الباحثون عن العمل!

كتب بواسطة سعود الزدجالي

 

تعدّ مشكلة العزل بين سياسات الدولة وإدارة مؤسساتها، ورقابة المجتمع ونقده وتقييمه لهذه العمليات مشكلة كبرى ما تزال المؤسسة العامة في السلطنة لم تدركها إدراكا واضحا وملموسا أو لم تضعها حيز التنفيذ على الرغم من انضمام السلطنة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بموجب المرسوم السلطاني (64/ 2013)؛ فالمسؤول الحكومي في كثير من الأحيان لا يحل المشكلات التي تَعرِض للمؤسسة بقدر ما يراكمها أحيانا ويخفيها في أحيان أخرى، ويَعِد بإنجازها في أحيان كثيرة، ويعاني بعضُ المسؤولين إزاء ذلك نوعا من “تضخم الأنا” المتعالية على النقد وقبول الرأي المختلف، فيبث في المجتمع أن كل نقد لسياساته وأعماله هو “نقد هدّام” والنقد البناء في نظره هو الذي المفعم بكمية من المدائح تُشبع هذه الأنا المضخمة، وربما نسب إلى نفسه بعض الأعمال الروتينية وكأنها إنجازات عظيمة؛ فيشكّل لذاته إعلاما خاصا يُسخِّره لبث هذه الظواهر التي تبني له مكانة اجتماعية فوق ما أعطته الدولة من امتيازات ليمارس عمله بعيدا عن هذه الهالات أو  الانشغال بما هو ليس من صميم عمله حفظا للقرار الإداري أو السياسي من الوقوع في مغبة تضارب المصالح، وقد تتعالق بتلك المشكلة مشكلةٌ أخرى هي طول “المُكث في الوظيفة العامة” مع غياب الخطة الواضحة للعمل والمساءلة المؤسساتية داخل الدولة واستقلالها باعتبار صرامة القانون ونفاذه إلى المسؤول الذي تتراجع المؤسسة تحت إدارته أمام طموح المجتمع ومشكلاته.

في ظلّ ذلك نطرح السؤال القادم: لماذا تضخمت مشكلة الباحثين عن العمل وقد أدركتها الدولة منذ العام (1995) أو قبله وكرّست لها الخطط الوطنية والإستراتيجيات والتدريب وأنفقت عليها في مستوى التخطيط والتدريب الأموالَ والميزانيات الكبيرة؟

يعني ذلك أن هذا التخطيط والعمل على إنجاز مستوى مقبول لهذه المشكلة كان يواجه مشكلات كبرى  تمثّل السدّ المنيع أمام القوى الوطنية، ولعل من بين هذه المشكلات العارضة جعلُ “مشكلة الباحثين عن العمل” منفذا لاستغلال الدولة وميزانياتها؛ فقد استغلت المؤسسات الخاصة التي روّجت ردحا من الزمن مزاعم رفع مستوى الكفاءة الوطنية للقوى الشابة عبر تسليع التدريب وبيعه للدولة بوصفه سلعة تحل ضعف المخرجات التعليمية؛ فتسليع التدريب في هذا الإطار لم يقدم حلا وطنيا بقدر ما كان مشكلة أخرى تستنزف المال وتراكم أعداد الباحثين عن العمل؛ فالدولة خلال الفترة الماضية فصلت بين بيئات العمل وبيئات التدريب فوقعت المؤسسات العامة في قضية أفرزت بسبب الفصل بينهما جانبين مشكلتين:

أولا: صناعة معتقد يتراكم ويتواءم مع تسليع التدريب واستغلال الموارد وتضخيم العمالة الوافدة؛ فحواه أن الشاب العماني يعدُّ ضعيفا في أداء العمل، ولا يمتلك مقومات المنافسة، ولم يتولد هذا الاعتقاد إلا من رحم “تضارب المصالح” فالنافذون من المسؤولين هم أصحاب المؤسسات الخاصة في الأسواق وهم صنّاع القرار في السلطة التنفيذية والتشريعية والرقابية في شمولية واقعية ومركزية واضحة، وهم شركاء الوافدين الذي استغلوا السوق العمانية استغلالا جعلهم يتوغلون في أروقتها، تلا ذلك أن الدولة أسهمت في تكريس هذا المفهوم في الخطط والتقارير والإعلام وفي بيئات العمل؛ وبذلك فصلته وعزلته في بيئات تدريبية خارج بيئات العمل؛ فلم تزد مؤسسات التدريب إلا أنها زادت فترة الانتظار للوظيفة والأمل؛ لأن مؤسسات التدريب كانت في كثير من الأحيان مملوكة أو لها علاقة -كما أسلفتُ- بالمسؤولين أنفسهم؛ فوقّعت هذه المؤسسات الخاصة اتفاقيات التدريب وروّجت للدولة ردحا من الزمن أنها قادرة على رفع كفاءة العامل العماني الراغب في العمل؛ وتجاهلت الحقيقة الأساسية أن التدريب الواقعي هو التدريب في بيئة العمل؛ ولذلك كله أسباب كثيرة من بينها تنحية المصلحةُ الوطنية للسلطنة والعمل على تكوين الثروات الخاصة استغلالا للمال العام.

زد على ذلك غياب الدراسات العلمية والمنهجية التي تقارن بين مستوى أداء القوى الوطنية الفعلي، ومستوى أداء الوافد الذي تعود على نظام مجتمعه وروتينه وثقافته؛ فأصبحت المشكلة معقدة ومزدوجة وتفتك بالتنمية المستقلة مع وجود إدرات آسيوية تشتغل لمصالحها الشخصية؛ بل وصل الأمر أن هذا الاعتقاد المروّج له في الثقافة العمانية تم رفعه إلى أعلى درجة من درجات المسؤولية الوطنية؛ إذ إن من بين هؤلاء المسؤولين من روّج للدولة بضرورة تعمين الوظائف والأعمال التي تعد في مستوى الوظائف العمالية الدنيا، مما ولّد التناقض مع الاعتقاد المتداول، وتاليا أسهم في بناء “ثقافة مضللة” للرأي والعلم والمجتمع؛ فأغلقت “البقالات الصغيرة” بحجة أنها تُؤوي الوافدين وفتحت أمام الوافدين الأبواب لبناء “الهايبرماركتات” الضخمة بأسماء عمانية أو شراكات وهمية، وفتحت للشباب العمانيين صهاريج الماء، وشاحنات النقل وتركت الوظائف القيادية والفنية تتنامى تحت سيطرة الوافدين، وقس على ذلك كل المجالات لفهم القضية بمستوى أعمق.

ولذلك نجد الخطاب السامي تناول القضية ذاتها التي نقلها المسؤولون إلى صاحب الجلالة (حفظه الله ورعاه) نقلا لا يخلو من تضليل، ففي العام (1995) والذي يعد عاما مفصليا وبوابة للدخول إلى إستراتيجية التنمية الشاملة (2020)؛ ينص الخطاب السامي العفوي الصريح في سيح الخيرات على وجود “أعمال يرى البعض أنها ليست من مستواهم ويتعففون عنها ويتعالون؛ فالشعوب التي تتعالى عن العمل مهما كان ذلك العمل لن تنجح في تقوية اقتصادها” وبهذه الثقافة فشلت مخططات مشروع سند، وتعمين البقالات وصهاريج الماء والنقل والوظائف العمالية بسبب توغل العمالة الآسيوية برؤوس الأموال، والنظام الائتماني وشبكة العلاقات الخفية بين عناصرها وضعف الأنظمة الرقابية والروتين وغياب التشريعات التي تبني اقتصادا معتمدا على الاستثمار الحقيقي، ولك أن تسأل: أي نوع من الوظائف التي تعفّف عنها العمانيون؟ ولماذا لم يتعفف العمانيون قبل ذلك وهم المهاجرون إلى دول الخليج للعمل، وهم المديرون لأسواقهم في مطرح ونزوى وإزكي وسائر المحافظات، والقائمون على الصيد والرعي والزراعة؟ أيُّ خرافة مضللة بناها هؤلاء لتضخيم ثرواتهم على حساب الوطن؟ ولماذا وعود التعليم والتدريب ومخرجاتهما تختلف عن الواقع؟ بيد أن الأدهى والأمر  أننا لم نستوعب أوضاعنا بشأن هذا الملف الوطني الذي لا يحتمل التأجيل أو الحلول الظاهرية أو السريعة كتضخيم مؤسسات القطاع الحكومي العسكري أو المدني.

ثانيا: ارتكبت المؤسسات المعنية باستيراد العمالة الوافدة مغالطة منطقية عجيبة؛ فهي تعزل العماني عن بيئات العمل وتقذف به في بيئات التدريب المنفصلة باعتبار ضعفه التعليمي أو أن يقبع في عالم الانتظار، علاوة على ضعف الأجور آنذاك؛ ولكنّها في الجانب الآخر  الموغل في التناقض تضع الوافد الأقل تعليما، والأقل مهارة في بيئة العمل مباشرة حتى يستطيع إنجازه بدرجة ما؛ وهذه المشكلة أدت إلى مسارين متنافرين هما: ازدياد مستوى الأمن النفسي للعامل الوافد ولا سيما بعد ظهور النافذين من الوافدين في سوق العمل العمانية وسط علاقاتهم القوية مع المؤسسات ومسؤوليها، وانهيار مستوى الأمن النفسي عند الشاب العماني الذي أصبح يعالج مصيره المجهول، مما أدى إلى تفاقم أعداد الوافدين؛ وازدياد الباحثين عن العمل؛ لذلك أشار الخطاب السامي إليها في العام (1995) بأنها “بطالة مصطنعة وليست بطالة حقيقية، ونستطيع أن نؤكد على هذه الحقيقة من معطيات التعداد السكاني؛ إذ أظهر هذا التعداد وجود عمالة وافد تقدر بنصف مليون عامل وافد، في حين يصل حجم المحتاجين للعمل بما لا يتجاوز ثلاثين ألفا في الوقت الحاضر، فأيّ بطالة في وضع يعتمد على نصف مليون عامل وافد وثلاثون ألف مواطن محتاجون للعمل؟”؛ لذلك فإن أي حلّ لمشكلة الباحثين عن العمل بعيدا عن حقيقة استفحال الوافدين وتوغلهم في السوق العمانية إنما هو حل زائف وليس حلا حقيقيا كما يفسر الخطاب السامي؛ فإذا كانت المؤسسات المعنية تمتلك هذه الإرادة في المستويات العليا؛ فلماذا تستمر المشكلة وتتحول إلى تقديم حلول غريبة؟

وفي ضوء مراكمة هذه المشكلات مع الأنظمة التقليدية العجائبية في استقدام العمالة الوافدة وبثها في المجتمع العماني، ظهر ما يسمى بـ”هروب العامل” لتمتلئ صفحات الجرائد اليومية بصور العاملين الآسيويين الهاربين، وهي مشكلة لم تكن وليدة اليوم؛ ففي الخطاب السامي (1995) إشارة صريحة إلى “أن من بين النصف مليون عامل وافد يوجد أقل من نصفهم من الذين لهم عناوين معروفة ويعملون في مؤسسات وشركات معروفة عناوينها، ومعروفة طبيعة الأعمال التي يمارسونها، أمّا البقية فهي عمالة مسرحة وسائبة وليس لها عناوين معروفة وليس لهم مؤسسات يزاولون من خلالها عملهم، وإنما يعملون في ظل كفالة أفراد”؛ وهذا لا يدل إلا على وجود نظام لاستقدام العمالة مع ضعف الرقابة وتوفير الحلول “المصطنعة” مما سهّل عمليات الاستقدام وإغراق المجتمع بهذه العناصر الهدّامة للاقتصاد الوطني، وما على المواطن إلا أن يضع فيما سبق “إعلانا” في زاوية صغيرة من زوايا الصحف عن “هروب إنسان” من “الوطن” وإلى “الوطن” ثم للمواطن والوزارة أن يستقدموا عاملا بديلا نفتح له باب “الهروب” من الوطن وإلى الوطن وهكذا منذ عقود حتى ضج المجتمع بالوافدين الذين يتسولون العمل في جنح الظلام وعند غياب الرقابة. فهل تدرك وزارة القوى العاملة والجهات التخطيطية والتنظيمية أن التطوير الحقيقي بشأن المشكلات إنما هو تطوير للفكر قبل أن يكون تطويرا للبرامج التقنية وغيرها؟

أن يخرج مجموعة من الوزراء على شاشة التلفزيون لمناقشة هذه القضية، سواء أكانت المشكلة من اختصاصاتهم واهتماماتهم أم لم تكن كذلك ليس حلا لها؛ بل إن هذا المسار  جزءٌ من المنظومة السابقة التي لا تُحسن القراءة للقضية ولا تريد اكتشاف جذور المشكلة أو تتجاهلها، وتشتغل على الوعد بالإنجاز عبر توزيع أعداد “الباحثين عن الأمل” بأي طريقة كانت كما هو واضح للمتابعين؛ بل إن هذه الفئة لا تريد أن تعالج المشكلة؛ فأعداد العمالة الوافدة في ازدياد مع تراكم السائبة منها علاوة على ما تفرزه من تأثير سلبي على البنى الاجتماعية والديمُغرافية، وما لذلك من آثار مختلفة مثل ظهور التجارة المستترة وبيع المأذونيات وانحدار مستوى التنافس الحقيقي والواقعي لسوق العمل، وظهور المؤسسات الوهمية، والاعتماد في سوق الخدمات والمنتجات من القطاع الخاص على مناقصات الحكومة بأسعار خيالية، وانحدار قيمة الوظائف التي يشغلها الآسيويون بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني، وما ينبثق عن ذلك من ازدحام واختناق مروري وارتفاع حالات التسول والجريمة!

أعتقد أن الخطوة الأساسية لحل هذه المشكلة التي تفتك باقتصادنا ومجتمعنا، يكمن في أمرين: أولهما إدراك أننا صنعنا مشكلة يكمن حلّها في اقتلاع الجذور واقتلاع أي مسؤول أسهم وما يزال يسهم في تزيين المشكلة ومراكمتها، ودون هذا الاعتراف والإدراك لن نتقدم خطوة، ونحن بذلك نراهن على أمن السلطنة واستقرارها، وثانيهما: أن الاقتصاد الحقيقي هو الاقتصاد الذي يعتمد على التنمية المستقلة التي تبنى بالقوى الوطنية وتبني إنسانا قادرا على المنافسة وسط بيئة تشتغل بديناميكية ونظام؛ لذلك فعلينا أن نخفف من وطأة العمالة الوافدة بتقديم تصنيف حقيقي وشفاف عن وظائف العمالة الوافدة، وما يرتبط بها من العقول النافذة التي يهمها امتصاص الاقتصاد العماني على حساب الوطن؛ إذ لا يمكن إنكار أن كثيرا من المؤسسات العملاقة في السلطنة في قطاع السيارات والأدوية والهندسة والصحة إنما هي شبه مستعمرات آسيوية، ولا يمكن حل المشكلة إلا بتقديم أرقام حقيقية مصنفة عن الوظائف الفعلية التي يشغلها الوافد في القطاعين، ووضع شروط وطنية لتعمين تلك الوظائف.

وبنظرة فاحصة نلاحظ أن الأعداد كانت تتسارع في الارتفاع في كل القطاعات ففي العام (2005) كان إجمالي الوافدين في قطاع الخدمة المدنية (15,816) وقفز الرقم خلال عقد واحد فقط إلى أن بلغ (23,988) وافدا في العام (2014)، وفي قطاع آخر مثل ديوان البلاط السلطاني نجد عدد الوافدين في العام (2005) بلغ (2,909) حتى وصل إلى (5,956) أي بنسبة تصل إلى 50% في العام (2014) وفي العام (2005) كان عدد العمانيين المسجلين في التأمينات الاجتماعية (98,537)  بينما كان عدد الوافدين الحاملين للبطاقات سارية المفعول في العام نفسه (424,788) ولم تلتفت الحكومة آنذاك إلى طبيعة الأعمال المزاولة من العمالة الوافدة على الرغم من وجود تحديات ترتبط بذلك في إستراتيجية (2020).

يشير هذا العدد المسجل إلى ما أشار إليه الخطاب السامي من ظاهرة العمالة السائبة أو غير المسجلة، وقفز العدد المسجل من الوافدين في العام (2014) إلى (1,510,393) ولك أن تتخيل أعداد الهاربين في هذا العام خلال تراكم الهروب في عقد كامل؛ لذلك فإن الحل الحقيقي لا يكمن في تقديم الأرقام الإجمالية بقدر ما يكمن في تفصيل الأرقام وتوصيفها للتغلب على الظاهرة. ويمكن أن نسأل: ما الأعمال الجبَّارة التي يقدمها الوافد في كل القطاعات ولا يستطيع العماني تقديمها؟ ولنفترض أن الأعمال الجبارة التي يقدمها الوافدون العباقرة  لا يستطيع العماني مزاولتها أو تقديمها، وهذا يعني أن النتيجة الفعلية لاقتصادنا بسبب وجود عباقرة الوافدين في الوطن هو الاقتصاد المنافس؛ بيد أن الحقيقة صادمة في كل التقارير الوطنية والدولية، وما قدمته في ذلك من أرقام إنما هي إشارات لوجود مشكلة حقيقية تنتظر الحل الجذري بعيدا عن الحلول التي تزيد حدة المشكلة.

الرابع والتسعون سياسة

عن الكاتب

سعود الزدجالي