بين الكتاب والتاريخ
نهى القرآن عن قرب الزنا وعده فاحشة في الآية (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) الإسراء:32، والزنا فاحشة بين الذكر والأنثى بممارسة الجنس بينهما خارج نطاق العلاقة الشرعية، وقد ينشأ عن هذه الممارسة غير الشرعية أولادٌ، بما يثير تساؤلات حول لحوق الولد الذي نشأ بعد الزنا.
هذه التساؤلات حاول الفقه قديمًا الإجابة عنها مستعينًا بأدواته ومعارفه الزمنية، وهذا لا يعيب، إذ إن الفقه معرفة بشرية تنشأ من قراءة آيات الكتاب (الكون والقرآن)، وتتطور هذه الأدوات والمعارف بتراكم المعارف والخبرات عبر الزمن، فإذا ظل الفقه حبيس تلك المعارف والأدوات الزمنية فإنه يظلم آيات الكتاب بتجميد مآلاتها وتحنيطها في متحف التاريخ.
-1-
بقراءة الآيات القرآنية حول الزنا؛ وهي:
(وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) الإسراء:32
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَة) النور:2
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الممتحنة:12
يلاحظ أن القرآن لم يحدد وسيلة بعينها في إثبات جريمة الزنا، وهذا السكوت القرآني حول هذه المسألة بعينها يحيلها إلى المعرفة الكونية وما ينشأ عنها من طرائق ووسائل.
في أزمنة خلت كان الناس يلجأون إلى الإقرار أو سماع شهادة ممن رأوا الواقعة لإثبات الزنا، اليوم تطورت الوسائل إلى الفحص المخبري للسوائل وما ينفصل عن الجسد من شعر أو جلد أو ظفر…إلخ؛ ليحدد منه وقوع الجريمة من عدمه وأطراف الجريمة، وهو المعروف بفحص الحمض النووي (DNA)، الذي تطورت آلياته لتصير أيضًا حجة في مدى ثبوت نسب شخص إلى آخر.
وقد ذهب جمهور الفقه قديمًا إلى أن جريمة الزنا تثبت بشهادة أربعة من الناس يشهدون أنهم رأوا ذكرًا يدخل ذكره في فرج أنثى في غير علاقة الزواج، وهذا الرأي ليس مستندًا إلى آية بينة في إثبات الزنا لكنه قياس على القذف الوارد في الآية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور:4.
وحتى على القول بقياس إثبات الزنا على إثبات القذف فإن كلمة (شهداء) الواردة في إثبات القذف غير مقصورة على شهود البشر الواقعة، فالجذر “شهد” عبارة عن:
شين (ش): انتشار الشواهد زمنيًا ومكانيًا.
هاء (ه): ضيق نطاق الشواهد ودلالات بمرور الزمن.
دال (د): للشواهد وظيفتها واتجاهها.
فالشهادة من البشر وسائر المكونات المادية هي: (وقائع منتشرة تضيق دائرتها بمرور الزمن، لها وظيفة معينة في كشف الحقائق)، وقد نسبت الشهادة في القرآن إلى:
– الله والملائكة (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) آل عمران:18
– حواس الإنسان (اللسان والأيدي والأرجل والسمع والأبصار والجلود)
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النور:24
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يس:65
(حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فصلت:20
ج. شهود شهر رمضان (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) البقرة:185، وشهود رمضان يحصل بمعاينة الأدلة الكونية المنتشرة في الكون مثل: الرؤية البصرية أو الحساب الفلكي أو أية طريقة يتحقق بها هذا الشهود.
د. (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هود:17، “ويتلوه شاهد منه” أي شاهد من تلك البينات، والبينات مبثوثة في الكون بأسره، يستخرجها الإنسان بالسير في الأرض والنظر.
من خلال قراءة البنية الداخلية لكلمة (شهد) واشتقاقاتها في القرآن، فإن الشهادة غير مقصورة على الإنسان بما يسمعه ويراه، إنما تتعداه إلى كافة ما تسجله حواسه الأخرى كالجلد والأيدي والأرجل، بل إن كل الأشياء في الكون تشهد على الحقائق إذا عرفنا كيف ننطقها ونستخلص منها ما اختزن فيها من وقائع، وهذا ما تدل عليه الآية (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فصلت:21 فالله أنطق كل شيء، ونطق الأشياء هو بوحها بما تدل عليه من حقائق:
– فبصمة الأصابع تنطق إذا عرفنا كيف نوظف خصائصها في إثبات نسبة جريمة إلى مرتكبها.
– وفحص (DNA) ينطق إذا عرفنا كيف نوظف خصائصه في إثبات النسب وكشف مرتكبي الجرائم بمختلف أنواعها ومنها الجرائم الجنسية؛ حيث يترك الجناة ما يدل عليهم من شعر أو أظافر أو لعاب أو سوائل منوية، وكذلك توظيف فحص (DNA) في إثبات نسب شخص إلى أبيه وأمه.
-2-
اعتمدت مدونات الفقه/التفسير القديمة طريقة إثبات جريمة الزنا بشهادة من رأوا الواقعة، وحصروا كلمات (شهداء) الواردة في النور:4 في البشر الذين رأوا الواقعة، ويلاحظ أن حصر تفسير (شهداء) في الآية بالبشر الذين رأوا الواقعة هو تعويل على طريقة معروفة زمنيًا، وليس في ذلك إشكال، فالناس يعقلون من مآلات آيات القرآن بما توافر لديهم من معارف زمنية، لكن عليهم أن لا يقفوا عند حدود تلك المآلات، فالقرآن بطبيعته السُنَنية له مآلات متجددة زمنياً بتوسع المعرفة الإنسانية وتراكمها.
القرآن وسع حدود مفهوم (شاهد/شهداء) ليشمل كل ما يشهد كونيًا بحصول وقائع بعينها، فكل وسيلة كونية يمكن استنطاقها تكون شاهدًا كالبصمة أو فحص الحمض النووي أو تسجيل الكاميرا…الخ.
وقد شُهِر عند علماء النحو والصرف من قديم استعمالهم كلمة (شاهد) بالمعنى الذي ذكرته، فيقولون (والشاهد على ذلك بيت الشعر كذا) فالشاهد باستعمال النحاة يعني الدليل من الشعر على معنى بعينه، أي إنهم وسعوا دلالة كلمة (شاهد) لتشمل غير البشر من الأشياء، وهو استعمال صحيح، ففحص الحمض النووي في إثبات الجرائم الجنسية أو إثبات النسب هو من الشهداء الذين نستنطقهم في معرفة الوقائع التي نجهلهها وتحتاج إلى يفصل في أمرها.
وقد ورد في الأخبار التي نسبها الناس إلى النبي عليه السلام إثبات النسب اعتمادًا على ثبوت العلاقة الزوجية طالما أن الزوج لم ينف نسبة الولد إليه، والرواية المعروفة في ذلك أنه (كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص، فقال: إن ابن وليدة زمعة هو ابني فاقبضة إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي وقد كان عهد إليَّ فيه. فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي ابن وليدة أبي، وقد كان ولد على فراشه. فتساوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم سعد بحجته، وتكلم عبد بن زمعة بحجته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر” .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجته سودة بنت زمعة “: احتجبي منه يا سودة” لما رأى إشباهه عتبة. قالت عائشة: فما رآها حتى لقي الله).
هذه الرواية التي نسبها الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفادها أن من يولد على فراش الزوجية فنسبه إلى الزوج طالما أن الزوج لم ينف نسبه إليه، وفكرة (الولد للفراش) مبنية على استصحاب حال الأصل، فطالما أن العلاقة الزوجية ثابتة فيلحق الولد بنسب الزوج إن لم ينفه عنه، إذ لا يوجد وقتها “شاهد” كوني معرفي يمكن أن يحسم أي نزاع ينشأ حول نسبة طفل إلى أبويه.
ويلاحظ مما نقله الرواة أنهم نسبوا إلى النبي عليه السلام أنه قال لزوجته سودة بنت زمعة: “احتجبي منه يا سودة” لما رأى من شبه الولد بعتبة بن أبي وقاص، فرغم أن الحكم كان بإلحاق نسب الولد بوالد عبد بن زمعة إلا أن الرواية ذكرت أن النبي عليه السلام أمر زوجته سودة بنت زمعة أن تحتجب عنه؛ أي لم يعول على الحكم الظاهر في متعلقات النسب من إبداء الزينة، وهذا في حد ذاته دال على أن التعويل على فكرة (الولد للفراش) لم تكن حاسمة وبالإمكان أن يعتريها الخطأ والقصور، لكن في كل الأحوال كانت هي “الشاهد” المتوافر زمنيًا.
والفقه في عُمان مختلف حول لحوق الولد الذي نشأ من علاقة غير شرعية بأبيه، فـ(عن أبي الحواري رحمه الله: إن ولد الزنا يلحق بالأب إذا أقر به. وقال بعض الفقهاء: لا يلحق بولد الزنا) انظر: الشقصي، منهج الطالبين ج9 ص81، ونقل الشقصي في (القول الثاني عشر: في الإقرار بالولد من زنا أو تزويج) خلافًا فقهيًا واسعًا في عُمان قبل القرن الحادي عشر الهجري في شأن لحوق الولد الذي نشأ من علاقة غير شرعية بأبيه، وهذا الخلاف الفقهي مبني أيضاً على أدواته الزمنية في مدى قدرته على التحقق من نسبة الولد إلى أبيه، فركزوا في العديد من فروع هذه المسألة على الإقرار، ورأوا أنه دليل معتبر في إلحاق الولد بأبيه.
وفي أيامنا هذه وجد “الشاهد” الذي يمكن أن يحسم مثل هذه النزاعات حول إثبات النسب وهو فحص الحمض النووي (DNA)، ومن ثمّ فلا معنى لتجاهله أو صم الآذان عنه بعد تبين مدى حجيته، أما الادعاء بأن الشريعة قائمة على رواية: (الولد للفراش) فادعاء لا دليل عليه، فلا يوجد في القرآن تحديد لهذه القاعدة بعينها، فهي نظرية عقلت بمعطيات معرفية زمنية كانت هي المتوافرة للناس في ذلك الوقت.
وهذه الحوادث -إن صحت بنقلها- هي تفاصيل يومية يقوم فيها النبي عليه السلام بتطبيق آيات القرآن على اجتماع بشري متغيّر، فيحكمها ما هو متوفر من “الشهداء” زماناً ومكاناً، وهي المعروفة في أصول الفقه بوقائع الأحوال التي لا تخصص عامًا ولا تقيد مطلقًا، وطالما أن “الشاهد” المعرفي الكوني الأقوى والأفضل والأحسن قد توافر في زمننا؛ فالإثبات يتحقق به، ولا يجوز للناس أن يرجعوا إلى الجهل بعد العلم.
وهذه المسألة تشابه مسألة إثبات بداية الشهر القمري ونهايته بالحساب الفلكي، فقد استمر الناس لعقود يرفضون “شهود” الشهور بالحساب تعويلًا على ما ورد في الأخبار من “الشهود” برؤية البصر، مع أن الحساب الفلكي أدق شهادة وأقوم طريقة وأنفع للناس.