تاريخ عُمان الحديث

 

كتابٌ صدر باللغة الإنجليزية عن مطبعة كامبردج في عام 2015م، وأشرف على تأليفه جيرمي جونز الذي عمل في عُمان منذ ثمانينات القرن العشرين. ويحملُ كتابه الأول عنوان “التفاوض على التغيير: السياسة الجديدة في الشرق الأوسط (2007)”، والذي تنبأ فيه بوقوع الربيع العربي. وهو أحد كبار زملاء مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، ونيكولاس ريدوت الذي عمل مع جيرمي جونز في إجراء عددٍ من البحوث في عُمان منذ عام 1989م. وصدر لهما كتابٌ مشترك حمل عنوان “عُمان: الثقافة والدبلوماسية” والذي نُشر في عام 2012م. ويعمل ريدوت أستاذًا في المسرح في جامعة كوين ماري في لندن. وصدرت النسخة العربية في هذا العام عن دار الرافدين بترجمة أيمن مصبح العويسي الذي يعمل مترجمًا في مجلس الشورى وتخرج من جامعة السلطان قابوس بدرجة الماجستير في الترجمة.

يسرد الكتاب قصة عُمان منذ اللحظة التي تولى فيها الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي مؤسس الدولة البوسعيدية مقاليد الإمامة في البلاد في عام 1749م إلى بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وقسَّم الكاتبان تاريخ عُمان إلى قسمين رئيسين؛ أولهما المراحل التأسيسية لبناء عُمان في شكلها الحالي. وشملت هه المرحلة تأسيس الدولة البوسعيدية؛ مرورًا بأبناء الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي وتأسيس النفوذ العُماني في زنجبار في عهد السيد سعيد بن سلطان. أما القسم الثاني فيتطرق إلى تاريخ عُمان الحديث الذي قام على تلك المراحل التأسيسية؛ بدءًا من تولي السلطان سعيد بن تيمور الحكم خلفًا لوالده في عام 1932م؛ وصولاً إلى عهد السلطان قابوس الذي كان له النصيب الأكبر من الكتاب منذ عام 1970 وحتى عام 2015م. وربط الكاتبان الأحداث التي مرت بها عمان مثل توسُّع النفوذ العُماني في القرن التاسع عشر وحرب ظفار وحرب الجبل الأخضر واكتشاف النفط ومظاهرات عام 2011م بالنطاق الإقليمي والعالمي الأوسع من حيث صلتها بالهيمنة البريطانية، والرأسمالية والاشتراكية، وقيام حركة النهضة العربية، وبروز القومية العربية، ونهاية الاستعمار الأجنبي، واندلاع الصراعات الإقليمية والدولية.

 

مقتطفات من الكتاب:

* ما هي عُمان الحديثة؟ تبدو عُمان اليوم في نظر الكثير من الناس دولةً حديثةً؛ وهذه النظرة صحيحةٌ وعلى وجه الخصوص في العاصمة مسقط بطرقها السريعة المزدحمة، ومراكزها التجارية الممتلئةُ بأحدث ما يطلبه المستهلكون، وانتشار الإنترنت فيها، وزيادة عدد الهواتف الذكية بين سكَّانها؛ الأمر الذي يبدو جليًا لأي شخصٍ يزورها. ولكننا نرى في الوقت ذاته أن عُمان ما زالت تحتفظ بالعديد من الخصائص التي يمكن أن نعدَّها من خصائص المجتمعات التي تمر بمرحلة ما قبل الحداثة أو المجتمعات التقليدية؛ إذ يقوم نظام الحكم فيعُمان على النظام السلطاني الوراثي، وثمَّ انتشارٌ واسعٌ للشعائر الدينية فيها، وتُشكِّل المفاهيم التقليدية الأسرية تأثيرًا قويًا على قرارات العُمانيين. ويلتزم الرجال والنساء في عمان بارتداء ما يسميه البعض باللباس “التقليدي” حتَّى في العاصمة مسقط.

– ويمكن القول إن موقع عُمان المطل على مضيق هرمز يشكِّلُ عاملاً مهمًا جدًا في تاريخ عُمان الحديث. ومضيق هرمز عبارة عن ممرٍ بحريٍ ضيقٍ بين الخليج الفارسي والمحيط الهندي، ويقع إحدى طرفي هذا المضيق في شبه جزيرة مسندم العُمانية على بعد أقل من 40 كم من الساحل الجنوبي الإيراني حيث نجد الجزء الآخر من المضيق. وما أن أصبحت صادرات الخليج النفطية مهمةً لاقتصاديات العالم الصناعي في منتصف القرن العشرين حتى أصبح المضيق واحدًا من أهم الطرق البحرية في العالم. وتُشكل الصادرات النفطية التي تعبر هذا المضيق ما نسبته 40٪ من إجمالي صادرات النفط في العالم. وقد ظل توفير ممرٍ آمنٍ لحاملات النفط من محطات التصدير في الدول المنتجة الرئيسية في الخليج (العراق وإيران والمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة) إلى المحيطات المفتوحة واحدًا من أهم الأولويات الرئيسة لمنتجي النفط وعملائهم على حدٍ سواء. بدأت جمهورية إيران الإسلامية منذ عام 1979م بانتهاج سياساتٍ غير متوقعةٍ وتصادمية أحيانًا؛ الأمر الذي أثار مخاوف منتجي النفط الآخرين وخاصة العملاء الغرب من احتمالية إغلاق إيران للمضيق؛ إمَّا من خلال فرض حصارٍ متعمدٍ عليه، أو خلق صراعاتٍ وتوتراتٍ تعيق مغادرة السفن من الخليج أو الدخول إليه. فعلى سبيل المثال، إبان النصف الثاني من الحرب التي وقعت بين إيران والعراق بين عامي 1984م و1988م هاجمت القوات العراقية سفن الشحن بما فيها ناقلات النفط محاولةً بذلك دفع إيران إلى غلق المضيق والزجِّ بالولايات المتحدة الأمريكية لثني الإيرانيين عن إغلاق ه والوقوف في صف العراقيين في حربهم. وقد بيّنت الخطوةٍ التي اتخذتها الإمارات العربية المتحدة مؤخرًا مدى رغبة منتجي النفط الإقليمين في التحرر من هذه الاضطرابات حين بدأت في تصدير النفط عن طريق ميناء الفجيرة في عام 2012م؛ مما يعني عدم الحاجة لاستخدام مضيق هرمز. وتتمتع عُمان بميزة إطلال جميع موانئها على المحيط الشاسع. ومن بين دول الخليج العربية الأخرى يمكن لدولتين تجنب استخدام مضيق هرمز لعبور صادرات النفط وهما الإمارات العربية المتحدة من خلال إمارتي الشارقة والفجيرة الساحليتين، والمملكة العربية السعودية من خلال الشريط الساحلي للبحر الأحمر. أما بالنسبة للعراق والكويت والبحرين فتعتمدُ كليًا على مضيق هرمز. وهذا الأمر لا يعني فقط أن لدى كلٍ من هذه الدول مصالحُ استراتيجيةُ في الحفاظ على علاقتها الطيبة مع عُمان؛ بل يلقي على عاتق عُمان مسؤولية الحفاظ على علاقاتٍ طيبةٍ مع إيران؛ إذ تعتمد قدرة البلدين المشتركة في ضمان أمن المضيق على هذه العلاقات. ولدى إيران مصلحةٌ كبيرة في ضمان أمن مضيق هرمز؛ إذ يمر زهاء 80٪ من تجارة إيران الخارجية عبر هذا المضيق وفقًا لما أشارت إليه إحدى التقديرات الإيرانية الحديثة.[1]

– يُعدُّ المجتمع العُماني في الوقت الحاضر مجتمعاً كوزموبوليتانيًا؛ وترى الحكومة والمواطنون أنه أمرٌ له سلبياته وإيجابياته على حدٍ سواء، فنرى الجانب الإيجابي متمثلاً في مساهمة هذه السمة في تاريخ عُمان البحري؛ الأمر الذي تسعى المؤسسات الحكومية للتأكيد عليه خاصةً عندما تريد إيصال رسالة تعكس قدرة عُمان على المشاركة في الاقتصاد المعولَّم. ولكن هذا الأمر يسبب إشكالية في الوقت ذاته؛ إذ أصبحت عُمان منذ مطلع السبعينات تعتمد اعتمادًا متزايدًا على العمالة الوافدة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على آفاقها الاقتصادية وتنميتها الاجتماعية.

– كانت هناك أيضا صراعات من أجل تولي السلطة السياسية داخل أسرة آل بوسعيد نفسها، إذ تنافس أبناء الإمام أحمد على المنصب خلال حياته وبعد وفاته. ولعب أربعٌ من أبنائه أدوارًا بارزة وهم: سعيد وقيس وسيف وسلطان؛ فعند تولي الإمام أحمد السلطة عيّن ابنه سعيد واليًا على الرستاق، وعيَّن قيس واليًا على صحار. وكان سيف وسلطان أخوين شقيقين وتحالفا في محاولةٍ للسيطرة على السلطة في مسقط في عام 1781م؛ ولا تبدو هذه الخطوة محاولةً منهما لتولي الإمامة وإنما لدعم مصالحهما التجارية هناك. وكما نرى من الوظيفة التي تولاها سلطان بن أحمد لاحقًا (انظر الفصل الثاني) فإن السيطرة على مسقط ستحقق له المصالح التي يرجوها. وفي ديسمبر من العام ذاته أخذا أخاهما سعيد رهينةً واحتجزاه في قلعة الجلالي. وكان رد أحمد بن سعيد على ذلك بفرض حصار على القلعة من البر والبحر، ليجبر سيف وسلطان على الهرب إلى مكران التي منحهما فيها الحاكم المحلي حق امتلاك مدينة جوادر الساحلية التي أصبح ميناؤها لاحقًا واحدًا من المراكز العُمانية المهمة في شبكة التجارة البحرية العُمانية في القرن التاسع عشر، وبقت واحدة من الممتلكات العُمانية حتى عام 1958م عندما باعها السلطان سعيد بن سلطان لباكستان.[2] وكما سنرى لاحقًا سيصبح سلطان بن أحمد في نهاية المطاف الحاكم السياسي في عُمان بلا منازع بعد صراع ٍ دام سنوات عقب وفاة والده الإمام أحمد. أصبحت مسقط مع نهاية عهد الإمام أحمد الميناء التجاري الرائد بين الخليج والهند، فضلا عن المناطق السفلى من البحر الأحمر في تجارة البن.. أما بالنسبة لشرق إفريقيا التي أسس فيها اليعاربة نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا عُمانيًا فقد استطاع الزعماء المحليون فيها استعادة جزءٍ كبيرٍ من استقلاليتهم، حتى أنهم سمحوا للبرتغاليين باستعادة سيطرتهم على مومباسا لفترة وجيزة وذلك أثناء فترة الحرب الأهلية العُمانية. وعقب وفاة الإمام أحمد جاء خلفاؤه ليؤكدوا مجددًا النفوذ السياسي والاقتصادي العُماني في شرق أفريقيا في المناطق المحيطة بمعقلهم في زنجبار. ومن الممكن أن تشكل عودة تجارة الرقيق بين أفريقيا والمحيط الهندي-التي نشأت بفعل تطور المزارع الفرنسية في ريونيون وموريشيوس والتي تزامنت تقريبا مع تحويل طريق تجارة العاج إلى الشمال من منطقة الهيمنة البرتغالية في موزمبيق-أهميةً في إحياء المصالح العُمانية هناك

– سيعتمد النجاح المستقبلي للدولة العُمانية الجديدة على التنمية الاجتماعية والسياسية؛ هذه هي النصيحة التي سمعها السلطان سعيد مرارًا وتكرارًا وتزايد تكرارها بدءًا من عام 1955م. جاءت هذه النصيحة في ذلك الوقت من المصادر العسكرية والسياسية البريطانية في المقام الأول، وخاصةً من أولئك الذين شاركوا بشكل مباشر أو غير مباشر في حملة السلطان العسكرية على الإمامة. تعيَّن على السلطان استبدال الهياكل السياسية القبلية التقليدية-التي يتوجه فيها الناس إلى زعماء القبائل لتلبية احتياجاتهم الأساسية كالتوظيف والعدالة والتعليم-بحكومةٍ جديدةٍ يتولى زمامها بنفسه وذلك من أجل ضمان أمن الدولة الموحدة حديثًا ومؤقتًا على الأرجح. تطَّلب هذا الأمر وضع تصورٍ جديدٍ للحكومة؛ فعوضًا عن أن يكون السلطان مصدرًا مطلقًا للسلطة يرجع إليه شيوخ القبائل في أوقات الأزمات أو عند الحاجة، أصبح السلطانُ نفسه يُقدِّم الخدمات ويشارك الناس حياتهم اليومية في مناطق متفرقة من البلاد؛ وكان هذا الأمر يستدعي بطبيعة الحال توفير الموارد المطلوبة.

– كان لأحداث عام 1970م أهميةٌ بالغةٌ لسلطنة عُمان -فبدونها لم يكن البلد لينجح بهذا الشكل على الأرجح؛ غير أنه من الخطأ القول بأن التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مرتبطة بفترة ما بعد عام 1970م فقط، بل على العكس من ذلك كان السلطان سعيد كما سنرى يؤمن أنهم على أعتابِ “عهدٍ جديدٍ” بفضل عائدات النفط. أعلنت شركة تنمية نفط عُمان في عام 1964م أن النفط الذي اكتشفته ذلك العام في فهود (وكذلك في جبال ونتيه) يشكِّل كمياتٍ قابلة للاستغلال تجاريًا وأن الصادرات ستبدأ في عام 1967م، وأنشأت الشركةُ خط أنابيبٍ يصل هذه المناطق بمحطةٍ في ميناء الفحل بالقرب من مطرح، وبدأت الصادرات كما هو مخطط لها في منتصف عام 1967م. وارتفعت هذه الصادرات بحلول عام 1970م من 20.9 مليون برميل إلى 121.3 مليون برميل.[3] وكما قالت فاليري بنبرةٍ يغلبها التعجب أنه وبحلول عام 1969م “شكَّلت هذه الهبة الإلهية ما مقداره أربعين ضعفًا من إجمالي الإيرادات السنوية للسلطنة في أوائل الستينات!”[4] وكما رأينا في الفصل الخامس عملت قدرة السلطنة على نشر مواردٍ جديدةٍ وغير مسبوقة (بما في ذلك الموارد العسكرية التي جاءت بفضل الإيرادات الجديدة) على لعب دورٍ كبيرٍ في انتصارها الذي حققته في مواجهة الجبهة الشعبية لتحرير عُمان في ظفار، وخاصة في المراحل النهائية عندما “تضاعفت القوة” بفضل ارتفاع أسعار النفط بعد 1973م.

-لعلَّ الاختلاف الجليَّ بين طبيعة الاحتجاجات في عُمان وفي أماكن أخرى من المنطقة-ومنها البحرين التي كان فيها الوضع الاقتصادي والاجتماعي مشابهًا لأوضاع عُمان-يتمثَّلُ في تحوّل هذه التوترات وحالات الاستياء إلى مطالبات بالإطاحة بالنظام في تلك الدول؛ بينما لم نسمع العبارة المشهورة “الشعب يريد إسقاط النظام” في عُمان ، ورأينا أن المشاركين في الاحتجاجات-ولا سيما أصحاب المطالب السياسية- قد أكَّدوا علنًا ولاءهم للسلطان قابوس. وذهب البعض في عُمان لتفسير هذا الأمر بأنه يرجع إلى أن الشعب لم يُحمِّلوا السلطان قابوس المسؤولية عن أوجه الخلل في الحكومة؛ بل ألقوا باللائمةِ على وزرائه ومستشاريه وغيرهم من رجال الثروة والنفوذ الذين يعتقد بأنهم مخطئون، وكثيرًا ما تُوجه إليهم أصابع الاتهام بالفساد وعدم الكفاءة وتقديم المشورة السيئة للسلطان. ويذكر جيمس ورال الذي أجرى محادثاتٍ مع مجموعةٍ من المواطنين العُمانيين في أغسطس من عام 2011م حول الاحتجاجات التي وقعت مطلع العام قائلًا “يتمثَّل الموضوع المشترك في هذه المحادثات في أن التجّار الفاسدين وكبار الوزراء أخفوا الحقائق عن السلطان وكانوا يستغلونه لخدمة أهدافهم الشخصية”.[5] ونلاحظ في هذا السياق أيضًا أن القادة الذين أُجبروا على التخلي عن السلطة في احتجاجات الربيع العربي لم يكونوا ملوكًا؛ وهي حقيقة قد تدعم الاعتقاد السائد بأن الحكام الوراثيون يتمتعون بشرعيةٍ سياسيةٍ في الوطن العربي بشكلٍ أكبر من “الرؤساء الأبديين” الذين أُطيح بأربعة منهم (بن علي ومبارك وصالح والقذافي) في عام 2011م.[6]

– آفاق جديدةٌ ستفرضها احتمالية نفاد احتياطات النفط العُمانية، وستلقي بظلالها على عملية صنع السياسة العُمانية؛ إذ ستكون بمثابة موعدٍ لانتهاء عددٍ من الجوانب الرئيسة للسياسة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وسينتج عنها تداعياتٌ خطيرةٌ على الأبعاد السياسية للنهج العُماني في التعامل مع قضايا الأمن الإقليمي، وستجعلُ من مشروع التنويع الاقتصادي-الذي سار على نحوٍ أبطأ مما تصورته رؤية 2020-ضرورةً حتميةً. وهذا يعني أنه حتى لو نجحت عملية التنويع الاقتصادي نسبيًا، فسيأتي زمانٌ لن تستطيع الحكومة الاستجابة لذات الاضطرابات التي شهدتها في عام 2011م. كما أنها لن تكون قادرةً على مواجهة الضوائق الاقتصادية من خلال زيادة النفقات العامة وتقديم الدعم الحكومي وإيجاد فرص العمل وزيادة العلاوات ومراقبة الأسعار. كما ستظهر مجددًا مسألة ضريبة الدخل التي تأجلت لسنوات بفضل عوائد النفط؛ وستأتي معها حتمًا مسألة التمثيل السياسي. وسيعمل غياب عائدات النفط على الحدِّ من قدرة الحكومة الحالية على ضمان استمرار ولاء جميع عناصر التحالف الحاكم التقليدي الذي تعقبنَّا تاريخه سابقًا، مما يزيد من احتمالية-كما حدث عدة مرات خلال القرنين المنصرمين-ظهور رؤى بديلة وتنظيم ائتلافات سياسية قد تحظى بالقبول في المجتمع. ومن المرجح جدًا أن يكون هناك بعدٌ إسلاميٌ في هذه التطورات السياسية. ربما سيكون هذا الأمرُ حافزًا قويًا للحكومة الحالية لتوسيع التمثيل السياسي باعتباره وسيلةً لوضع الأساس-من خلال الضرائب-الذي سيرفع من إيرادات الحكومة بما يكفي للحفاظ على التحالف الحاكم. كما سيؤدي الانخفاض الكبير في الإيرادات الحكومية إثر انخفاض احتياطيات النفط وتلاشيها إلى تقليل نفقات الدفاع أيضًا. وقد أشرنا سابقًا إلى أن نفقات عُمان في مجال الدفاع لا تتناسب لا مع قدرتها ولا مع ضرورة استخدام مثل هذه الأسلحة التي اشترتها؛ إذ أصبح الأمرُ أكثر وضوحًا من أي وقتٍ مضى أنَّ الأمن الإقليمي يعتمد على مدى نجاح الدولة في التعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية؛ وفي هذه الحالة قد تصبح مسألة الانفاق العسكري أقلَّ إلحاحًا بالنسبة لعُمان (على الرغم من أن الموردين الرئيسين للسلاح سيسعون دون شك إلى مواجهة أي توجهٍ من هذا القبيل).

– لن تكون الحياة في عُمان بعد النفط غريبةً تمامًا؛ إذ أنه من غير المرجح أن تكون التنبؤات الخليجية صحيحةً والتي يُسلِّم بها البعض ويكررونها بأن الأجيال المقبلة ستعيش حياة صحراوية مماثلة لنمط حياة البدو قبل ظهور النفط. سيكون هناك قدرٌ كبيرٌ من الاستمرارية في بعض الجوانب الهامة بين فترات ما قبل النفط وبعده في عُمان؛ وهذا لا يعني أن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه سابقًا، ولكن الكثير من جوانب الحياة في عُمان هي استمرارٌ للنهج الذي كانت تسير عليه الأمور في الماضي عوضًا عن وجود تحوُّلٍ جذريٍ عنه؛ وهذا هو السبب الذي حدا بنا لمناقشة ماضي عُمان السحيق بصورة مستفيضة؛ فعُمان الحديثة ترتبطُّ ارتباطًا وثيقًا بماضيها.

– يمكن للمرء ملاحظة بعض الاستمرارية اللافتة للنظر بين ماضي عُمان وحاضرها؛ حتى في ظلِّ غياب جوانبٍ عديدةٍ من ماضي البلاد عن تجربتها المعاصرة. فكما ذكرنا سابقًا، لا يتطابق الاقتصاد العُماني مع المعايير الرأسمالية مطابقةً تامةً سواءً من حيث هيمنة العمل المأجور أو مركزية الإنتاج. وقد نلاحظ في هذا السياق أن وجود عددٍ كبيرٍ من العمَّال المهاجرين في عُمان-الذي لا تتشابه أوضاعه القانونية أو المعيشية مع رقيق المزارع في زنجبار-يدلنا على استمرار الاعتماد على العمَّال غير العُمانيين. ونلاحظ أيضًا وجود جوانبٍ دائمةٍ أخرى أو تجسيداتٍ معاصرةٍ للقضايا الاجتماعية والسياسية القديمة في الحياة العُمانية؛ مثل القضايا المتعلقة بدور الدين في الحياة العامة، والعلاقة بين الحكومة ومجتمع رجال الأعمال (العُمانيون والوافدون)، واستمرار المفاوضات بشأن العلاقة المركزية وغير المتماثلة مع قوةٍ عالميةٍ كبرى (الولايات المتحدة بديلةً لبريطانيا العظمى)، والأهم من ذلك كله الأهمية التي تُشكِّلها عملية التبادل الاقتصادي في المحيط الهندي والتبعات الاجتماعية والثقافية والأمنية الناجمة عنها.

– بينما تلوح عُمان بنظرها شرقًا نحو منطقة المحيط الهندي التي احتضنت مصالحها التجارية الخارجية الرئيسة لسنوات عديدة؛ بدأت في تطوير أحد أكبر مشاريعها في البنية التحتية الذي يدلُّنا على طبيعة أولوياتها الرئيسة في الوقت الراهن؛ إذ انطلقت الأعمال الإنشائية في عام 2007م لبناء ميناء جديدٍ في قرية لصيد الأسماك تُسمى بالدقم، وتقعُ الدقم خارج الخليج في منطقةٍ من عُمان بعيدةٍ عن المراكز الحضرية الحالية في منتصف المسافة بين مسقط وصلالة. ويُشكِّل الميناء جزءًا من مشروع كبير يُعرف بمنطقة الدقم الاقتصادية الخاصة، التي تمتد لمسافة 80 كيلومترا من الساحل؛ وتحوي هذه المنطقة على ميناء للحاويات، وحوضٍ جاف، ومنطقةٍ صناعيةٍ بها مصفاة، ومصنع للبتروكيماويات، وخط أنابيب غاز ينقل الغاز من أحد الحقول بداخل الدقم إلى الميناء، فضلًا عن مرافق سياحية وتعليمية وتدريبية، ومدينةً جديدةً كليًا، ومطارًا دوليًا يتسع لـ 500 ألف راكبٍ سنويًا والذي بدء في استقبال أولى رحلاته في 23 يوليو 2014. وقد تأسس الميناء بشراكةٍ بين الحكومة العُمانية وميناء أنتويرب. وتتمثل أهمية الدقم في كونها تقع خارج الخليج، وتُشكِّلُّ بديلًا لوجستيًا لدبي وغيرها من الموانئ التي تمرُّ بها حركة التجارة القادمة عبر مضيق هرمز. ولا يقتصر الأمر على جعل هذه المنطقة ذات إمكانات تجارية هائلةٍ؛ بل أن بعض المحللين ذهب أبعد من ذلك وقال أنها ستنافس دبي وسنغافورة. وسيكون لهذه المنطقة تأثيراتٌ أمنيةٌ محتملةٌ؛ إذ سيكون ميناءً يوفِّر خدمات الصيانة والإمدادات للقوات البحرية العاملة في المحيط الهندي.[7] ويبدو هذا الأمرُ نداءً جليًا للبحرية الامريكية التي تتمركز قيادتها المركزية وأسطولها الخامس في البحرين في الوقت الراهن؛ بيد أنه قد تأتي قوةٌ جديدةٌ كُبرى أخرى على المدى الأطول لتحلَّ محلَّ الولايات المتحدة في الخليج؛ كما حلَّت هي محل البريطانيين تدريجيا. ومن الممكن أن تصبح الدقم عنصرًا رئيسًا في تطوير العلاقات التجارية والأمنية بين عُمان والصين، وفي مشاركة الصين تدريجيًا في البيئة الأمنية الإقليمية.

الثاني والتسعون سياسة

عن الكاتب

أيمن بن مصبح العويسي