سلمان رشدي يكتب عـن جـونتِر جـراس

كتب بواسطة أحمد الزناتي

 

جونتر جراس واحد من أهم الأدباء الألمان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولد جراس في 16 أكتوبر 1927، نال جائزة نوبل في الأدب سنة 1999، وتوفي في 13 إبريل 2015. يوم وفاته نشر الروائي البريطاني الشهير سلمان رشدي على موقع النيو يوركر مقالًا قصيرًا، ينعى فيه جونتر جراس، متذكّرًا تفاصيل عابرة، لكنّها دالة ولافتة عن أول لقاء مع جراس في منزل الأخير سنة 1982، ننقله إلى العربية في السطور الآتية. يقول سلمان رشدي:

حينما زرتُ هامبورج سنة 1982 بمناسبة صدور الترجمة الألمانية لروايتي “أطفال منتصف الليل”، سألني الناشر عما إذا كنتُ أرغب في زيارة جونتِر جراس. بالطبع كانت لديّ الرغبة في ذلك. أقلّتني سيارة إلى قرية فيفلسفليت خارج هامبورج، حيث كان يعيش جراس. كان لجراس منزليْن، خصّص الأول للمعيشة والكتابة، والثاني حولّه إلى استوديو للرسم. بصفتي الكاتب الأحدث سنًا، كان من المتوقّع أن أقوم ببعض مظاهر تقبيل الأعتاب، التي أديّتها عن طيب خاطر، فما كان من جراس إلا أن قرّر فجأةً قبولي، ليقتادني بعدها إلى غرفة صغيرة يحتفظ داخلها بكؤوس زجاجية عتيقة. طلب مني جراس اختيار واحدة من الكؤوس. بعدها أخرج زجاجة Schnapps (نوع من الخمور مشهور في ألمانيا)، وبدأ في صبّ الكؤوس، وعند آخر قطرة من الزجاجة صِرنا أصدقاء.

 

بعدها، انتقلنا إلى حجرة الرسم. وهناك سُحِرتُ بالأشياء التي رأيتها أمامي، والتي كنت عرفتها من روايات جراتس: سُحرت بالأشياء التي رأيتها، التي تعرفتُ عليها جميعاً من الروايات، بينها أسماك أنقليس برونزية وأسماك التراكوتا، وعـمل محفور لصورة فتى يقرع طبلة من الصفيح، كنت أحسد جراتس على موهبته الفنيّة كرسّام في الرسم أكثر من إعجابي بموهبته الأدبية. بعد ذلك اللقاء، لم أقابل صحفيًا ألمانيًا إلا وسألني عن رأيي في جراس. ولما أعربتُ عن اعتقادي أنّ جراس واحد من اثنين أو ثلاثة مِـن كبار الأدباء الأحياء في العالم، شعرتُ أنّ إجابتي قد أصابت بعضهم بخيبة أمل. قال أحدهم: “حسنًا تقصد رواية الطبل الصفيح..نعم.. ولكن ألم يكن ذلك قبل زمن طويل”؟

حاولت إخبارهم أن جراس حتى لو لم يكن قد كتب تلك الرواية، فأعماله الأدبية الأخرى كافية لوضعه في المرتبة التي منحته إياها، كما أن تأليف رواية “الطبلة الصفيح” رفعته إلى مصاف الأدباء الخالدين. بدتْ على وجوههم خيبة الأمل من جديد، كانوا يفضّلون أن يسمعوا مني رأيًا يقدح فيه، لكنني لم أتفّوه بكلمة واحدة تسيء إلى الرجل.

لقد أحببت جراس بسبب كتاباته، أحببته بسبب إعجابه بحكايات الأخوين جريم التي ألبسها ثوبًا حديثًا، أحببته بسبب الكوميديا ​​السوداء التي وظّـفـها لإعادة النظر في التاريخ. أحببتُ جراس بسبب جـديّته الممزوجة بروح الفكاهة، أحببته لشجاعته التي لا تُـنـسى، تلك الشجاعة التي حدّق بها في وجه شـر زمانه، واستطاع تحويل المسكوت عنه إلى فـنّ عظيم. وحينما حاول بعض الناس لاحقًا إثارة نغمة “جراس النازيّ، جراس المعادي للسامية”، فكّرتُ قائلًا: “دعـوا أعماله تتحدّث بلسان حاله، فأعظم الأعمال الأدبية المعادية للنازية (يقصد أعمال جراس) تضمنّت فقرات حول تعامي الألمان المتعــمّـد عن مسألة الهولوكوست، وهو تـعامٍ لا يقدر معادٍ حقيقيّ للسامية الإفصاح عنه.”

في عيد ميلاده السبعين، اجتمع كُـتــاب كبار، من بينهم نادين جـورديمر وجون إيرفينغ، والأدب الألماني كله، اجتمعوا في محبة جونتر جراس واحـتـفاءً به على خشبة مسرح تاليا في مدينة هامبورج. ما أتذكره أنه بمجرد ما إن بدأت أغاني الاحتفال، وما إن تعَالتْ أصوات الموسيقى، إلا وتحوّلت خشبة المسرح إلى حـلبة رقص، وتبيّن أنّ جراس أستاذ رقص لا يُبارى، إذ كان بمقدوره رقص الفالس، والبولكا، ورقصة الفوكس تروت، ورقصة التانغو، ورقصة الجافوت الفرنسية. واصطفّت أجمل فتيات ألمانيا في طابورٍ للرقص معه. وبينما كان جراس يرقص بشكل مدهش ويدور ويقفز، أدركتُ حينها أن هذا هو جونتر جراس الحقيقي؛ الراقـص العظيم في ساحة الأدب الألماني، الراقـص بين فظائع التاريخ، العابر نحو جمال الأدب، الناجي مِن الشرّ بفضل تسامحه، وبفضل حـسّـه الكوميدي. أما بالنسبة لأولئكَ الصحفيين الذين أرادوا مني النيلَ من جراتس سنة 1982، فأقول:

“لن تدركوا أي رجل عظيم خسِرتم إلا حينما يموت جراس. أما وقد جاءت هذه اللحظة اليوم، فآمل أن تدركوا ذلك”.

 

أدب التاسع والتسعون

عن الكاتب

أحمد الزناتي