول، فحين كنتُ هناك تداول الإعلام الأمريكي قصة واحد من طويلي العمرالذي كان قد تبرع بإنشاء مركز دراسات في إحدى الجامعات الأمريكية على نفقته الخاصة (وما أكثر ما يتبرع النشامىومخاوين شمَّابأشياء من هذا القبيل في أمريكا وأوروبا بينما لا توجد في بلدانهم سوى مراكز مشلولة لدراسة التراث الشعبي مثلاً).  وفي إحدى زياراتطويل العمرذاك التجارية الكثيرة إلى هناك عنَّ له أن يقوم بجولة تفقدية سريعة إلى هديته العظمى (مركز الدراسات آنف الذكر)، غير أن سائق سيارته الفاخرة لم يجد موقفاً شاغراً في الأماكن المخصصة لوقوف السيارات، فما كان من طويل العمرهذا إلا أن وجّه سائقه بالوقوف في أي مكان فأنا أصلاً من تبرع بهذا المركز“!.  غير أنه فور توقف السيارة في المكان غير المسموح بالوقوف فيه هرع الشرطي المنوط به تحرير المخالفات ليقول للسائق إن عليه مغادرة المكان فوراً فالوقوف هناك غير مصرَّح به هناكجنَّ جنون صاحبنا طويل العمرالمعتاد على أن يرتهن كل شيء وكل أحد بمشيئته وقال للشرطي:  “هذه سيارتي، وأنا أصلاً من بنى هذا المركز“!.  فرد الشرطي ببرود وبساطة:  “يا سيديإذا كانت مهمتك إنشاء مراكز البحوث فأنا مهمتي تحرير المخالفات للسيارات المتوقفة في الأماكن الممنوعةهل ستأمر سائقك بالتحرك من هنا أم أحرر لك مخالفة؟!. 

لكن الواقعة لم تنته بعدفقد صعد طويل العمرإلى مكتب رئيس المركز ليقول مستشيطاً بالغيظ للسكرتيرة إنه يريد مقابلة رئيس المركز فوراً، فردت عليه هذه بتهذيب مهنيٍّ:  “أنا آسفة جداً، ولكنه الآن في اجتماع مهم، ولا أستطيع أن أقاطعه“!.  أمام هذه الصعقة الجديدة زمجر طويل العمرفي وجه السكرتيرة  أن عليها أن تتصل برئيس المركز للتو واللحظة وأن تقول له إن فلاناًيريد أن يقابله فوراً“.  وبذهول شديد فعلت المنسقة ما هو مطلوب منها، وبعد برهة أعطت سماعة الهاتف لـطويل العمرليسمع من الطرف الآخر صوت رئيس المركز مكلِّماً إياه بكياسة ودماثة كبيرتين قائلاً إنه كان يتمنى لو أنه اتصل به مسبقاً لترتيب موعد للقاء، فهو الآن في غمرة اجتماع مهم تم التحضير له منذ مدة طويلة، ولا يستطيع مغادرته، ولديه ارتباطات أخرى بنفس درجة الأهمية لبقية اليوم، وإنه سيسعده أن يلتقي به في مكتبه غداً في أي وقت يشاء بعد العاشرة صباحاً!.

ترى هل على المرء هنا أن يضحك أم يبكي، أم يردد مع الشُّوابالعمانيين:  “حتاتها بعيد؟.

الثاني والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

عبد الله حبيب

كاتب وأديب