الحسبة والإشراف على التعليم

كتب بواسطة الزبير مهداد

 

الحسبة بالكسر الأجر والتدبير واسم من الاحتساب، وهو حسن النظر والتدبير، قاله الفيروز أبادي. واصطلاحا تعني القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح بين الناس.

والمحتسب هو القائم بالحسبة، وهو الموظف الديني الذي يتولى مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحمله الناس على الالتزام بصحة المعاملات فيما بينهم، لتنبني الروابط الاجتماعية بين الأفراد على أسس سليمة مطابقة لما جاءت به الشريعة الإسلامية.

أول من أحدث الحسبة رسول الله صلى الله عليه، وهو ما يستفاد من الحديث الشريف (من غشنا فليس منا)[1]، واستمر بها العمل في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي والعباسي والفاطمي، ثم بلاد الأندلس، فالمغرب في أواخر القرن السادس، وكانت وظيفة الحسبة تقوى وتضعف تبعًا لنظر الدولة أو الوالي، فأحيانا كانت تنحصر على الأسواق ومراقبتها، وأحيانا أخرى كانت رقابة إدارية على نشاط كل الأفراد في مجال الاقتصاد والدين والآداب والأخلاق، وقد تتسع لتصبح وظيفة حضارية تثقيفية توجيهية تحقق العدالة وترعى الفضيلة.

وفي مصر الفاطمية كان المحتسب من كبار الموظفين الدينيين، يُعهد إليه بمسؤولية الإشراف على التعليم، وله نوَّاب في سائر أعمال الدولة يمثلونه، فكان يراقب المعلمين وينذر الذين يتجاوزون في ضربهم الصبيان الحدود المعقولة[2].

وخلّفَ بعضُ المحتسبين من دولتي الأيوبيين والمماليك كتبًا في موضوع الحسبة وآدابها وشروطها ومهامها، ومنهم تاج الدين السبكي صاحب مبيد النقم ومعيد النعم، وعبد الرحمن بن نصر الشيرزي مؤلف نهاية الرتبة في أحكام الحسبة، وابن الأخوة صاحب معالم القربة في أحكام الحسبة. أشار هؤلاء المحتسبون في كتبهم الآنفة الذكر إلى قواعد مهنة المحتسب، وما يجب مراقبته في الحرف والمهن، ومنها المهن التعليمية التربوية، من أماكن التعليم من حيث سعتها ونظافتها، وموقعها وعدد المتعلمين فيها، والمواد التعليمية والوسائل والكتب، ومهارة المعلمين ومدى احترامهم لأخلاق مهنتهم، ومراعاتهم للمعايير الاجتماعية والدينية وغير ذلك من الأمور[3]، حتى لا يلقن المتعلمون ما يضر بالمجتمع الإسلامي، ولا ما يسيء لسمعته أو وحدته.

“كان المحتسب يزور المدارس والكتاتيب بين حين وآخر ليتأكد من سلامة المحلات، ومراعاة قانون الاعتدال في تأديب الصبيان وقواعد الشريعة في تعليمهم، وكان يمنع أدعياء العلم من التصدّي لتعليم الناس أو علاجهم أو الفتوى لهم في الأحكام أو الجلوس للفصل في قضاياهم، وربّما كانت جولاته التفتيشيّة في مؤسّسات التعليم تتناول أيضًا حضور بعض الدروس والاطّلاع على مناهج الدراسة وكتبها”[4].

فمهام المحتسبين تتلخّص في تحديد مواصفات فضاء التعليم، وشروط المعلم، في ذاته وثقافته وسيرته، ثمّ يبحث عن المواد الدراسية التي يقوم بتعليمها للناشئين ويمنع ما يخالف قيم الإسلام في تربية الناشئين وفي الآداب وقواعد السلوك الاجتماعي التي يتدرب عليها التلاميذ، إلى جانب ضمان حماية حقوق المتعلم وحمايته من كل تعسف أو مخاطر.

مكان التعليم

مكاتب التعليم كان يشتغل بها أئمة الصلوات الخمس، وكانوا يقيمونها في المساجد التي يعملون بها، ويتساهل الناس في ذلك، على الرغم من نهي الفقهاء عنه، بحجة أن المساجد يجب أن تظل نظيفة، والأطفال لا يحرصون على نظافة المساجد ولا يتحفظون من النجاسات، ويسودون حيطانها، فجاء النهي عن إقامة مكاتب التعليم في أماكن الصلاة، وحجتهم في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بمنع الصبيان والمجانين من المساجد.

وحرص المحتسبون على التوكيد على ذلك، ومنع الأئمة من إقامة المكاتب في المساجد، إلا أن تكون في غرفة ملحقة بها، ويبيح ابن عبدون إقامتها في السقائف[5].

كما منعوا إقامة المكاتب التعليمية في بيوتهم[6]، محددين أماكن إقامتها في الدروب المطروقة ومواضع شَرِحة في أطراف الأسواق.

عدد المتعلمين

يراقب المحتسب عدد المتعلمين في المكتب، ويُمنع المؤدب من أن يُكثر من الصبيان، لأن اكتظاظ المكتب يحول دون تعليمهم بشروط الجودة، ولا يستطيع المؤدب أن يسهر على تربيتهم وتوجيههم، حتى وإن كان ممكنا تحفيظهم القرآن، ويوضح ابن عرضون قائلا (إن حفظ القرآن شيء، والتعليم شيء آخر لا يحكمه إلا عالم به)، والمكاتب لم تقم لتحفيظ القرآن فحسب، بل لتعليم الأطفال مهارات القراءة والكتابة والحساب أيضا، وللسهر على تربيتهم والعناية بأخلاقهم (فالتعليم صناعة تحتاج إلى معرفة ودربة ولطف.. وأكثر المعلمين جهال بصناعة التعليم)[7].

شروط المؤدب

بالنظر لأهمية دور المعلم في العملية التعليمية، وقوة تأثيره في المتعلمين، وارتباطهم به، كان يشترط في المربّي شروطٌ خلقيّة واجتماعيّة وعلميّة دقيقة، فصلها الفقهاء وضمنها المحتسبون في كتبهم لبحث مدى توافرها في المدرسين، يقول ابن الأخـوة: (يشترط في المعلّم أن يكون من أهل الصلاح والعفّة والأمانة، والأولى أن يكون متزوجًا، ولا يسمح لعازب أن يفتح مكتبًا لتعليم الصبيان، إلاّ أن يكون شيخًا كبيرًا وقد اشتهر بالدين والخير ومع ذلك فلا يؤذن له بالتعليم إلاّ بتزكية مرضيّة وثبوت أهليّة لذلك حافظا للكتاب العزيز، وأن يكون حسن الخطّ، ويدري الحساب)[8]، فالصلاح والعفّة والأمانة تمثّل مجموعة قيم حياتيّة أوجبها الشارع الحكيم، لتقويم المجتمع واستقامته على نهج الإسلام.

ومن مهام المحتسب أيضا مراقبة مواظبة المؤدب، (لا يحضر الجنائز البعيدة، ولا يكثر من البطالة، ولا يهمل الصبيان، ولا يزول عنهم إلا لأخذ الغذاء والوضوء)[9].

حماية المتعلم

تمكينا للأطفال من حقوقهم وحماية لهم من كل انتهاك أو تعسف، نص المحتسبون على وجوب مساءلة المعلم حول التعسف في عقاب الأطفال، فحددوا عدد الضربات التي يمكن أن ينزلها المعلم بالطفل، ونوع آلة العقاب، وأماكن الضرب، فشددوا عليها، (عليه ألا يضرب بعصا غليظة تكسر العظم ولا رقيقة تؤلم الجسم، وأن يتخير مواضع الضرب فيضرب الأفخاذ وأسافل الرجلين فهذه المواضع لا يخشى منها غائلة)[10]، وطالبوا المعلم بضرورة استئذان الأب إذا ما قرر تشديد العقوبة على الطفل.

وحدد المحتسبون قائمة من النواهي والمحظورات، التي يمكن أن تكون موضوع عقوبة، كالكذب والفسق ولعب النرد، ما يقدم  صورة عن الثقافة الاجتماعية في العصر المملوكي.

كما نبهوا إلى وجوب منع المؤدب من استخدام (الصبيان في حوائجه التي فيها عار على آبائهم، كنقل الزبل وحمل الحجارة)، حماية للطفل من كل استغلال. وكذا منع المؤدب من أن يرسل الصبي إلى داره وهي خالية، تفاديا لكل المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها في غياب أية حماية، ولئلا تتطرق إليه التهمة، ومنعه أيضا من أن (يرسل صبيا مع امرأة ليكتب لها كتابا)، (فإن جماعة من الفساق يحتالون على الصبيان بذلك).[11]

وبخصوص مرافق الصبيان الذي يطلق عليه لقب “السائق” وهو الذي يصحبهم من منازلهم إلى المكتب للدراسة، ويعود بهم إلى منازلهم عند نهاية الحصة الدراسية، فقد وضع المحتسبون أيضا شروط الاشتغال بالمهمة وفرضوا على المرافقين التقيد بها، لأن المرافق يصحب الصبيان في (الغدو والرواح وينفرد بهم في الأماكن الخالية ويدخل على النسوان)، وهذا كله يلزم: أن يكون السائق (المرافق) لهم أمينا، ثقة (متأهلا).

مراقبة المنهاج الدراسي

المنهج التعليمي يترجم أهداف التربية وثقافة المجتمع، ويستجيب لحاجاته، وقد أولاه المحتسبون عنايتهم في أعمال المراقبة التي يُخضعون لها مكاتب التعليم، فحرصوا على أن يتضمن المعرفة اللازمة التي يحتاجها المتعلم وتفيد المجتمع.

كان المحتسبون يراقبون المكاتب التعليمية للتأكّد من التزامها بتطبيق المناهج والمقرّرات التعليمية، وبتربية الأجيال وفق مقرّرات التوجيه الإسلامي سواء في مجال التربية والتعليم أو في مجال النشر والتثقيف العام أو في غير ذلك من المجالات العلميّة والثقافيّة التي تقتضيها القيم الإسلامية النبيلة.

بالإضافة إلى تقرير المنهج الذي يختاره المؤدب للتعليم ومتابعة مدى عناية المعلم بتنفيذها وتعليم الصبيان وفقها، يقول الشيزري: (وأول ما ينبغي أن يعلم الصبي السور القصار من القرآن، بعد حذقه بمعرفة الحروف وضبطها بالشكل، ويدرجه بعد ذلك حتى يألفه طبعه، ثم يعرفه عقائد أهل السنة والجماعة، ثم أصول الحساب، وما يستحسن من المراسلات والأشعار دون سخيفها ومسترذلها)[12]، وزاد ابن الأخوة: (وفي وقت بطالة العادة يأمرهم بتجويد الخطّ على المثال ويكلّفهم عرض ما أملاه عليهم حفظًا غائبًا، ونظرًا)[13].

وحرصا على ترسيخ الوحدة المذهبية، منع المحتسبُ معلمَ المكتب بأن يسمح للتلاميذ حفظ أشعار أدباء الشيعة، وخاصة ابن الحجاج وصريع الدلا، فالمنع يزداد صرامة مع هذين الشاعرين لتشيعهما أولا، ولتطرقهما للمجون في شعرهما[14]، تفاديا لكل ما يمكن أن يزعزع عقيدة المتعلمين وأخلاقهم التي يوليها المؤدب والمحتسب أهمية خاصة.

التربية الأخلاقية

يُعنى المحتسبون بمراقبة أخلاق المتعلمين، فيوجه المؤدب إلى أن يأمر الصبيان ممن تجاوز سنه السابعة بالصلاة في جماعة، وببر الوالدين وطاعتهما. أما متى أساء الصبيان الأدب أو قالوا الفحش من الكلام، وغير ذلك من الأفعال الخارجة عن قانـون الشرع”[15]. أو لعبوا بالألعاب المحرمة كالكعاب والبيض والنردشير وجميع أنواع لعب القمار، فإن للمؤدب أن يضربهم.

يقدّم نظام الحسبة صورة دقيقة للوظيفة التربويّة في المجتمع، وآدابها وشروطها، ويضمن حمايتها من المتطفلين، وحماية حقوق المتعلمين من كل تعسف، وضمان السلم والأمن الاجتماعي، من خلال مراعاة المنظومة الأخلاقية الاجتماعية والنهي عن خرقها أو المساس بها.

 

________________________

[1]رواه مسلم في كتاب الإيمان.

[2] ماجد، عبد المنعم: العلوم عند الفاطميين؛ مستلات المعهد العالمي للفكر الاسلامي ص 46

[3] التازي، عبد الهادي: المغراوي وفكره التربوي؛ مكتب التربية العربي لدول الخليج الرياض، الملاحق 115-124

[4] القبال، موسى: الحسبة المذهبيّة في بلاد المغرب العربي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1971، ص 71.

[5]  بروفنصال، ليفي: ثلاث رسائل أندلسية في آداب الحسبة والمحتسب، المعهد العلمي الفرنسي، الرباط 1954، ص 24

[6]  ابن الأخوة، محمد بن محمد بن أحمد القرشي: معالم القربة في أحكام الحسبة، (تحقيق شعبان والمطبعي) الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1986، ص 260

[7]  بروفنصال، المرجع نفسه، ص 26

[8]ابن الأخوة، المرجع نفسه، ص 266

[9]  بروفنصال، المرجع الأسبق نفسه، ص 25

[10]  ابن الأخوة، المرجع نفسه، ص 266

[11]  ابن الأخوة، ص 267؛ الشيزري، ص 261

[12]  الشيزري: نهاية الرتبة في طلب الحسبة، (ضمن كتاب السياسة) دار الكتب العلمية، بيروت، ص 266

[13]  ابن الإخوة، مرجع سابق، ص 260

[14]  الشيزري: المرجع نفسه، ص 267

[15]  ابن الأخوة: المرجع نفسه، ص261.

السادس والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

الزبير مهداد