(الموت لا يستطيع أن يحبس أحدًا إذا ما كنا أكبر منه)
عبدالله حبيب
مفاتيح ضئيلة سماوات واسعة
١. لقطة:
“لا بد للقناع أن يُنتزع إذا كانت هناك رغبة حقيقية في إنقاذ البشرية”
ص٢١٤، النحت في الزمن
أندريه تاركوفسكي، ترجمة أمين صالح.
٢. فلك الحب:
تصب النصوص التي يكتبها عبدالله حبيب دومًا في بحر أثير، ولها فلك تدور حوله، عندها جوهرها، وبكل ما في هذا الجواب الافتراضي من تبسيط وتكثيف ندعي أنه: الحب.
نصوصه تحب بطريقة تفيض عن الوصف وتحرس أدق تفاصيله، وحين نقول الحب فإنه ذلك الحب الخطير حد الهلاك وليس حباً آخر، الحب المجنون بما يحبه، الذي حين يحب يعطي القلب فعلاً وقولاً.
ربما نستشف شيئًا من هذه الحادثة الشخصية:
في يوم من أيام لندن في الثمانينيات، كان عبدالله حبيب على بعد سويعات من الانتحار، لكنّه بدافع حب ما دخل ليشاهد آخر فيلم في حياته وكان ذلك الفيلم هو القربان، الفيلم الأخير تحديدًا للمخرج الشاعر: أندريه تاركوفسكي، وهناك أنقذه الحب، بما بدا حينها ظاهريًا مجرد مصادفة قدرية فيما هو عناية حقيقية وحب، على كرسي السينما انتحرت فكرة الانتحار نفسها، ونجا هو:
(لولا ذلك الفيلم لما كنت بينكم) ص٣٥ مفاتيح ضئيلة.
لكنه أيضًا ليس بيننا اليوم. هنا لكنه ليس هنا. في السجن: لا أعرف أين يكون السجن أهو في الأمام أم في الخلف؟ أم يوازينا؟ تمضي الأيام نفسها، الزمن نفسه، لكنه زمن حبيس؛ نعم يمكن حبس الزمن بحبسنا نحن.
٣. كالنظر من النافذة:
نصوص من الحب الكامل بكل الشغف الحقيقي الصادق حد الجرح: (لا عشق في شعري وشرعي من غير اندلاق وذوبان) ص٣٦ مفاتيح، وبذلك الاندلاق والذوبان نفسه كتب نصوصه، انغمس في تجربة زودها بكل ما توفر له من أفكار واستراتيجيات وحرص واحترام، وأخلص لها حتى ترك كل شيء، كل شيء؛ انطلق يكتب حبه في فضاءات جمالية متعددة، لذلك الحب هو الآن كاتب خالص، نقي، مكتمل: حبيب.
يكرر عبدالله حبيب التأكيد على أسمائه وشخصياته، والتكرار دليل حب صادق قوي، بالغ الجذور باسق الأغصان ومتين الجذع، فمع أن كل ورقة في الشجرة وكل زهرة وكل ثمرة مختلفة في حد ذاتها ومستقلة، لكن كل ورقة وكل زهرة وكل ثمرة تشير وتؤكد على الشجرة نفسها. وهو أشار إلى أنه التزم بتلك التقنية عن عمد ووعي، نصوصه مثل النظر إلى العالم والتطلع إلى الحياة من نافذة بيت الكاتب، إنها كتابة لكنها على نحو حاسم مشاطرة الحياة.
٣. مسئولية الحب:
الحب أساسي، جذر، ولذلك هو حاضر بقوة في نصوصه، له صور ضوئية متعددة، في الصميم، صميم الفعل القلبي، وصميم الوجود الغامض المتلاشي، حتى خسران الحب له صورة في الصميم:
الحب/ خسران الحب. ١٥٧، فاطمة.
الحب صعب، خطر، يوازي خطورة الوجود؛ وحتى اللغة على قدراتها ومهاراتها وخيالاتها قد لا تفهمه: اللغة (أيضاً) لا تستطيع أن تفهم الحب/ ظننت دوماً أنه لا يصير الحب حباً إلا إذا كان نفياً للغة. ص١٢٣ صخرة عند المصب.
الحب بهذا الشكل الحي من بين الأشكال يصبح وطناً دائماً، بالنسبة لهذا الإنسان المتفرد، وحده، يمضي في هذا الكون: اكتشفت بعد غير قليل من التجارب أني وحيد تماماً في النهاية. ص١١٣ صخرة المصب.
يدرك أنه وحيد، ينغمس في وجوده، إنساناً في كون شاسع، بلا تردد بل يحرص على فردانيته ويتحد بها، لأنها الفردانية التي يحتاجها كل كائن منا كي يعيش ويحيا تجربته الوجودية ويعرف كينونته بكل طاقاتها، ويحب.
في نصه هو عاشق لا يريد أكثر من عشقه، حتى من الحب لا يريد أكثر من الحب، بل حتى ذلك الحب نفسه لا يريده أن يكبر ويشيخ بل أن يظل حبّاً إلى الأبد، لذلك يحرسه، مهما بلغت التضحية، من أي تغيير: إنني أبكي بدل الدموع أحجاراً من دم الروح لأني لا أستطيع أن أساعدك، ولا أستطيع أن أساعد نفسي. ص١١٤ صخرة المصب.
مستعد دوماً للتضحية من أجل الحب، لأنه يدرك قيمته، ويدرك مخاطر رفقته في طريق منفرد، وهكذا يتخذ قراره بمسؤولية كاملة، ويتحمل عواقبه، فالقضية قضية مبدأ، فلا تضحية دون مبدأ متسامٍ، عالٍ، لا يمكن أن يدخل في المنطق والقوانين الأرضية الوضعية لأنه يخص السماء وقانونها:
“طريق الحياة لا يُقاس بمقياس بشري، بل يكمن في يد الخالق الذي على إرادته يجب أن يتكل”. ٢١٥، أندريه تاركوفسكي، تر. أمين صالح
٤. لقطة ٢:
مرة اقتبس حبيب سانت إغزوبري: بموت إنسان ما يموت عالم صغير.
ولنا أن نضيف: بسجن كاتب ما يسجن عالم كبير.
٥. الحب الكافي:
لأنه كتب عن حبيبته مرة:
لو أحببتها بما يكفي/ لما كان هناك حب.
تحبس الحرية نفسها طواعية بين أعمدة تلك الجملة.
٦. سجن الحب:
هل يمكن فعلاً سجن كل هذا الحب؟
الحب تعبّد عميق، تنصهر الحياة كلها في لحظة حب، والنص الذي يكتب الحب يريد أن يكتب الشوك والوردة، الرائحة والوخزة، العطر والدم، تحليق الوصال الشفاف وانهيار الهجران الصخري.
٧. قسوة ورحمة:
نكتشف مع الوقت كم نحن قساة جداً على مبدعينا، وكم هم أقوياء وعظماء ليقاوموا ويبقوا مبدعين رغم هذا المحيط المحبط، وهذه البيئة الجافية، صحراء في القلوب، نادرة فيها هي الواحات والظلال، لذلك يتمسكون دومًا بالسماوات الواسعة؛ لأنها تحوطهم وترعاهم بالحب.
٨. تحليل نفسي وإيمان:
لماذا يُسجن عبدالله حبيب؟ لأن المجتمع يريد أن يسجنه؛ ولماذا يريد المجتمع سجنه ؟ لأن المجتمع كما يبدو يعوزه حس الدعابة؟ ولماذا المجتمع معوز لهذا الحد؟
نقتبس إجاباتنا من كارل يونغ:
“كلما كان المجتمع كبيراً، وقامت معه العوامل الجمعية التي هي سمة كل جماعة كبيرة، على ثوابت محافظة تضر بالفردية، كان انسحاق الفرد أخلاقياً وروحياً أكبر وأعظم، ويختنق معه المصدر الوحيد للتقدم الأخلاقي والروحي في المجتمع.
.. من الحقائق المعروفة أن أخلاقية مجتمع ما تتناسب عكسياً مع حجمه، وذلك أنه كلما كان تجمع الأفراد أكبر انطمست منه العوامل الفردية ومعها الأخلاق، التي تعتمد كلياً على الحس الأخلاقي لدى الفرد والحرية الضرورية له.. من هنا كان كل إنسان أسوأ لا شعورياً وهو في جماعة، منه وهو يتصرف بمفرده، لأن المجتمع عندئذ يتحمل المسؤولية ويكون الفرد معفى منها إلى ذلك الحد.
..كلما كان التنظيم أكبر كانت أكبر وضاعته الأخلاقية وغباؤه الأعمى..
.. المجتمع إذ يؤكد بصورة آلية على الصفات الجماعية في ممثليه من الأفراد إنما يعطي للمتوسطية أولوية على كل شيء، يرسب في الأسفل ليعيش حياة البلادة والخمول بطريقة سهلة وغير مسؤولة، وعندئذ تساق الفردية إلى الحائط لا محالة.”
ص١٢٦، ١٢٧ البنية النفسية للإنسان، كارل يونغ، ترجمة نهاد خياطة.
أما عبدالله حبيب فلم يكتب وينشر غير اعتراف، أراد أن يمزح في فضاء يفتقر لحس السخرية، تلك الهبة الإلهية الجليلة، أراد أن يعترف من قلبه بتلقائية، بصدق، بحب، أي بما يليق بالوجود، ولأنه صاف رأى المجتمع نفسه في مرآة كتابته محل سخرية فلم يعجبه ذلك، أما هو فقد كتب مبكراً بكثير:
بلغت برهة من عمري تؤهلني لارتكاب بعض ثورات الاعتراف. ١٥/ ٢/ ٢٠١٠م
هل سيعيننا تاركوفسكي مجدداً؟
في بداية فيلم القربان يزرع البطل شجرة يابسة، يؤكد تاركوفسكي مركزية تلك الشجرة اليابسة، بوصفها رمزاً للإيمان ويورد قصة، تلك القصة نفسها وردت بشكل آخر في حكاية كتبها تولستوي اسمها ابن العراب، حيث على ابن العراب الراغب بالتوبة من خطاياه أن يسقي بفمه ثلاثة أغصان متفحمة من شجرة تفاح حتى تنمو وتعطي إشارة الحياة كما قال له الناسك: “حتى ترى هاته الأعواد تنمو وتينع وتصبح كل منها شجرة تفاح صغيرة، عند ذلك تكفر عن خطيئتك وتعلم في الوقت نفسه كيف يمكن اقتلاع بذور الشر من نفس الإنسان”
ص٥٩ بدائع الخيال، ليو تولستوي، تر. عبدالعزيز أمين الخانجي
“أيُّ يتمٍ هذا الليل
لا أحد فيه
لا أنت يا أنا
لا أنا يا أنت.”
فراق بعده حتوف
عبدالله حبيب