محمد الحارثي وأبو مسلم الرواحي

أو لماذا يكتب الحداثي عن الكلاسيكي؟

 

إهداء متأخر

إلى الروح الناقدة والمتمردة على كل المعايير، التي رحلت مبكرًا  جدًا عن عالمنا المتردي .. إلى الأستاذ والرفيق محمد الحارثي في مثواه الأخير.

 

مقدمة:

لا تتطرق هذه الورقة إلى المنجز المتنوع، والمتعدد للشاعر والكاتب العماني الراحل محمد الحارثي، ذلك أن خارطة كتاباته، تنوعت بين الشعر الحديث، وأدب الرحلات، والسرد، والتحقيق، وغيرها من الأعمال المختلفة؛ بل تسعى إلى تسليط الضوء على تحقيقه المُتقن، وغير المسبوق للآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني، الذي صدر عن دار الجمل في عام 2010م، ويقع في 900 صفحة؛ إذ تهدف هذه الورقة لفتح السؤال حول الأسباب التي تدعو كاتبًا غير تقليدي كمحمد الحارثي، إلى الاهتمام بشاعر كلاسيكي كأبي مسلم البهلاني الرواحي، المشبع بالتصوف والمدائح النبوية والحب الإلهي ومخاطبة القبائل العُمانية بهدف استنهاضها وغيرها من المواضيع التي تذهب في هذا السياق التقليدي.

غير أنه في المقابل، من الضروري القول إن الاهتمام بحسان عُمان لم يكن مقتصرًا على الحارثي؛ بل هناك الكثير من الجهود السابقة على إصدار الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني، وهي أكثر من أن تذكر، غير أن السؤال ينطلق هنا من طبيعة تلك الأسئلة التي طرحها الحارثي في مقدمته شبه الطويلة لهذه الآثار التي ناهزت 100 صفحة، ناهيك عن الاهتمام غير المسبوق بالشرح وتجميع القصائد التي لم تكن بين دفتي عمل واحد قبل هذه الآثار، كما أوضحت هذه القصائد التنوع الكبير لأبي مسلم في مواضيع قصائد، وعدم اقتصارها على نمط موضوعي واحد كما أرادت المؤسستان الدينية والرسمية ذلك على مدى السنوات الماضية.

بين الشيخ والغلام

الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني

في مسعاه المتكرر لتوضيح العلاقة المعقدة، والمفهومة في الوقت نفسه، التي دفعت بالحارثي إلى  إنفاق سنوات من البحث والتقصي والسفر والتواصل الكثيف مع الكثير من الأشخاص لإتمام تحقيق هذه الآثار، نجد أننا أمام سببين رئيسين دفعاه للقيام بهذه المهمة:

1) شخصي: وهو ذلك الإعجاب الشخصي والخاص بأبي مسلم، الذي لا يبدو إعجابًا خاصًا به؛ بل يتقاسمه مع معظم العمانيين بشكل ٍ عام، ومع فئة المثقفين بشكلٍ خاص، الذين رأوا فيه الاستثناء العُماني الذي يستحق الكثير من الاهتمام، وذلك عن طريق الرجوع إليه، وإعادة إحياء قصائده، وآثاره.

تتقاطع الجوانب الشخصية مع الجوانب العامة، من حيث إن هذا الاهتمام لا ينبع من ” محبة شعرية خالصة، قبل كل شيء” كما قال في مقدمته، ص21، ولا من “رغبته العارمة في صدور آثاره الشعرية لتصير مرجعًا”، ص21، ولا من “إنصافه شاعرًا كبيرًا”، ولا من “تقديمه تجربة شعرية بعيدًا عن التقديس، والاسطرة” وأخيرًا، ليس بسبب “إثبات قدرتي لنفسي على إنجاز هذا العمل”، ص22. وبالرغم من الطابع الشخصي لهذه الأسباب؛ إلا أنها تتقاطع بشكل ٍ كبير مع الجانب الموضوعي العام؛ ذلك أن الإغراء الذي تقدمه أشعار أبي مسلم لشاعر غير تقليدي من جهة، وبسبب اهتمام الكثير من المثقفين بهذا الاسم من الجهة الأخرى، يبعث على هذا الاهتمام. ومكمن الإغراء هنا يسكن في ذلك الطابع غير التقليدي للكثير من المواضيع التي تناولها الرواحي، والأسلوب الذي عن طريقه تناول الكثير من المواضيع التي سارت على كل لسان عماني منذ فترة طويلة.

إن الجانب الاستنهاضي لقصائد أبي مسلم، التي تدعو للثورة والتغيير، كما في رسالته للإمام سالم بن راشد الخروصي، أو في قصيدته النونية الشهيرة، أو الجانب الصوفي للكثير من القصائد، أو المدائح النبوية الطويلة، المليئة بالغزل، والخضوع، والتذلل، بما صاحبها من لذة، وطراوة مدهشة. بالإضافة إلى قصائد مختلفة طـمست من قبل بعض المؤسسات، والأفراد، وذلك بسبب مواضيعها التي تعتبر “خادشة للحياء” أو لا تليق بشاعر بحجم أبي مسلم، وذلك بهدف وضعه في خانة واحدة من قبل هذه المؤسسات، في حين أن البهلاني لم يأبه بذلك كثيرًا؛ بل امتلك جرأة، وجزالة، كل هذه الأسباب التي يتم اختزالها في الجانب الشخصي جعلت الكثير من الشعراء الحداثيين العمانيين، وغيرهم، يعودون إلى منجزه، وإلى قصائده.

2) موضوعي: في الجانب الثاني، وهو الذي لا يقل أهمية عن الجانب الشخصي، أو بمعنى آخر، نجد أن الجانب الموضوعي/ العام، ساهم في تشكيل الذائقة الشخصية للكثير من الشعراء والكُتّاب، كما ساهم في توجيه هذه الاهتمامات بطريقة أو بأخرى. ذلك أن طريقة تعامل المؤسستين: الدينية والرسمية على حد ٍ سواء(ص12) مع قصائد أبو مسلم، عرضتها للكثير من الحذف والإضافة، كما هو الحال في الدواوين الشعرية التي صدرت عن طريق وزارة التراث القومي والثقافة في عام 1987م، إذ نجد أن الكثير من الدواوين صدرت ناقصة، وهي تسعى إلى تثبيت وجهة نظر واحدة، في حين أن الطبعات الأخرى صدرت لتثبت وجهة النظر المعاكسة لها؛ وذلك بحذف الجانب الآخر من الأشعار. منها حذف عنوان قصيدة “خمرة الله”، وحذف كافة قصائد مدح سلاطين زنجبار، وغيرها من القصائد المحذوفة هنا، وهناك، أو تلك المجتزأة والمنقوصة.

الحداثي ومشروعية التمرد:

ليس من قبيل المبالغة القول بأن الكاتب الحديث أو غير التقليدي على المستوى العربي تحديدًا، يبحث في الكثير من الأحيان عن مشروعية ما، صريحة أو ضمنية في الأزمنة السابقة من التراث الذي ينتمي إليه، وذلك للخوض في بعض المواضيع التي تبدو مُهملة، وغير مطروقة في الوقت الحاضر، أو عصية عن الحديث عنها بالصيغة السابقة، الأمر الذي يجعلنا أمام “حداثة الاسلاف” كما هو عنوان مقتطفات كتاب صدر ضمن مجلة نزوى للشاعر: هلال الحجري في يناير عام 2013م، ذلك أن الموضوعات التي تم التطرق إليها في هذا العمل، تمنحنا تلك الرغبة في خلق “أب” او “آباء” يمنحون الأبناء القدرة المعنوية، على الخوض في مواضيع تبدو عصية على التناول في العصر الحاضر.

وللعودة الى سياق الشاعر أبي مسلم الكلاسيكي، نجد أن الحارثي الحديث – مثل الكثير من الشعراء الآخرين- قد كان خير مُعبّر، ومعوّض عن الكثير من الصيغ التعبيرية، التي تمثل لحظة من لحظات التمرد، على السائد آنذاك، وفي الفترات اللاحقة، إذ نجد أن أبا مسلم في بعض مدائحه النبوية يتحدث بلغة صوفية غير مسبوقة، وذلك عندما قال(ص409):

من كمثلي، وذا الشراب شرابي* والنبيون كلهم ندماني.

وهو ما نجده يتكرر أيضًا في قصيدة صوفية أخرى بعنوان “خمرة الله” (ص407):

عصرت لكم من خمرة الله صفوها * فموتوا بها سُكرا ً؛ فما السكر مأثما

لقد قام أهل الاستقامة قبلنا* بها، فانتشوا بين الخليقة هُيما

وغيرها من القصائد الغزلية التي تعدّ جريئة بمقاييس الزمان والمكان، وصيت الشاعر، وسياق قصائده الأخرى المليئة بالمحبة الإلهية، والمدائح النبوية، والاستنهاض القبلي، إذ نجده يقول (ص875):

فأدنت ثغرها مني وقالت:* تمتع بي إلى وقت الشروق

فبت أمص وردة وجنتيها * وأرشف جمر مبسمها الشريق

كما نجد أيضًا تلك التعابير والجماليات الأسلوبية في المدح النبوي، التي تعدّ استثنائية في سياق الزمان والمكان، وذلك في قصيدة “الغوث السريع بالحبيب الشفيع” (ص441):

إن كان حبي معلولا ً فأنت لها * أدرك عليلك قبل الأخذ في الخطر

فدا لك الكون لا أسلوا بزهرته* عن فرط حبك يا من حبه وزري

 

وغيرها من الأبيات التي تذهب في هذا الاتجاه الصوفي الرفيع. غير أن في المقابل، نجد أن أبا مسلم لم يكن كله ثورة، واستثنائيا، بل نجد الكثير من المدائح السلطانية التي قالها، وتحديدًا لسلاطين زنجبار، إذ إن هذا التمرد المذكور باختصار شديد أعلاه، يقابله مدح للسلاطين من جهة، وجعل التمسك بالشريعة أساس التطور والتقدم، والمنقذة من الانحلال، وهي نقاط من الممكن القول عنها أنها تضع الكثير من الشعراء والفلاسفة في سياقهم المعرفي، والنظري، وعدم جواز الزج بهم في تلك الرغبة الإسقاطية للثورة، والتمرد، والخروج عن السائد وغيرها.

في الجانب الآخر، نجد أن الحارثي الحديث لا يحتاج إلى مشروعية متأخرة للتمرد بكافة أشكاله، إذا أخذنا في الحسبان تمرده الدائم على سلطة القبيلة والعائلة التي خرج منها من جهة، ووقوفه المستمر ضد السلطة الرسمية، وانحيازه الدائم لقضايا الشعب وتحديدًا في الربيع العماني عام 2011م من الجهة الأخرى، ذلك أن العودة للتمرد الشعري كما يتجسد في الشاعر البهلاني، يعبّر – من وجهة نظري – عن وضع التمرد في سياق أوسع، يشمل السياسة، والدين، والأنبياء، والله، والحب، والاستنهاض القبلي، وهذا لا يتحقق دون العودة لشاعر بحجم الشاعر الرواحي وعمقه، فالشهرة الواسعة التي حظي بها أبو مسلم، على المستويين الداخلي و الخارجي، تجعله موئلا خصبًا للصراعات المستمرة بين المؤسسات الاجتماعية والرسمية من جهة، وبين والأفراد الذين يعودون إليه ليقولون من خلاله ما استصعب عليهم، وثقلت أعباؤه.

غير أن الصراع قد امتدّ بين أفراد المجتمع، وتحديدا إلى تلك الأسر والعوائل التي سعت منذ فترة طويلة، عن طريق القنوات الرسمية والشخصية وغيرها، إلى الاستحواذ على هذا التراث دون دراسة، أو وعي بالمنجز، أو التعمق فيه؛ بل وصلت طرق الاستحواذ هذه إلى ذلك الدرك المتدني من التنافس بين أفراد المجتمع القبلي، التي بالمناسبة لم يعرف عنها الحارثي، أو بمعنى أصح لم يكتب عنها في مقدمة هذا العمل، كما هو حال الصراع بين المؤسستين الدينية والرسمية، إذ نجد أن الصراع اقتصر فقط على القبيلة التي ينتمي إليها أبو مسلم، وهو صراع يصور الفراغ الذي يعيش فيه المتصارعون فيما بينهم، ويكشف عن التعصب القبلي المستشري المغلف بجهل مدقع، دون تكليف النفس عناء الكتابة، والدراسة عنه، وعن منجزه.

أخيرًا، نجد أن التمرد حالة أصلية، لها الكثير من العلامات، وهي وإن كانت في الكثير من الأحيان تسعى إلى الإحاطة بدوائر التمرد في مستوياته المختلفة، إلا أن التأصيل النظري لا يقل أهمية عن ذلك، كما أن استدعاء بعض العناصر التي تساعد في تسريع وتيرته، تجعله ممكنًا، وتزيد من احتمالية وقوعه، بعيدًا عن ذلك التغني الأجوف، والنكوص القبلي والعائلي أو المناطقي لهذه الفكرة المتمردة أو تلك.

أدب السادس والتسعون

عن الكاتب

علي بن سليمان الرواحي

كاتب وباحث عماني