الأخلاق والعولمة

 

وخطوط الإنسان والقيم والخُلق

 

العولمة أحد المصطلحات المحددة للوعي الاجتماعيّ في أواخر القرن العشرين[1]، لذا يراها العديد نوعا من هيمنة الإمبرياليّة الأمريكيّة على العالم سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا، بل ودينيّا، وتسقط الأخلاقيّات المرادة من قبلها، ويراها بعضهم طريقًا لهدم الأخلاق بما يحقق لها جوّا في هيمنتها الاستعماريّة والرّأسماليّة.

وعموما قبل الحديث عن الجدليّة بين الأخلاق والعولمة لابدّ بداية من تأصيل مفهوم الأخلاق ذاتها، فالخلق في اللّغة بمعنى السّجيّة، ويعرّفه الجرجانيّ [ت 471هـ] بأنّه عبارة عن هيئة للنّفس راسخة يصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة ورويّة، فإن كانت الهيئة بحيث يصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا، سميت الهيئة خلقا راسخا[2]، وبمثل تعريف الجرجانيّ عرّف الأخلاق الغزاليّ [ت 505هـ] إلا أنّه قال: فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال المحمودة عقلا وشرعا سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصّادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة الّتي هي المصدر خلقا سيئا[3].

وكلام الجرجانيّ والغزاليّ فيه إشارة إلى جدليّة مصدر الأخلاق، فهناك نتائج متفق عليها عند الجميع فلاسفة ولاهوتيين أنّ الإنسان يتأثر خلقيّا بالدّين والثّقافة والمحيط والبيئة، وفي هذا يقول هانس كونغ [معاصر]: العالم موبوء بالتّطرف والعنف الدّينيين اللّذين يتم الوعظ بهما، وممارستهما باسم الدّين” غير أنّ ذلك لا يمنعهم أيضا من ملاحظة الدّور الإيجابيّ للأديان، خصوصا على صعيد الأخلاق الإنسانيّة العامّة[4]، ومع هذا تبقى الجدليّة قائمة منذ القدم: هل الأخلاق مصدرها ذاتيّ أم مكتسبة من العالم الخارجيّ، أم أنّ من الأخلاق ما هو ذاتي ومكتسب، ثمّ إذا قلنا إنّها مكتسبة فما مصدر ذلك الكسب؟ فقيل الخير والشّر [أي الأخلاق] عند كانت [ت 1804م] مصدرهما ومقياسهما العقل وليست الأفعال الخارجيّة، أمّا عند المعتزلة فالخير والشّر ذاتيان في الواقع وفي أفعال الإنسان وتصرفاته، ودور العقل هو إدراك الواقع بما فيه من خير أو شر[5]، ويرى محمود حمدي زقزوق [معاصر] أنّ الأخلاق الدّينيّة لا ترى هناك حاجة إلى البحث العلميّ في أساس الخير والشّر والفضيلة والرّذيلة، إذ إنّ الدّين قد وضع المبادئ الخلقيّة الّتي يجب على المسلم الالتزام بها حتى يكون فاضلا[6]، وكلامه بطبيعة الحال بعيد عن الصّواب؛ لأنّه في نظري الأخلاق مكتسبة من المصاديق الخارجيّة للذّات الإنسانيّة، والأديان جاءت لحث الكشف عنها، وتعزيز الأخلاق الحسنة كالصّدق والأمانة، والتّحذير من الأخلاق السّلبيّة كالكذب والخيانة.

لهذا من التّعريفات المعاصرة لعلم الأخلاق هو العلم الّذي يفسر لنا معاني الخير والشّر، ويوضح لنا الصّورة المثلى الّتي ينبغي أن يتبعها النّاس في معاملتهم للآخرين[7].

ومع بداية النّهضة في أروبا ظهر التّفريق بين القيم والأخلاق، فالقيمة مرتبطة بالثّبات والدّيمومة، كما أنّها متعلّقة بجميع الجنس البشريّ، دون تفريق بين جنس أو دين أو لون، وعليه كلّ قيمة خلق حسن، فيخرج الخلق السّيئ لتكون القيمة مفرزة له، فالعدل قيمة وعليه الظّلم خلق سيئ، ومنهم من يرى أنّ مفهوم القيمة ارتبط بالرأسماليّة الغربيّة، ومنهم من جعلها رهينة الإمبرياليّة الأمريكيّة لتصدير الأخلاق الّتي تخدم الهيمنة الأمريكيّة خصوصا في العالم.

ولهذا ارتباط الأخلاق بالعولمة في حدّ ذاته ارتباط جدليّ كبير، سواء من خلال التّلاعب بأخلاق الأمم الأخرى، أو الهيمنة عليها، أو محاولة التّخلص من بعض الأخلاقيات تحت مفهوم العولمة، والسّؤال البدهيّ هنا قبل إدراك مفهوم العولمة لابدّ من طرح سؤال: متى بدأت العولمة؟ وهنا سيختلف الباحثون في الإجابة عن هذا السّؤال، إذ يرى حسن حنفيّ [معاصر] أنّ العولمة ليست ظاهرة جديدة؛ بل قديمة قدم التّأريخ، عندما كانت تتصدر حضارة ما كباقي الحضارات وتقود العالم، قام بذلك مجموع الشّرق مرة في الصّين والهند وفارس وما بين النّهرين وكنعان ومصر القديمة، وقامت بذلك الحضارة الإسلاميّة[8]، بيد أنّ ريتشار هيجوت [معاصر] يرى أنّ العولمة جاءت في أعقاب الحرب البارة كمرحلة تاريخيّة، وقد تمثل النّظير الاقتصاديّ للصّراع الاستراتيجيّ الثّنائيّ القطب للحرب الباردة عقب الحرب العالميّة الثّانيّة في مشروع الاتجاه التّنمويّ فيما بعد حقبة الاستعمار، الّذي استقر من خلاله الاقتصاد الرّأسماليّ[9]، وبعضهم يرى أنّ العولمة بدأت منذ الكشوف الجغرافيّة في القرن الخامس عشر[10].

وأيا كان؛ فالعولمة ارتبطت بالهيمنة الغربيّة والأمريكيّة خصوصا بسبب الوسائل المتاحة، والنّهضة المتطورة في القرن العشرين، من الصّحافة والإذاعة والتّلفاز وحتى الفضائيات والشّبكة العالميّة، مروا بوسائل النّقل الحديثة، وسهولة السّياحة، والقوّة الماليّة والاقتصاديّة والسّياسيّة عند الغرب، وتحكمهم في الجملة بالشّرق وثقافته، وهذا ما تهيأ بعد سقوط الاتحاد السّوفييتيّ في نهاية القرن العشرين الميلاديّ، ولهذا أطلق ريتشار هيجوت على العولمة مصطلح الاستعمار[11]!!

فمع عدم وجود تعريف مشترك للعولمة له حدّه ومنهاه، يبقى القدر المشترك بين المعاصرين والباحثين الشّرقيين والغربيين أنّ العولمة نوع من هيمنة القويّ على الضّعيف، والغني على الفقير، أو هيمنة الغرب على الشّرق، وأعلا من هذا الهيمنة الأمريكيّة على العالم!!

هذه الهيمنة ستؤثر بلا شك على الإنسان ككل، من هنا بدأ الباحثون الغربيون بقوّة مؤخرا، من اللّاهوتيين والعلمانيين في إحياء ثقافة الإنسان، فلابدّ للبشر من أن يكونوا دائما موضوعات حقوق، يجب أن يبقوا غايات لا وسائل على الإطلاق، لا أشياء قابلة للتّسليع والتّصنيع والاتجار في ميادين الاقتصاد، والسّياسة ووسائل الإعلام، في معاهد البحوث والمؤسسات الصّناعيّة[12]، فكلّ كائن بشريّ دونما تمييز على أساس السّن والجنس والعرق والبشرة واللّون والقدرة البدنيّة أو الذّهنيّة واللّغة والدّين ووجهة النّظر السّياسيّة أو الجذور الاجتماعيّة يتمتع بكرامة ثابتة لا يمكن المساس بها[13]، وسبق في هذا القرآن الكريم إذ قرر أن من قواعد الجنس البشريّ قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء/ 70].

فيكون عندنا ثلاثة خطوط في مواجهة هيمنة العولمة سلبيّا: الإنسان، والقيمة، والخلق، أمّا الإنسان فهو أصل واحد، كان مؤمنا أم غير مؤمن، وأيا كان دينه وتوجهه، له حق الحياة، وحق التّمتع بالحياة[14]، وفي هذا يقول بيتر مارتن [معاصر]: فمن غير الأخلاقيّ حقا إقصاء تطلعات وطموحات العالم الثّالث لمجرد المحافظة على ما يوفره نمط خاص من العمل الغربيّ من راحة[15]، وأطير فرحا حين أقف على طموحات فقراء العالم الثّالث وأحلامهم، على رغبتهم في تحقيق الثّروة والازدهار والحريّة[16]!!

وأمّا القيمة فهي الخلق المشترك بين البشر جميعا، ولا يفرق بذلك جنس أو دين أو لون أو عرق، كالأمانة والرّحمة والعدل والمساواة والوحدة، ويدخل في هذا المقاصد الحافظة لكليات الشّرع الخمس أو السّت: الدّين، والنّفس، والعرض، والنّسل، والعقل، والمال، وهي الّتي يسميها ابن عاشور [ت 1973م] بالانضباط، حيث يكون للمعنى حدّ معتبر لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه، بحيث يكون القدر الصّالح منه لأن يعتبر مقصدا شرعيّا قدرا غير مشكك، مثل حفظ العقل إلى القدر الّذي يخرج به العاقل عن تصرفات غير العقلاء[17]، ولهذا يرى هونس كونغ أنّه في غياب الأخلاق والانضباط الذّاتيّ ستبقى البشريّة محكومة بالنّكوص والعودة إلى حياة الغابة، في عالم يعيش حالة غير مسبوقة من التّغيير تكون البشريّة فيه بحاجة ماسّة إلى قاعدة أخلاقيّة تقف عليها[18]، وعليه لابدّ للأخلاق من أن تتقدّم على السّياسة والقانون؛ لأنّ الفعل السّياسيّ مهتم بالقيم والاختيار، ومن ثم فإنّ على الأخلاق أن توجه وتلهم قيادتنا السّياسيّة[19].

أمّا الأخلاق فهي أقرب إلى السّجايا في صورتها العامّة، لذا قد تختلف من بيئة إلى بيئة، وتتأثر بالظّرفيّة الزّمانيّة والمكانيّة، وبالهويّة والثّقافة، والعادات والتّقاليد والأعراف، وهنا كما أنّه لا يصح الهيمنة على الأمم الأخرى، إلا أنّ أحيانا الهيمنة لزوميّة طبيعيّة؛ لأنّ الضّعيف بطبعه يقلّد ويتأثر بالقويّ، فالقوة السّياسيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة كما أنّ لها تأثيرا في الأخلاق والسّجايا من حيث الهيمنة والتّصدير إن صح التّعبير، لها أيضا التّأثير من حيث الحفاظ والأصالة والبقاء.

والإشكاليّة عندما تهضم الأمم الضّعيفة، وتسرق هويتها، وتسلب منها خصوصيتها، هنا كما يرى حسن حنفي أنّه بمقدار ما يزداد التّغريب في المجتمع، وتنتشر فيه القيم الغربيّة، والعادات الغربيّة، وأساليب الحياة الغربيّة، خاصّة عند الصّفوة الّتي بيدها مقاليد الأمر مع شريحة كبيرة من الطّبقة المتوسطة، يزداد تباعد الجماهير عنها واتجاهها إلى ثقافتها، وتمسكها بتقاليدها، فالفعل يولّد رد الفعل المضاد، فتنشأ الأصوليّة عن حق، دفاعا عن الأصالة، وتمسكا بالهويّة[20]، فالأصوليّة هنا قد تتجه نحو التّطرف للحفاظ على ما بقي من هويّة وأصالة في مقابل التّغريب والهيمنة الثّقافيّة الخارجيّة!!

لهذا في عالم مفتوح اليوم، نتيجة وسائل التّواصل، والشّبكة العالميّة، ونتيجة الامبرياليّة الغربيّة عموما والأمريكيّة خصوصا، مع ظهور ثقافات قويّة أيضا كالصّين وكوريا واليابان، وبداية انتعاش ماليزيا وتركيا، وعودة إيران إلى الخريطة المؤثرة عالميّا ودينيّا، فنحن أمام جدليّة معقدة مستقبلا، الخلاصة فيها في نظري مقابلة هذه الهيمنة بالعولمة الثّقافيّة تحت ظلّ الخطوط الثّلاثة: الإنسان والقيم والأخلاق تحت مسمى العولمة أو الكوكبة أو الكونيّة أو الأقلمة فهذا لا يهمّ كثيرا في حدّ ذاته، بحيث تكون العولمة في جوهرها عنصر صناعة للإنسان أيّا كان، وعنصر بناء له، مع تحقيق القيم المشتركة في بنائه وقوته، مع الحفاظ على خصوصية الأمم وأديانها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها، وأنّ التّنوع في هذا يثري ويبني، وليس يهدم وينقض!!

 

_______________________

[1] هيجوت: ريتشار؛ العولمة والأقلمة: اتجاهان جديدان في السّياسات العالميّة، ط مركز الإمارات للدّراسات والبحوث الاستراتيجيّة، أبو ظبيّ/ الإمارات العربيّة المتحدة، ط1، 1998م، ص: 3.

[2] العبريّ: بدر؛ القيم الخلقيّة والإنسان: رؤى وتأملات في المفاهيم القرآنيّة، ط دار سؤال/ لبنان، الطّبعة الأولى، 2016م، ص: 15.

[3] السّيد صالح: سعد الدّين؛ قضايا فلسفيّة في ميزان العقيدة الإسلاميّة، ط جامعة الإمارات العربيّة المتحدة، ط1، 1418هـ/ 1998م، ص: 266.

[4] كونغ: هانس؛ أخلاق عالميّة أساس لمجتمع عالميّ؛ منشور ضمن كتاب: العولمة الطّوفان أم الانقاذ؟ الجوانب الثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، تحرير: فرانك جي، وجون بولي، ترجمة: فاضل جكتر، ط المنظمة العربيّة للتّرجمة، بيروت/ لبنان، ومركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت لبنان، ط1، 2004م، ص: 86 – 87.

[5] السّيد صالح: سعد الدّين؛ قضايا فلسفيّة في ميزان العقيدة الإسلاميّة، مصدر سابق، ص: 264.

[6] زقزوق: محمود حمديّ؛ علم الأخلاق، ط دار الفكر العربيّ، القاهرة/ مصر، ط4، 1993م، ص: 13.

[7] زقزوق: محمود حمديّ؛ علم الأخلاق، مصدر سابق، ص: 13.

[8] حنفي: حسن، والعظم: صادق جلال؛ ما العولمة، ط دار الفكر المعاصر، بيروت/ لبنان، ط2، 1422هـ/ 2002م، ص: 17.

[9] هيجوت: ريتشار؛ العولمة والأقلمة: اتجاهان جديدان في السّياسات العالميّة، ط مركز الإمارات للدّراسات والبحوث الاستراتيجيّة، أبو ظبيّ/ الإمارات العربيّة المتحدة، ط1، 1998م، ص: 3.

[10] حنفي: حسن، والعظم: صادق جلال؛ ما العولمة، مصدر سابق، ص: 17.

[11] هيجوت: ريتشار؛ العولمة والأقلمة: اتجاهان جديدان في السّياسات العالميّة، مصدر سابق، ص: 3.

[12] كونغ: هانس؛ أخلاق عالميّة أساس لمجتمع عالميّ؛ منشور ضمن كتاب: العولمة الطّوفان أم الانقاذ؟ الجوانب الثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، مصدر سابق، ص: 88.

[13] المصدر نفسه، ص: 88.

[14] للمزيد ينظر: العبريّ: بدر؛ القيم الخلقيّة والإنسان: رؤى وتأملات في المفاهيم القرآنيّة، مصدر سابق، ص: 123 وما بعدها.

[15] مارتن: بيتر؛ ما يسوّغ العولمة أخلاقيّا؛ منشور ضمن كتاب: العولمة الطّوفان أم الانقاذ؟ الجوانب الثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، مصدر سابق، ص: 32.

[16] المصدر نفسه، ص: 32.

[17] ابن عاشور: محمد الطّاهر؛ مقاصد الشّريعة الإسلاميّة، تحقيق محمد الطّاهر الميساويّ، ط دار النّفائس، الأردن، الطّبعة الثّالثة، 1432هـ/ 2011م، ص: 253.

[18] كونغ: هانس؛ أخلاق عالميّة أساس لمجتمع عالميّ؛ منشور ضمن كتاب: العولمة الطّوفان أم الانقاذ؟ الجوانب الثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، مصدر سابق، ص: 87.

[19] المصدر نفسه، ص: 87.

[20] حنفي: حسن، والعظم: صادق جلال؛ ما العولمة، مصدر سابق، ص: 56.

الخامس والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

بدر بن سالم العبري

باحث وكاتب عماني