إن التخصص في الدين كدعوى نسعى إلى تحليلها وإخضاعها للنقد تستوجب أن نبين أولا المقصود بها، فمقولة “إن أمور الدين لا يتكلم فيها إلا المتخصصون” التي راجت في أوساط المحافظين الدينيين أصبحت كثيرا ما يتم تكرارها لأجل الخروج بنتيجة مفادها أن إبداء أي رأي في العقائد الدينية أو الأحكام الفقهية لا يحق لأحد سوى لأهل التخصص، وذلك قياسا إلى العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والعلوم الإنسانية كالسياسة والتاريخ والقانون؛ فجميعها تخصصات لها أهلها وعلماؤها، وهم لا غيرهم المخولون بالنظر فيها.
وسنتناول الموضوع من جهتين، الأولى هي تحديد المقصود بمصطلح (أهل الاختصاص) فالملاحظ أنه حين يصدر من المذهبيين أو المحافظين الدينيين يكون المقصود به هم رجال الدين الذين تصدر عنها تلك الفئة المحافظة فقط لا غير، أما الجهة الثانية فهي دراسة أوجه الشبه بين علوم الدين، وما يقاس بها من علوم أخرى كالطب، والفيزياء لنتحرى مدى مشروعية هذا القياس.
* من هم أهل الاختصاص الديني ؟
لنبدأ أولا مع تحديد المقصود بأهل الاختصاص الديني المشار إليهم في المقولة أعلاه، فهل يكفي الحصول على شهادة جامعية في علوم الدين المختلفة (الفقه، العقيدة، الحديث .. الخ) ليكون المرء من أهل الاختصاص؟ وإن كانت الإجابة بنعم فهل يمتد وصف “أهل الاختصاص” في هذه الحالة ليشمل دارسي علم الأديان المقارن، وعلم تاريخ الأديان؟ إن استقراء المواضع التي ترد فيها هذه الدعوى تدلنا على أن المقصود بهذا المصطلح هم شيوخ الدين وعلماء الإفتاء والفضائيات الذين يوجهون الوعي الديني لجموع المسلمين وعامتهم عن طريق الوعظ والفتوى وحلقات العلم والتأليف، والملاحظ أن الشهادة أو المؤهل العلمي الأكاديمي لا يرد أي منهما كشرط لاستحقاق وصف “التخصص” هنا، وفي المقابل فإن كثيرًا ممن كانوا يعتبرون من “أهل الاختصاص” حسب التعريف السابق تم استبعادهم من هذه الدائرة، بل ومهاجمتهم عندما غيّروا بعضا من رؤاهم وتصوراتهم الدينية، لذلك فلا نبتعد عن الحقيقة إذا خرجنا باستنتاج مفاده أن “أهل الاختصاص” الدينيين هو مصطلح يتم توظيفه لإضفاء نوع من الصبغة الشرعية والموثوقية لصالح طرف مقابل نزعها من الطرف المقابل، وما يؤيد ذلك هو أن بعض خريجي المعاهد الدينية الذين سبق لهم وأن نالوا حظوة لدى التيار المحافظ تم رميهم بالجهل وعدم الأهلية ما إن قاموا بمراجعة ونقد التراث الديني وامتداداته في الحاضر.
* أزمة في الموضوعية
يقول المفكر عادل العوا إن دراسة الدين تتخذ نزعتين هما (النزعة الاعتقادية) التي ترى أن الدين – ومعه كامل الموروث الديني- هو نتاج إلهي خالص و(النزعة العلمية) التي تنظر إلى الدين باعتباره نتاجا اجتماعيا نفسيا متطورا تاريخيا، ما يجهله أو يرفض الاعتراف به المتعصبون الدينيون هو أن كل دين ساهم الناس في وضعه سواء بشرح النصوص المقدسة أو الزيادة عليها أو تعديلها؛ لذلك فإن جميع الأديان وضعية بدرجة أو بأخرى، إن الذين يدعون أن الدين تخصص كغيره من التخصصات لأجل الوصول إلى نتيجة مفادها أن شيوخ الدين هم فقط المخولون بالنظر والاجتهاد والبت فيه تغيب عن بالهم صفة مهمة لا تخلو منها بقية التخصصات العلمية ألا وهي صفة (الموضوعية)، ونعني بها انفصال الباحث عن قناعاته الذاتية عند دراسته لموضوع البحث، إذ إن النزعة الاعتقادية التي ينطلق منها رجال الدين تصطبغ بصبغة ذاتية فتقوم بمحاكمة المواضيع التي هي قيد البحث إلى اعتقادت المفكر وقناعاته الخاصة، وهذا هو سبب اختلاف المذاهب الدينية؛ إذ ينطلق أتباع كل مذهب من قناعات وعقائد مختلفة، ولو كانت الموضوعية حاضرة فيما يسمى بعلوم الدين لما وجدنا تعصب أتباع المذاهب لآرائهم، إن الموضوعية التي تتصف بها العلوم التطبيقية -التجريبية منها والإنسانية- تجعلها متقبلة لجميع الآراء المختلفة، وتعاملها على أنها نظريات قابلة للصواب والخطأ عن طريق مقاييس الإثبات المختلفة (كالتجربة والإحصاء) حتى ولو صدرت من غير المختصين، وعكس ذلك نجده في النزعة الاعتقادية الدينية التي لا تقبل أي رأي مخالف بدعوى صدوره من غير أهل الاختصاص، مع أن ذلك الرأي المخالف قد يكون موافقا لمذهب ديني مخالف، ويعد صادرا من أهل الاختصاص في ذلكم المذهب.
* الدين والسؤال الفلسفي
إن العقل البشري باعتباره أداة للتفكير منذ ظهور الإنسان العاقل الأول، طرح وما زال يطرح أسئلة وجودية تتعلق بماهية الوجود وكيفية ظهور الإنسان ومصيره بعد الفناء وعن علاقته بما حوله من عناصر الكون والطبيعة، والدين في جوهره هو أحد أبرز المحاولات للإجابة عن هذه الأسئلة، ولكن العقل الإنساني بفطرته لا يقنع بالأجوبة الإيمانية والتسليمية؛ لذلك فإن مساءلة القناعات والعقائد الدينية هو أمر مشروع حتى ولو صدر من إنسان أميّ أو جاهل فهو من صميم الفطرة البشرية، والمغالطة تقع حين يُقاس الشك الوجودي بالشك التجريبي، فأن يشكك أحد في دوران الأرض حول الشمس يستوجب أن يكون على دراية بعلوم الفلك وأسسها التجريبية، أما الشك في عقيدة أو مسلمة دينية كعذاب القبر أو استحقاق الجنة والنار فهو شك وجودي ينبع من طبيعة بشرية عقلية ليست محكومة بالتجربة المخبرية أو التلسكوبية، وكذلك الإجابة عنها حق للسائل نفسه حتى تستكين نفسه للجواب الذي يقتنع به عقله.
* درجات الثبوت و اليقين
قديما كانت الفلسفة هي العلم الوحيد الذي يبحث في جميع فروع المعرفة بمنهج واحد هو التفكير والنظر العقلي، ولكن تطور الفلسفة وظهور النزعة التجريبية أدى إلى انفصال العلوم تباعا عنها، فأصبح للعلوم التجريببة منهجها الخاص ثم تبعتها العلوم الإنسانية، وبناء على ذلك يمكننا تقسيم العلوم إلى مراتب تتفاوت من حيث درجة يقينيتها، فالرياضيات هي أعلى العلوم يقينية؛ إذ إن البراهين الرياضية غير قابلة لإعادة النظر (١+١=٢)، ثم تليها العلوم التجريبية، وهي أقل درجة من حيث اليقين؛ لذلك فهي تعتمد على الفرضيات التي يمكن إثباتها أو دحضها بالتجربة، خذ مثلا نظرية التطور فهي لا ترقى لدرجة ثبوتية البراهين الرياضية ويقينيتها؛ ولكنها قابلة للإثبات والدحض بالتجربة والملاحظة، تلي ذلك العلوم الإنسانية (كالتاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون) وهي أقل يقينية لأنها غير قابلة للتجربة؛ بل تتسم بهامش كبير من الافتراضات ويغيب عن مفرداتها الطابع اليقيني؛ بل منهجها قائم على النظريات والفرضيات ولكن بدون عنصر التجربة الذي تتميز به العلوم التجريبية، لذلك نجد أن معظم الناس يتكلمون في السياسة ويناقشون أوضاع المجتمع ويقومون بتحليل الاقتصاد، وهذا لا يعني أننا نجزم بصواب أو خطأ كلام غير المتخصصين في هذه العلوم، ولكن المقصد هو تبيان صفة النسبية الشديدة التي تتصف بها.
أما علوم الدين فإن النظر الموضوعي المجرد من المسلمات يقتضي أن يتم إدراجها مع الصنف الثالث – العلوم الإنسانية- إن لم يكن في صنف رابع أقل يقينية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنتها بحتمية الرياضيات، ولا بتجريبية الفيزياء والأحياء ولا بنظريات السياسة والاقتصاد، بل حتى الفرضية التي هي أقل درجة من من النظرية هي غائبة عن مجال التداول الديني، إن الشيء الوحيد الذي يستند إليه القائلون بأن الدين “تخصص” هو اعتمادهم على صدق وإطلاقية المصدر المعرفي الديني، وأقصد به الوحي، ولكنهم ينسون أو يتناسون نسبية فهم ذلكم الوحي وتفسيره، إن القول بأن الدين له أهله الذين يحق لهم فقط دون غيرهم أن يجتهدوا فيه وقياس ذلك إلى التخصص في الطب مثلا مرادف للقول بأن الفهم الديني قائم على مقدمات ثابتة ويقينية لا يختلف عليها اثنان تماما كثبات الأسس الطبية ويقينيتها، من هنا نرى مدى الظلم الذي يحيق بعقل الإنسان حين نطالبه بأن يسلم قياد فكره وقناعاته إلى غيره، مثلما يسلم الجسد نفسه إلى مشرط الطبيب و الجراح.
* اختصاص أم احتكار
إن المشكلة إجمالا تنبع من كون النص الديني، وهو المصدر المعرفي الرئيس في الدين، قد وضعت له قواعد وضوابط توجه عملية استنباط وفهم الغايات والمقاصد الدينية منه، وهذه القواعد والضوابط لم يتم تحديثها ومراجعتها منذ أكثر من عشرة قرون، ويرفض المحافظون الدينيون الاستفادة من الدراسات الحديثة المختصة في تأويل النصوص وفهمها، والحفر في بنيتها وظروف تشكلها، وينظرون إلى هذه الدراسات الحديثة باعتبارها طعنا في قدسية الوحي، هذا التحفز والتحيز ضد معارف العصر يذكرنا برفض وتحفز مماثل ضد علوم الإغريق الوافدة إبان حركة الترجمة التي قام بها المأمون، يؤدي بسيكولوجية جماهير التقليديين الدينيين ومريديهم إلى العودة بإصرار شديد إلى ميراث السلف والتمسك بفهمهم باعتباره لجوءًا إلى الذات وصونا لها ضد الآخر الغازي فكريا.
إذن فالدعوى القائلة (لا يتكلم في الدين إلا أهل الاختصاص) تبدو أشبه بالشعارات البراقة التي تحاول فرض نفسها كمقدمة غنية عن الإثبات لأجل تسويغ منع الناس وتخويفهم من إعمال العقل والاجتهاد في دينهم كما في دنياهم، وإن حاول أصحاب هذه الدعوى إثباتها فهم يفعلون ذلك عن طريق القياس الذي لا يصح إلا في العلوم القائمة على أسس علمية و تجريبية، ويتم كذلك تجاهل أن المحتوى الديني هو ملك للإنسانية بجميع أفرادها، وحق التفكير في هذا المحتوى وثيق الصلة بحق التفكير في الوجود الإنساني ذاته.