ذهنية التحريم “مقاربة تحليلية”

كتب بواسطة الوليد الكندي

 

المحرمات هي أحد المكونات الرئيسة التي تحدد مفهوم الدين؛ إذ إن النزعة التحريمية في الأديان تعكس ثنائية المقدّس والمُدنَّس التي تتأسس عليها فكرة الدين بأكملها، فالاعتقاد بالقوى الغيبية الميتافيزيقة تمثل الجانب المقدس (الخير المحض) كالخالق والملائكة والروح القدس وأرواح الأسلاف والقوة العماء، إضافة إلى المكونات المادية الواقعية المقدسة كالأنبياء والأولياء والقديسين وكتب الوحي والمعابد.

ولكي تكتمل الصورة الدينية وتحقق مشروعيتها وحقها في الوجود؛ لا بد من وجود الطرف المقابل للمقدس ألا وهو المدنس (الشر المحض) بطرفيه كذلك، الغيبي كالشياطين والأرواح الشريرة، والمادي كالكفار والنجاسات، وهنا تأتي المحرمات كأحد أظهر تجليات المدنس بشقيه الغيبي والمادي، وتكمن أهميتها الدينية في أنها محكّ الاختبار للمؤمنين؛ إذ بتجنبها والابتعاد عنها يكون الفرد المؤمن مطمئنًا من رسوخ إيمانه وقوته؛ لذلك فهي تمثل مقياسًا لدرجة التدين والقرب من الله.

إذا جئنا لاستعراض أكبر المحرمات والمدنسات في مختلف الأديان، نجد لدى الأديان البدائية ما اصطلح على تسميته ب “التابو” وهو المفهوم الأقدم للحرام، إذ يعتقد البدائيون بوجود بعض الأشياء – كفصيلة معينة من الحيوانات أو النباتات مثلا- لا يجوز الاقتراب منها أو لمسها بسبب تلبسها بالأرواح الشريرة، أما في المسيحية فإن الإنسان يولد مذنبا بالوراثة ولا بد من تعميده باسم المسيح لتطهيره من ذنب أبيه آدم. وفي العقائد البوذية يعيش الإنسان في جسد آثم توّاق إلى الملذات والشهوات؛ لذلك يعامل هذا الجسد كنوع من الخطيئة يجب التطهر منها عن طريق الخلوة والتأمل والرياضات الروحية ثم الوصول إلى التسامي الروحي “النيرفانا”، وهو ما نجد شبيها له في الطرق الصوفية الإسلامية.

في الإسلام يأتي الشرك بالله كأبرز المحرمات قاطبة، ثم تليه كبائر الذنوب كعقوق الوالدين والزنا والقتل، وتتسلسل الكبائر حتى تبلغ المئات في بعض المذاهب؛ ناهيك عن المنهيات والمكروهات التي تعطى حكما أقل درجة من الحرام، والملاحظة المهمة التي لا بد من ذكرها هنا بخصوص العقلية الإسلامية الممثلة في الفقهاء التقليديين وهي اتفاق روادها القدامى والمحدثين  بمختلف مشاربهم على وضع الحياة الدنيا بأكملها في خانة (المدنس)، واعتبارها مصدرًا للشرور والآثام ومظنة للغواية والضلال.

يقول عبدالجواد ياسين (إن كثرة المحرمات دليل على زيادة التديّن)، وهو ما يفسر لنا الكم الهائل من الكبائر – ناهيك عن صغائر الذنوب- التي ترزح تحت وطأتها مدونة الفقه الإسلامي بشتى مذاهبها، وذلك ناتج مما تحدثنا عنه من أهمية ومحورية الدور الذي تؤديه المحرمات في سيكولوجية المؤمنين، وفي مقدمتهم المنظرون الدينيون -الفقهاء والمتكلمون- الذي يجدون مسوّغًا لذلك في النصوص الدينية كما جاء في سورة الحديد “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ” (الحديد ٢٠) وما جاء في الحديث “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء” (الترمذي) ولذلك نجد من الطبيعي ما نلاحظه من تأصل فكرة دنس الدنيا وأنها بما فيها محل للابتلاء، مع ورود نصوص دينية أخرى تقضي بعكس ذلك كما في سورة القصص “ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ” (القصص ٧٧ ) ولكن هذه النصوص قليلا ما ترد في خطاب المتصدرين للفتيا والوعظ والتنظير الديني، ونجد لها وضعًا أشبه بالهامشي مقارنة بنصوص احتقار الدنيا والتحذير منها.

مما سبق، ندرك السبب الحقيقي لاستمرارية حضور (الفتاوى) والاعتقاد بأهميتها في حياة المسلمين، إذ إن أحد أهم مهامها هي أن توضح للناس مكامن المحرمات في كل ما يستجد في حياتهم، وما يرد إليهم من الحضارات الأخرى، وما ينتجه تطور الحياة المتسارع، وتعقيدها المتراكم؛ خاصة فيما يُلقي بأثره على المجتمع ويغير من بعض ملامحه، فكل ذلك ينظر إليه الفقهاء والوعاظ بعين الريبة والشك الذي يتوجب التوعية منه والتحذير من شره لئلا يقع الفرد المؤمن في المحرمات الدنيوية التي تترصد له في كل حركاته و سكناته.

لقد كان الحال شبيها بذلك في مسيحية القرون الوسطى، إذ كانت الفكرة السائدة هي تقديم حق الخالق على حق المخلوق، أو بعبارة أخرى السعي لإعطاء الأولوية للمقدس والمبالغة في احتقار المدنس (الإنسان) ثم جاءت رياح التنوير لترفع من شأن الإنسان، وتدخله في دائرة المقدس -اللاديني- وتلغي فكرة دونية الحياة؛ ذلك أن مفاهيم التنوير مثل العلم والعقل والحرية والمساواة أتت لتعزز فكرة جدارة الإنسان بالتعظيم وتحرره من فكرة “الدنس و الخطيئة” المتأصلين بداخله، وتؤكد استحقاق العقل البشري للثقة المطلقة. ولكن استلهام التجربة الأوروبية ومحاولة تبيئتها -على حد تعبير الجابري- في الأرض الإسلامية يثير مخاوف المتصدرين للتعاطي الديني ويوقظ حذرهم من ذوبان هوية الأنا في الآخر، وهو ما يجد سندا له في التراث الفقهي التحريمي الكبير، وفي كتب الحديث ذات القدسية المبالغ فيها، وبالذات في الأحاديث المنسوبة إلى رسول الإسلام، التي تحذر من مغبة التشبه بالآخر “الكافر” وتقليده مثل رواية (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشِبرٍ، وَذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، والتحدي الكبير الذي يقف حجر عثرة في وجه التنوير في عالمنا الإسلامي هو إدراك القصور والنقص البشري الذي تعاني منه المنظومة الفقهية التراثية والإيمان بقدرة العقل المعاصر على تحديث هذه المنظومة  والاعتراف بالحاجة الملحة إلى ذلك، وعدم البقاء في أسر تفكير القدامى.

إننا بحاجة لموجة من رياح التغيير تهب على العقلية الدينية التي لم تبارح مكانها منذ قرون، والتي ما زالت تتوجس خيفة من أي دعوة لتحديث الفكر والتراث، وتنظر لجميع هذه المحاولات باعتبارها “حصان طروادة” الذي أرسله العدو ليغزو به عقول المسلمين ويصدهم عن دينهم، لذلك فاستلهام تجارب الأمم و الحضارات الأخرى يجب أن يكون أحد أساسيات العقلية الدينية الحديثة التي يجب أن تأخذ على عاتقها مهمة وضع السبل والآليات التي تؤدي إلى التفاعل الإيجابي مع المنتوج الفكري العالمي الحديث، وتعمل على ألا يتعارض هذا الاستلهام الحضاري بالهوية الدينية والثقافية للشعوب الإسلامية أو يضر بها.

الثالث والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

الوليد الكندي