الأساطير هي أحلام العالم: جوزيف كامبل وسلطان الأسطورة

كتب بواسطة أحمد الزناتي

 

يستهلُّ الروائي الألماني الكبير توماس مَانّ روايته التاريخية الضخمة (يوسف وإخوته) بعبارة ساحرة، ربما تكون من أعذب افتتاحيات الروايات التاريخية في الأدب الحديث: “عميقة جدًّا بئر الماضي، ألا يحقّ لنا أن نسميها بلا قرار؟ فكلما غصنا أعمق، وكلما توغّل بحثنا، وكلما هبطنا للعالم السفلي للماضي وازددنا تنقيبًا تبيّنت لنا أسس الإنسانية الأولى بتاريخها وثقافتها، لنكتشفَ أنّها، في ذاتها، لا غور لها”. إن كان الحال كما يقول (مَانّ)، كيف يمكن للبشرية إذن أن تفهم ماضيها؟ أيعني ذلكَ أنَّ ماضي الإنسانية بئرٌ لا سبيل بالفعل إلى سبرِ غورِها؟

يذهب عالم الميثولوجيا الأمريكي الأشهر جوزيف كامبل (1904– 1987) في مجموعة كتبه الموسوعية، بدايةً من (البطل ذو الألف وجه- 1940)، و(أقنعة الإله- 1959-1968)، وصولًا إلى كتابه الأهمّ (سلطان الأسطورة)، وهو في الأصل مجموعة حواراتٍ مُتلفَزة أجراها الإعلامي الأمريكي بيل مويرز مع جوزيف كامبل ما بين عامَي 1985 و1986، وقوامها ثمانية حواراتٍ مطولّة استغرقَتْ في مجملها أربعًا وعشرين ساعة، ثمَّ اختُزِلَتْ بعد المعالجة إلى ثماني ساعاتٍ هي مضمون أحاديث كامبل- نقول إنَّ كامبل ذهبَ في مجمل أعماله إلى إجابةٍ عن السؤال الذي استهلَّ به توماس مانّ روايته آنفة الذكر، فقد توصل كامبل بعد رحلة مقدارها خمسون سنة أنفقها في دراسة أساطير شعوب وحضارات العالميْن القديم والحديث، إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ دارسة أساطير الشعوب هي السبيل، ليس لفهم ماضي التاريخ الإنساني فحسب، بل لمعايشة تجربة الحاضر واستشراف المستقبل كذلك.

 

لماذا الأسطورة؟

كان هذا هو السؤال الذي طرحه المُحاور مويرز على كامبل في كتاب (سلطان الأسطورة) (المشروع القومي للترجمة 2002– ترجمة: د. بدر الديب)، مُستغربًا ولع كامبل اللافت بالأساطير، بل وتكريس حياته لدراستها في تجلياتها الحضارية والثقافية المختلفة، رغم أنَّ الأساطير والخرافات لا شأن لها بحياة الإنسان اليومية في العصر الحديث. كانت إجابة كامبل مغموسةً بروح حكمة القدماء التي تشبَّع بها، فقد قال: إن كنتَ تعتقد ذلك، امضِ إذن وعِش حياتكَ، أنتَ لا تحتاجُ إلى الأساطير، مستطردًا: “إنَّ إحدى أعظم مشكلاتنا اليوم هي أننا لا نهتمُّ بأدبِ الروح، فنحن نهتمُّ بأخبار اليوم ومشكلات الساعة والثروة والسلطة، وحين يتقدَّم بنا العُمر ونفرغ من الاهتمام بشؤون الحياة العادية المبتذلة، فإننا نصطدم بخواءٍ روحيٍّ لا قرار، قد يُفضي بالإنسان إلى الانتحار أو العنف”.  يشيرُ كامبل بهذا الرد إشارةً ذكية إلى القلق الروحي الذي بات يأكل في نسيج إنسان العصر الحديث، ولم تتمكن التكنولوجيا ولا التقدّم العلمي من إيقافِ ذلك النزيف، مستشهدًا برواية (فاوست) لجوته التي نادَتْ بأنَّ العقل، وهو المرادف لتكنولوجيا العصر، لن يفضي بالإنسان إلى الخلاص، وأنَّ علينا أنْ نعتمدَ على حدسنا الصادق في معرفة الحياة. يؤمن كامبل أنَّ الأساطير هي أحلام العالم في تناولها لمشكلات إنسانية كبرى، حينما نقرأ الأساطير والحكايات الخرافية فإنها تنبئنا كيف نتعامل مع أزمات الحياة ومشكلاتها من الإحباط أو السرور أو الفشل أو النجاح: الأساطير تخبرنا أين نحن تحديدًا في هذا العالم.

 

 

يشيرُ كامبل إلى كوميديا دانتي الإلهية، التي تُستهَلّ بالبطل، دانتي آليجيري، واقفًا في منتصف حياته وسطَ غابةٍ مُظلمة، مُلتفتًا إلى روحه المعذّبة، اللائذة بالفرار، لكنّ الأسطورة/الحكاية تنقذه. نعرف جميعًا الرحلة التي قام بها البطل/دانتي آليجيري.

ثمّ يعقد كامبل مقارنةً بين أزمة منتصف العُمر عند دانتي آليجيري وأزمة إنسان العصر الحديث، الكادح على مدار الأسبوع في عملٍ شاق قاسٍ، أو في عمل مكتبي روتيني أشدّ قسوة، أزمة منتصف العُمر واحدة: الملل القاتل، والخواء الروحي، والشعور بالاغتراب عن العالم وعن البشر. لكن كامبل لا يتركُ قارئه دون أن يعطيه حلًا: دراسة الأسطورة، باعتبارها نوعًا من المهدئات والمحفزات الذهنية على القيام بالتجربة الشخصية، أو بعبارة موجزة الأساطير والقصص تحدث تحوّلًا في وعينا بالكون وبأنفسنا قبل كل شيء.

وحين سُئلَ كامبل عما إذا كان يرمي من وراء التنقيب في ركام الأساطير عبر العصور إلى اكتشاف معنىً ما للحياة، أجابَ: “لا، لا أعتقدُ أنَّ ما ينبغى لنا أنْ نبحثَ عنه هو معنى الحياة، بل تجربة أن نكونَ أحياءً، وبهذا تصير تجارب حياتنا على المستوى الماديّ لها أصداءٌ داخل أعماق وجودنا”.

الأساطير والحكايات والقصص تساعدنا على أن نفهم قصّتنا، أن نفهم الموتَ ونتعامل معه، أن ندركَ الخلود ونتعامل معه، أن نكشف لأنفسنا ذلك المعنى المستور للحياة، الذي ينتظرُ مَنْ يزيل الترابَ من فوقه. آمن كامبل إيمانًا راسخًا بضرورة قراءة الأساطير التي تعلِّم الإنسان أن يلتفتَ إلى داخله، ليبدأ في تلقي رسائل الحكمة الخفية، ويدخل إلى تجربة تمكّنه من العبور إلى الضفة الثانية التي هي مغزى وجوده.

 

وكيف نحصل على هذه التجربة؟

لا يملَّ كامبل من التأكيد على قراءة الأسطورة، مشدّدًا على ضرورة السعي الجاد لأنْ يكتشف كل إنسان أسطورته الخاصة، وحكايته المتفرّدة،  فالأساطير هي خارطة داخلية لطريق التجربة الروحانية التي خاضها القُدماء، الأساطير هي أغنية الكون وموسيقاه التي نرقصُ عليها، حتى وإن لم تستطِع تسمية كلمات الأغنية.

هل تشيخ الحضارات دون أساطير؟

في إيمانه بقوّة الأسطورة وسلطانها لا ينطلق كامبل من بواعث عاطفية أو رومانسية، فهو يشير بوضوحٍ في كتابه إلى أنَّ المجتمع الأمريكي -مثلًا- صار يعاني عنفًا كثيرًا وتعصبًا مقيتًا على كافة الأصعدة والمستويات الثقافية والاجتماعية، والسبب –من وجهة نظره- أنَّ المجتمع قد ألقى أساطيره العظيمة وخزانة حكمته القديمة وراء ظهره، مُستقبلًا التكنولوجيا والتقدم العلمي وحده، مضيفًا أنَّ المجتمع لم يعد يمتلك أساطير عظيمة تساعد الشباب من الرجال والنساء على التبصّر في الأمور، ورؤية ما وراء الأشياء، وعلى نبذ العنف والتعصّب وكراهية الآخر. فالأساطير هي الروحُ الجمعية للشعوب، والحضارة حين تفرِّط في تراث أساطيرها، فإنما تفرِّطُ في صوان حكمتها.

ولكن أليسَت الأسطورة كذبًا؟

يذهب كامبل إلى أنَّ الأساطير ليست كذبًا، إنما هي شعر واستعارة ومجاز للوصول للحقيقة، لأنّها تمثيل للحق، لأنها لا يمكن أن توضع في كلمات، العبارات ضيّقة عن استيعاب الرؤية إذا استلهمنا تعبير النفرّي. المهمّ، والكلام هنا لكامبل، أن نحيا بالتجربة، بمعرفة سرّها، لأنَّ ذلك ما يعطي للحياة تألقًا، الحياة لا تكتمل إلا بالدخول في مغامرة، مغامرة اكتشاف المجهول، أي نفسه. 

وكيف تعين الأساطير إنسان اليوم على تجاوز محنته الوجودية؟

يشيرُ كامبل إلى كلمة وردت عن بوذا مفادها أنَّ “كل الحياة معاناة”، ولن تكون حياةٌ إن لم يكن متضمَّنًا فيها أنّها مؤقتة. عليكَ أن تقول نعم للحياة، مُعرجًا على الأديان السماوية الثلاثة “اليهودية والمسيحية والإسلام”، مؤكِّدًا أنّ النصوص المقدّسة للديانات السماوية تحمل معنى “الكَبَد والمعاناة”.

ماذا بعد؟

يروي كامبل قصةً شائقة عن زيارته إلى الهند للقاء Guru عظيم، أي معلَّم روحي عظيم الشأن، فالتقى هناك مُعلمًا اسمه كريشنامون. كان أول شيء قاله المعلَّم روحي لكامبل: “هل لديكَ سؤال؟”.

نفهم من ذلك أنَّ المعرفة في هذا التراث لا تبدأ إلا من طرح الأسئلة، والجورو لا يخبرُ بشيءٍ إلا حين تكون مستعدًا للإنصات. لم يأخذ كامبل سوى كلمتيْن من المُعلَّم: “الطريق لي ولكَ.. أن تقولَ نعم”. مَنْ نحن لنحكم وندين على الآخرين؟ مَنْ نحن كي نقيِّم غيرنا؟ علينا أن نقبلَ الحياة كما هي بآلامها وعذاباتها، لأنَّ ذلك جزء من تجربة بطل اليوم، وهو الإنسان العادي، الذي يعاني مشكلة القلق الوجودي.

يختتم كامبل كتابه (سلطان الأسطورة) بعبارةٍ لافتة قد توجِزُ جهوده على مدار خمسين سنةً من البحث والتنقيب في أساطير الشعوب والحضارات:  “إنَّ صورَ الأسطورة هي انعكاساتٌ للإمكانيات الروحية لكل واحدٍ مِنا، ومِن تأمّلها نستثير قواها في حياتنا، كي نتمكَّنَ من مواصلة الحياة”.

 

 

أدب الثامن والتسعون

عن الكاتب

أحمد الزناتي