وبدأت لعبة جديدة

إيران بين الملف النووي وترسيخ الوجود في سوريا

 

بقلم:   1- عاموس يادلين

الجنرال (احتياط) في الجيش الإسرائيلي، ورئيس المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي.

من مناصبه السابقة:

عضو هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، والملحق العسكري الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وقائد كلية الدفاع الوطني، ونائب قائد القوات الجوية.

2- أساف أوريون

العقيد (احتياط) في الجيش الإسرائيلي، وكبير الباحثين في المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي.

من مناصبه السابقة:

قائد اللواء الاستراتيجي في شعبة التخطيط في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، ورئيس الوحد 8200 بشعبة الاستخبارات العسكرية بالجيش الإسرائيلي، ومسئول التعاون الاستخباراتي الدولي، ومسئول التخطيط الاستراتيجي وبلورة السياسات المستقبلية، ومسئول الاتصال بجيوش دول الجوار وقوات حفظ السلام في الشرق الأوسط.

 

توطئة:

خلال شهر مايو أيار 2018 حلّت بإيران كارثتان مدوّيتان تؤهلان هذا الشهر ليكون شهرا مشؤوما في التاريخ الإيراني المعاصر. الكارثة الأولى حَلّت على البرنامج النووي حينما أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، في التاسع من هذا الشهر، عن انسحاب واشنطن من الاتفاقية النووية (JCPOA). أما الكارثة الثانية فجاءت بعد يوم واحد فقط من الكارثة الأولى، وكانت على الأرض السورية حين قامت إسرائيل بشن هجوم واسع النطاق استهدف مواقع عسكرية إيرانية في سوريا ردًّا على الهجوم الفاشل الذي نفذه فيلق القدس حينما أطلق صواريخه على الأراضي الإسرائيلية. وعلى ضوء هاتين الكارثتين سنتناول قضيتين ستشغلان – من دون شك – الاهتمام الدولي والإقليمي لفترة طويلة، كما من شأنهما أن يُغيِّرا وجه الشرق الأوسط إلى الأبد، ألا وهما: مصير تطلعات إيران النووية، ومستقبل وجودها في سوريا في ظل مساعيها لنشر صواريخ عالية الدقة على الأرض السورية لتكون خنجرا في خاصرة إسرائيل. وسنتناول هاتين القضيتين في ضوء سياسات الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية. إن هاتين القضيتين المتداخلتين والمعقدتين تخلقان حالة جديدة وغير مسبوقة في المشهد المعقد سلفًا في منطقة الشرق الأوسط.

مصير المخططات النووية الإيرانية

كان الهدف من قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بكشف أرشيف برنامج السلاح النووي الإيراني في الـ 30 من نيسان إبريل الماضي 2018، هو تهيئة الأجواء لإعلان الرئيس “ترامب” عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية، وتعزيز موقف الفريق الرئاسي الجديد لـ “ترامب” لا سيما وزير خارجيته “مايك بومبيو” ومستشاره للأمن القومي “جون بولتون”، وجعل المقتنعين سلفًا بهذا الأمر – وهم القاعدة الرسمية والشعبية المؤيدة للرئيس الأمريكي – أكثر اقتناعًا به.

إن الكشف عن الأرشيف الكامل – الذي حصلت أجهزة الاستخبارات العالمية والمجتع الدولي على بعض الملفات الحسّاسة منه قبل عدة سنوات – قد عزّز موقف الخبراء وصناع القرار المعنيين بالأمر, كل حسب موقعه. ومع ذلك فقد أماط “نتنياهو” اللثام – خلال عرضه لوثائق الأرشيف – عن أمرين بالِغَيْ الخطورة: الأمر الأول أن تلك الوثائق ليست مجرد ملفات أرشيفية تتحدث عن أمور قديمة عفا عليها الزمن؛ بل هي قاعدة معلومات ضخمة وخُطط بديلة طارئة جاهزة للتنفيذ عندما تقرر طهران الانطلاق لتصنيع القنبلة النووية. الأمر الثاني أن الاتفاقية النووية تقوم على تعهُّدٍ إيراني زائف كل الزَّيْفِ مؤدّاهُ أن طهران لا تطمح من وراء البرنامج النووي لإنتاج سلاح نووي. من هنا لا ينبغي بأي حال من الأحوال السماح بإزالة القيود الأساسية المفروضة على البرنامج النووي الإيراني بعد المدة المنصوص عليها في مجموعة البنود المعروفة بـ “غروب الشمس – Sunset” في الاتفاقية النووية التي تتراوح بين 10 و 15 عاما, وهي المدّة التي سيكون من حق إيران بعدها أن تمضي قُدمًا في برنامجها النووي باعتراف المجتمع الدولي، ولن يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى يحتفل بها العالم عضوا في نادي الدول النووية, كما أقر بذلك الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما”.

إن قرار انسحاب الرئيس “ترامب” من الاتفاقية لم يكن أمرًا مفاجئًا, إذا ما أخذنا في الحسبان آراءه اللاذعة عن سلفه في المنصب الرئاسي وعن الإرث الثقيل الذي خلّفه له, وإذا ما استرجعنا تصريحاته القاطعة التي أطلقها وهو لا يزال مرشّحًا رئاسيا حينما وصف الاتفاقية النووية بأنها “أسوأ اتفاقية تم توقيعها على الإطلاق”. ويبدو أن تصريحات “ترامب” النارية ثم خطواته الفعلية بالانسحاب من الاتفاقية تمهيدًا لإجراء مفاوضات صارمة مع إيران من أجل إبرام اتفاقية جديدة باتت تمثل نمطًا من العمل يروقُهُ, وهو ما يمكن أن نستشفّه أيضا من تعامله مع كوريا الشمالية، و”حربه التجارية” مع التّـنّين الصيني. والسؤال الذي سيظل مطروحا لفترة طويلة ولن تكون الأشهر القليلة القادمة كفيلة بالإجابة عنه هو: هل يبحث “ترامب” عن إبرام صفقة أفضل مع إيران؟ أم هل يريد تضييق الخناق على النظام الإيراني حتى يتأزّم وضعه ويسقط؟ أم تُراهُ يبحث عن ذريعة لاتخاذ إجراءات عسكرية ضد طهران؟

مستقبل الوجود الإيراني في سوريا

شهِد يوما التاسع والعاشر من شهر أيار مايو الجاري – إذا ما استرجعنا شريط الأحداث التاريخية – بلوغ الصدام بين إسرائيل وإيران مدًى لم يقاربه من قبل. فمنذ الثورة الخمينية عام 1979 تُدير إيران حربا بالوكالة ضد إسرائيل التي وجدت نفسها مضطرة إلى خوض مواجهات متكررة مع أذرع إيران في كل من لبنان وسوريا وقطاع غزة والضفة الغربية. ويعتمد الفكر الاستراتيجي الإيراني على إنهاك إسرائيل وسفك دماء جنودها وشعبها واستنزاف مواردها, من خلال قيام طهران بتسليح وتدريب وتمويل التنظيمات الموالية لها والمحيطة بإسرائيل إحاطة السوار بالمعصم, كل ذلك من دون أن تسقط نقطة دم واحدة من جندي إيراني. كما اعتبرت إيران أن كل التنظيمات العسكرية التي أنشأتها أو موّلتها ما هي إلا أداة لردع إسرائيل وشغلها عن برنامج طهران النووي.

ومنذ بداية القرن الحالي أخذت إسرائيل توسع دائرة تصديها لخطر الأخطبوط الإيراني، وساحات مواجهتها مع أذرعه عبر ثلاثة إجراءات؛ هي:

– توجيه ضربات قاصمة لأذرع إيران في أثناء المواجهات العسكرية معها، وردع تلك الأذرع عن مجرد التفكير في صدام طويل الأمد مع إسرائيل. وقد أثمر هذا الإجراء ما رأيناه من الهدوء الذي دام طيلة الأعوام الـ 12 الماضية على الجبهة اللبنانية منذ حرب يوليو تموز 2006 مع تنظيم حزب الله, وكذا ما نلحظه من ضبط النفس الذي تلتزمه حركة حماس التي – بخلاف المساعدات القديمة – تحصل على مساعدات عسكرية إيرانية منذ صيف عام 2014، أي منذ آخر مواجهة بين الحركة وإسرائيل.

– قطع خطوط الإمداد اللوجيستية الواصلة إلى تلك الأذرع عبر الطرق الملاحية في البحرين الأحمر والمتوسط، والطرق البرية في سوريا. ومن أشهر العمليات الإسرائيلية في هذا السياق أنه مع اندلاع الحرب في سوريا وزيادة وتيرة تسليح إيران لحزب الله، كثّفت إسرائيل من هجماتها التي استهدفت في المقام الأول عمليات نقل الأسلحة النوعية للحزب.

– استهداف وتصفية شخصيات مؤثرة في بناء قوة تلك الأذرع في ميادين البحث العلمي والتطوير اللوجيستي والتكنولوجيات العسكرية. فحينما حاولت إيران – في سياق الرد على الهجمات الإسرائيلية – فتح جبهة قتال جديدة في الجولان، قامت إسرائيل بمهاجمة المنفذين ومن أرسلهم ومن استضافهم.

لقد أدت تلك الإجراءات الحاسمة إلى تجميد الأنشطة الإيرانية في الجولان لعدة سنوات. ورغم كل ذلك لم تتضمن القواعد غير المكتوبة للعبة الصراع الإسرائيلي الإيراني في ذلك الوقت وقوع صدام مباشر بين الطرفـيْن.

ولكن تلك القواعد لم يطرأ عليها أي تغيُّر إلا خلال العام الماضي 2017 الذي شهِد تراجع حدّة الحرب في سوريا، الأمر الذي عزّز رغبة طهران في جني ثمار الحرب التي بذلت فيها دماءً غزيرة وأموالا طائلة. وتجمع الاستراتيجية الإيرانية بين استنساخ “نموذج حزب الله” وإعادة إنتاجه من خلال قوات عسكرية سورية، وبين استقدام ميليشيات شيعية أجنبية بأعداد كبيرة إلى سوريا. ولكن خلافا لما جرت عليه عادة إيران في السابق من نَـأْيِـهَا عن التورّط في مواجهة مباشرة مع إسرائيل, فإن طهران تسعى منذ مطلع العام الماضي إلى تكوين تشكيلات عسكرية إيرانية كبيرة وقوية لتُشكِّل من خلالها تهديدا مباشرا لأمن إسرائيل, لا سيما من خلال المنظومات الصاروخية الباليستية الدقيقة والمقاتلات العسكرية والطائرات غير المأهولة ومنظومات الدفاع الجوي. وقد حاولت إسرائيل من جانبها كبح جماح إيران دون الدخول في مواجهة مباشرة أيضا، فلجأت للولايات المتحدة وروسيا للاستعانة بهما لإيقاف إيران بالوسائل الدبلوماسية، ولكن عدم اكتراث الدولتين العظميين بالمطالب الإسرائيلية أعاد الكرة إلى ملعب إسرائيل وحدها، ولم يعد أمامها خيار سوى أن تحل الأمر بنفسها.

في بداية الأمر أصدر متحدثون إسرائيليون رسميون تصريحات تعكس إصرارًا إسرائيليا حاسما على منع إيران من ترسيخ وجودها العسكري في سوريا, ثم أُتبِعت تلك التصريحات بعمليات قصف جوي على أهداف إيرانية غير مأهولة كإشارة تحذيرية، دون أن تُعلن إسرائيل مسؤوليتها عن تلك العمليات. ولكن حادثة إرسال الطائرة الإيرانية الـمُسَيَّرة والمزوَّدة بالصواريخ لاستهداف مواقع داخل الأراضي الإسرائيلية في الـ 10 من فبراير شباط 2018 كانت مؤشرًا واضح الدلالة على تخلِّي إيران عن أسلوب المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل واتجاهها إلى المواجهة المباشرة. وفي مقابل ذلك تطورت آليات الرد الإسرائيلي لتواكب الاستراتيجية الإيرانية الجديدة، فأقدمت إسرائيل للمرة الأولى على توجيه ضربات مباشرة للقوات الإيرانية ولقدراتها العسكرية في سوريا ولم تعد تقتصر على استهداف الأذرع الإيرانية فقط, كما استهدفت إسرائيل المصانع والمنشآت والمواقع الإيرانية الرئيسة التي باتت تشكل تهديدا متزايدا على حدود إسرائيل ولم تعد تكتفي فقط باستهداف قوافل الأسلحة المتجهة لتنظيم حزب الله. وتتلخص غاية إسرائيل من تلك الهجمات في ثَـنْـيِ إيران عن القيام بهجمات مستقبلية بأسلحة أكثر تطورا مثل القذائف الدقيقة ومنظومات الدفاع الجوي, وكذا في رفع فاتورة الخسائر الإيرانية وردع طهران عن المضي قدما في مساعيها لبناء قدرات عسكرية في سوريا.

وخلال شهر إبريل نيسان الماضي وحتى قبيل العملية الفاشلة لإطلاق صواريخ إيرانية على الأراضي الإسرائيلية في العاشر من مايو أيار, قامت إيران بسلسلة من المحاولات للرد على إسرائيل عسكريا بإطلاق صواريخ من الأراضي السورية، ولكن إسرائيل أحبطت كل تلك المحاولات قبل الإطلاق. وفي ليلة العاشر من مايو أيار حاولت إيران مرتين إطلاق صواريخ على إسرائيل، رغم عودتها الفعلية للأسلوب القديم غير المباشر عبر عناصر الأذرع الموالية لها. فجاء الرد حاسمًا ووفَّت إسرائيل بما تعهدت به علنًا، حيث قامت بتوجيه ضربات قاصمة لكثير من المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا، بل وحتى لبعض مواقع الدفاع الجوي السورية التي انطلقت منها صواريخ مضادة لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي.

لقد أكدت تلك الأحداث – من الناحية الميدانية – مدى الضعف العسكري الذي تعانيه إيران في سوريا, كما أكدت في الوقت نفسه حجم الغلبَة الاستخباراتية لإسرائيل ومدى تفوقها الجوي ومقدار كفاءة قدراتها الدفاعية على مواجهة الصواريخ الإيرانية. إن كل تلك الأحداث تعكس – من دون لبس – حجم الصعوبات التي تواجها إيران عندما قررت خوض مواجهة مباشرة على جبهة بعيدة عن أراضيها، حيث تمتلك إسرائيل في مثل هذه المواجهة أسباب التفوق العسكري الكاسح وتتمتع بأفضلية القرب من مواقع قوتها.

أما من الناحية الاستراتيجية، فقد أزاحت تلك الأحداث الستار عن سياسة إسرائيلية جديدة, لا تنتوي فيها إسرائيل الانتظار حتى تُكمل إيران بناء صرح قدراتها المتنامية، ولا تعتزم إعفاء طهران من دفع ثمن باهظ من دماء جنودها عقابًا لها على محاربتها لإسرئيل عبر الأذرع والوكلاء. وقد بلورت إسرائيل سياستها الجديدة تلك من الدروس الهائلة التي تراكمت لديها خلال حروبها الطويلة مع أذرع إيران لا سيما تنظيمي حزب الله وحماس اللذين حصلا على دعم إيراني بالغ السخاء، وكذا من الظروف والملابسات الاستثنائية التي شهدتها الساحة السورية ولا تزال، حيث تسهم سيولة الأوضاع في سوريا، أو لنقل خصوبة الأرض السورية في سرعة نموّ بذور التهديدات الجديدة، في الوقت الذي تبدو فيه حظوظ التصدي لها محدودة, ومن هنا ندرك أسباب تفهم روسيا احتياجات إسرائيل الأمنية. وفي ظل كل تلك الظروف تبدو الساحة مُهيئة لفصل جديد من رواية الصراع التي لا تنتهي.

استنتاجات

على صعيد الملف النووي الإيراني، يبدو أن التطورات المستقبلية تعتمد من الآن فصاعدا على عدد كبير من اللاعبين الإقليميين والدوليين، كلٌّ حسب خياراته الاستراتيجية. لذلك فإن الفترة القادمة مفتوحة على مجموعة مختلفة من السيناريوهات: بدءًا من محاولة الجمهورية الإيرانية مع بقية الدول الموقعة على الاتفاق النووي إنقاذ صفقتهم المشبوهة وفرض عُزلة على الولايات المتحدة وإبطال أثر العقوبات التي استأنفتها, مرورًا بسيناريو أخطر قليلا تقوم فيه إيران باستئناف عمليات تخصيب اليورانيوم “لأغراض مدنية”، وانتهاء بالسيناريو الأخطر على الإطلاق وهو انسحاب إيران من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وربما حتى الانطلاق لإنتاج  القنبلة طلبًا للحماية النووية ضد أي هجوم محتمل، أسوة بما سبق أن فعلته كوريا الشمالية. ولا يخفى على أحد أن الملف الاقتصادي يقوم بدور محوري في هذه اللعبة: فاستقرار إيران ماليًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا مرهون بما ستتخذه الدول الأوروبية الشريكة في الاتفاقية النووية من خطوات، وكذلك بما ستقوم به الشركات الدولية والأسواق العالمية. ويصعب في هذه المرحلة توقع رد فعل أمريكي متعقِّل ومحسوب ومدروس بشكل جيد لمواجهة السيناريوهات المختلفة، بما يعني أن عبأً ثقيلا قد يقع على كاهل إسرائيل.

وعلى صعيد الصراع بين إسرائيل وإيران، فإن الأحداث الأخيرة تتطلب إعادة تقييم الأوضاع لدى جميع الأطراف؛ إذ ينبغي على القيادة الإيرانية أن تأخذ السياسة الإسرائيلية الجديدة على محمل الجد، وأن تدرس مآلات خطواتها المستقبلية في سوريا بعناية فائقة. ويبدو أن قائد فيلق القدس الجنرال “قاسم سليماني” يواجه سيلا من الانتقادات الداخلية اللاذعة؛ بسبب فشل محاولاته ضرب أهداف إسرائيلية، ولما تكبدته إيران من خسائر فادحة جراء الرد الإسرائيلي. أما الرئيس الإيراني “حسن روحاني” فيتعرض هو الآخر لهجوم شديد بعد الزلزال العنيف الذي ضرب الاتفاق النووي جراء الانسحاب الأميركي منه.

وأغلب الظن أن إيران في الوقت الحالي تعيد التفكير والنظر في أمر رفع قدراتها العسكرية في سوريا مستقبلا، فلا يمكن في ظل الأوضاع الحالية أن نقول إن ما حدث من صدام مباشر بين إسرائيل وإيران سيؤدي إلى الحد من مساعي إيران في هذا الصدد أو سيفضي بالأحرى إلى زيادتها، ربما من خلال العودة إلى سياسة استخدام الأذرع بشكل أساسي. وفي ظل عدم وجود حدود مشتركة وقوات عسكرية متقاربة بين إسرائيل وإيران، فإن “الحرب” المباشرة بينهما ستبقى خلال السنوات القادمة قاصرة على الغارات الجوية والصواريخ الباليستية، إضافة إلى بعض الخروقات المتمثلة في العمليات النوعية والهجمات السيبرانية.

رغم ذلك سيظل بإمكان إيران أن تثأر لنفسها من إسرائيل في ساحات أخرى، مثل الساحة اليمنية عبر إطلاق صواريخ باليستية على إسرائيل أو حتى باستهداف السفن الإسرائيلية أثناء عبورها مضيق باب المندب، أو في ساحة هي الأكثر خطورة على إسرائيل وهي الساحة اللبنانية. فتنظيم حزب الله – الذي يبدو أنه يخشى من مهاجمة إسرائيل ومما يستتبع ذلك من تعريض حاضنته الشيعة في الجنوب اللبناني للخطر والمجازفة بإنجازاته السياسية التي كشفت عنها نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في لبنان – سوف يوفر لإيران القدرات العسكرية اللازمة في الوقت الراهن لاستخدامها في سوريا. ورغم ذلك، فلا يمكن استبعاد فرضية انزلاق الأمور إلى التصعيد، الذي ربما ينجم عن سوء التقدير. كما يمكن أن تحاول إيران إشعال الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن نفوذها هناك بات محدودا.

أما إذا ارتأت إيران أن تستهدف المصالح الإسرائيلية في الخارج فسيكون لذلك عواقب دولية وخيمة على طهران. فروسيا، التي كثيرا ما استعانت بالقوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها في حماية نظام الأسد خلال سنوات الحرب الدامية، نراها تتغافل وتتغاضى عن الخطوات الإسرائيلية ضد إيران، بل ربما حتى تسمح بها طالما أنها لا تهدد المصالح الحيوية الروسية على الأرض، التي تتلخص في عدم المساس بالقوات الروسية وضمان بقاء نظام الأسد. أما الولايات المتحدة فلا تتوانى من جانبها عن تقديم الدعم السياسي لإسرائيل، ولكنها طوال السنوات الماضية لم تولِ اهتماما كبيرا بالشأن السوري. وعموما فإن الشرق الأوسط وفي القلب منه بلاد الشام، سيكون نقطة الاختبار والمحكّ الحقيقي للسياسة الجديدة التي ستنتهجها الولايات المتحدة تجاه إيران.

خاتمة

بعد الضربتين الموجعتين اللتين نزلتا كالصاعقة على إيران مؤخرا, فلا مجال لإسرائيل أن تخلد إلى الراحة أو أن تركن إلى الطمأنينة أو أن تشعر بالسعاة المفرطة، بل ينبغي عليها أن تراقب عن كثب ما ستنتهجه جميع الأطراف المعنية بالأوضاع الإقليمية من سياسات جديدة. وإذا كانت إسرائيل حتى وقت قريب تتبنى سياسات انفرادية حيال الملف النووي الإيراني وحيال الحرب بالوكالة التي تديرها طهران من وراء الستار عبر أذرعها في الساحتين اللبنانية والسورية على وجه الخصوص, فعليها حاليا في ضوء المستجدات الأخيرة أن تتبنى سياسات تكاملية بعيدة المدى، وأن تسعى لتنسيق جهودها وتعزيز تعاونها مع الولايات المتحدة وكذا مع العواصم الأوروبية والإقليمية. كما ينبغي التأكيد على أن التعاون الميداني والاستراتيجي مع روسيا لا يزال أمرا بالغ الأهمية لإسرائيل.

ومن أجل مواجهة التحدي المتمثل في الملف النووي الإيراني ينبغي على إسرائيل بناء “آلية إنذار استراتيجية” مشتركة مع الولايات المتحدة بالتعاون مع دول أخرى صديقة, للحيلولة دون وقوع مفاجآت مصيرية. وتحسُّبًا للسيناريوهات المحتملة في المجال النووي، ينبغي على إسرائيل بناء قدرات عملية متنوعة وفعالة. وتحسُّبًا لتحركات إيرانية مستقبلية في حرب الوكلاء في سوريا والمنطقة برمتها، لا بد لإسرائيل من الاستعداد لتنفيذ ضربات واسعة النطاق دون الاقتصار على الساحة السورية. وأخيرًا، ينبغي على إسرائيل دائمًا مواصلة تخويف تنظيم حزب الله وردعه حتى لا يُقدم على الحرب، كما ينبغي عليها في ذات الوقت أن تظل على أهبة الاستعداد إذا ما اندلعت تلك الحرب.

السادس والتسعون سياسة

عن الكاتب

إبراهيم سعد عبد العزيز