الإبحار نحو النجوم في سعة يحار فيها العقل!

 

 

وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات: 47)

 

 

غادرت مركبتا الفضاء (فويجر1) و (فويجر2) أطراف النظام الشمسي، مُبحرتين باتجاه نجوم مجرة درب التبانة؛ إذ من المتوقع أن تمر (فويجر1) بأقرب نجم إلى نظامنا الشمسي وهو نجم الظلمان القريب Proxima Centauri بعد 40 ألف سنة. وتبعد (فويجر 1) الآن أكثر من 13 مليار ميل من الشمس، وهي بذلك تعد أبعد جرم من صنع الإنسان يسبح في الفضاء الخارجي، وتستغرق إشارتها اللاسلكية حاليا للوصول إلى الأرض 19 ساعة ونصف الساعة مما نعد. وتسير الإشارات اللاسلكية بسرعة الضوء، الذي تبلغ سرعته نحو 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة  !

فويجر (1).

 

وقد أطُلقت المركبتان غير المأهولتين في شهري أغسطس وسبتمبر من عام 1977 وهما تسبحان في اتجاهين مختلفين من مجرة درب التبانة التي يبلغ عرضها مسيرة مائة ألف سنة ضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة شمسية واحدة مما نعد. وتتألف المجرة التي نعيش فيها من ما بين 100 مليار إلى250 مليار نجم. وسمّى العرب المجرة بدرب التبانة لأن أشكال نجوم السماء تشبه التبن المنثور. ويقال لها بالانجليزية (درب اللبانة) بسبب حزام مضيء في سماء الليل يبدو كلبن مسكوب يتألف من غبار (دخان) ونجوم تبدو مرصوصة للعين المجردة بسبب بعدها. وهي مجرة حلزونية أي ذات أذرع، ويبعد الذراع الذي يقع فيه نظامنا الشمسي عن مركزها مسافة 23 ألف سنة ضوئية أو يزيد. وتعد الأرض أحد كواكب النظام الشمسي التسعة (المعروفة حتى الآن) وتبعد عن الشمس مسافة 146 ألف كيلومتر (المسافة الأبعد هي 152 ألف كيلومتر في شهر يوليو).

درب التَّبانة – فويجر.

 

وغادرت المركبتان حافة الغلاف الشمسي الذي يعد أبعد نقطة في النظام الشمسي الذي يتألف من رغوة مغناطيسية تمتد لمسافة أربعة مليارات ميل.

وتعمل المركبتان بخلية وقود من البلوتونيوم 238 ستكفيهما حتى عام 2020، إذ ستتوقف بعدها جميع أجهزة المركبتين عن العمل؛ لكنهما ستستمران بعد ذلك في السباحة باتجاه نجوم المجرة بسرعة مقدارها (في المتوسط بالنسبة للشمس) 36 ألف ميل في الساعة.

 

وتحمل كل مركبة قرص فونوجراف (سنطور) من النحاس المطلي بالذهب أو ما يسمى  السجل الذهبي يضم 118 صورة من الأرض و90 دقيقة من الموسيقى الشعبية من مختلف أنحاء العالم، وأصوات طبيعية (منها أصوات الموج والرعد والحيتان والرياح)، والتحية بخمس وخمسين لغة في مقدمتها التحية باللغة الأكادية، لغة بلاد سومر قبل ستة آلاف سنة، والتحية الثالثة هي (السلام عليكم) باللغة العربية؛ إذ رتبت التحيات ترتيبا أبجديا حسب اسم اللغة بالإنجليزية. وتحية واحدة بلغة حيتان العنبر، ولغة حيتان العنبر عبارة عن “طقطقات” أبجديتُها تقفيلاتٌ اكتشف علماء أحياء كنديون منها حتى الآن 32 تقفيلة. والعبارة المسجلة باللغة العربية كاملة هي (السلام عليكم أصدقاءنا سكان النجوم. نأمل أن نلقاكم يوما ما). والتحية الأخيرة هي بلهجة (وو) وهي لهجة صينية حديثة.

القرص الذَّهبي.

 

وهدفت اللجنة العلمية التي أعدت القرصين من الصور والأصوات إلى بعث رسالة من سكان كوكب الأرض إلى أي حضارة في الفضاء الخارجي قد تعترض المركبتين لتتعرف على مصدرهما.  وستمر (فويجر1) بأقرب نجم إلينا بعد 40 ألف سنة، في حين ستمر (فويجر2) بأول نجم بعد 60 ألف سنة.

 

ويعد كتاب عالم الفضاء الراحل كارل ساجان وصحبه Murmurs of Earth (همهمات الأرض) أفضل كتاب عن السجل الذهبي ومحتوياته، وقد صدرت الطبعة الأولى منه عام 1978 و الثانية عام 1992 مصحوبة بقرص سي دي CD-ROM. والمؤلفون هم الذين اختاروا محتويات السجل، وهم الذين شاركوا في صنعه.

همهمات الأرض.

 

بيد أن شروط توفر حياة بيولوجية في الكون خارج الأرض ونظامنا الشمسي قد ارتفعت من شرطين إلى 400 شرط حتى الآن. وتقلص عدد الكواكب التي من المحتمل أن تكون كالأرض من مليارات الكواكب إلى بضعة آلاف كوكب، والتقلص مستمر. ومنذ إطلاق برنامج SETI في الستينيات من القرن العشرين إلى الآن لم يتم رصد أي إشارة لاسلكية عاقلة (تتضمن معنى)  أي إشارة من كائنات بيولوجية ذات عقل. وبرنامج سيتي يرصد ويسجل الإشارات اللاسلكية الواردة من الفضاء الخارجي بغية رصد إشارة عاقلة وليست عشوائية، ومنذ أن تم وضع تطبيقه على الإنترنت ساعدت ملايين الحاسوبات الشخصية على مستوى العالم في تحليل جزء من هذه الإشارات بما فيها حاسوبي الشخصي الذي حلل منذ عام 2000 ربع مليون حزمة إشارات، وأرسل النتائج إلى حاسوب البرنامج المركزي في جامعة كاليفورنيا بركلي. والنتيجة: صمت مطبق ! كما تشكل المسافات الشاسعة جدًا التي يعجز العقل عن تصورها، والتي تفصل بين الأنظمة النجمية؛ عائقًا كؤودًا عن السفر عبر الفضاء حتى بالنسبة لتقنيات المستقبل، فهناك حد للسرعة التي يستطيع البشر تحملها. وتقوم ناسا حاليا بدراسة إحداث حالة سباتٍ في رواد الفضاء، وهي حالة كحالة البيات الشتوي التي تحدث لبعض الكائنات الحية كالدببة القطبية؛ لكن حتى لو نجحوا في إحداث ذلك؛ فلن يكفي ذلك سوى السفر داخل نظامنا الشمسي، وستظل المسافات الفلكية خارج نظامنا الشمسي معضلة عويصة، فضلا عن الأخطار التي قد تتعرض لها هذه الرحلات التي بدون عودة.  قال تعالى ” يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (35)(الرحمن).

صورة الأرض – فويجر.

السادس والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد عبدالله العليان

إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA