مُعلم بتاع كلّه !

كتب بواسطة هدى حمد

تُرى من هو هذا الكائن العجيب، الذي تناقلتْ وسائلُ النشر المختلفة التحدث عن صفاته الفولاذية، الكائن مُتعدد الوظائف، الذي تراه مُنظما للطابور صباحًا، ومُشرفا على سير الحافلات مساءً، شارحا للدروس حينًا، ومُتحملا لحصص الاحتياط في ظل غياب زملائه (ممن يذهبون إلى المشاغل والورش التدريبية لاستيعاب المنهج الجديد)، وهذه طبعا قصة أخرى سنعود إليها في مقالات مُقبلة.

من هو هذا الكائن الذي في ظل تأخر التعاقدات مع عمّال النظافة قبل بدء العام الدراسي تحوّل بقدرة قادر إلى عامل نظافة برفقة طلابه، ريثما تبدأ التعاقدات المُتأخرة بالتفعيل، (طبعا على عكس اللمعان الذي برز في الصفحات الأولى في الواجهات الإعلامية !).

من هو هذا الكائن الذي حصل وأن تحوّل إلى مُمرض وممرضة ليرافق الطلاب المرضى إلى المستشفى، أو تحول بغمضة عين إلى فلاحٍ يغرسُ شجرًا في فناء المدرسة ! بل إنّه في لحظات التكريم المُهمة في حياة الطلاب المجتهدين، تحوّل إلى صرافٍ آدمي جاهز لشراء الهدايا من جيبه الخاص !

من هو هذا الكائن صاحب الصوت المبحوح في حصص الدرس وفي تحريض الحماس الصباحي في الطابور، الكائن الذي قد يربو نصابه من الحصص التدريسية على خمس وعشرين حصة أسبوعيا، وفوق هذا عليه أن يُفكر جديًّا في مناوباته الداخلية والخارجية، وفي تجهيز الفقرات للمناسبات الوطنية والدينية.

هذا الكائن الذي يعودُ إلى بيته حاملا شُغْله معه، دفاتر التصحيح، أوراق الامتحانات، وفوق هذا عليه ألا يتجاوز مسرحية مشاريع الطلبة، فهي لا تعدو أن تكون مزحة ثقيلة الدم، وعليه أن يحتملها ويبلعها، فهل سيقرأ الكائن الفولاذي ما يربو على مائة بحث في الفصل الواحد! والطالب أيضا.. ماذا عساه يفعل أكثر من “برنت” جاهز لمشاريع تُقدمها المكتبات جاهزة ومغلفة. ويا إلهي عندما نكتشف أننا في المدرسة لسنا أصدقاء للبيئة، فنرى السيارات الكبيرة تنقلُ كل تلك المشاريع إلى أكبر مزبلة دون فائدة تذكر، سوى خمس درجات يكسبها الطالب في ملف الكائن الفولاذي وحسب ! (وهذا أيضا موضوع في غاية الإيلام وينبغي أن نتحدث عنه في مقالات مُقبلة.. إنّها أول خُدع الاتكالية التي يتعلمها أولادنا لكي يصبحوا منتحلين بامتياز في مستقبلهم القريب). ولكم أن تتصورا أولادنا يعدمون مئات الأشجار سنويا في زمن العالم الالكتروني، دون أن تحتفظ عقولهم بمعلومة يتيمة !

لنعد مُجددا إلى الكائن الذي عليه أن يتعرض يوميا لفئاتٍ مُختلفة من الطلاب، بمختلف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، بمختلف قدراتهم الاستيعابية، بمختلف أنماطهم المعيشية، وعوض أن يركز هذا الكائن الفولاذي طاقته في هذه المنطقة بالغة الحساسية، نجد أنّ العملية التعليمية تتحول إلى هامش صغير إزاء متن الأنشطة الجانبية، الأنشطة التي تحتل الصدارة في ميزان المنافسة بين المدارس !

على هذا الكائن الفولاذي أن يتحلى بكثير من الصبر، وأن يمسك نفسه أمام الاستفزاز اليومي من الطلبة، أو عليه أن يتحول إلى جلادٍ مُرعب، وفي أسوأ الأحوال على هذا الكائن أن يُحافظ على رباطة جأشه؛ لأنّ أولياء الأمور سيأتون يوما ما ويقولون له كلاما ربما لا يأمل سماعه؛ ولذا عليه كل ليلة أن يتدرب ليتصدى لتلك الكلمات النابية. عليه أن يتأقلم معها، ومن ثمّ تتحول إلى شيء بلا تأثير.

يحصل كل هذا في ظل الاعتقاد أنّه كائنٌ عازلٌ لمشاعره وأحاسيسه عن مهمته الأسمى، ومُقاومٌ لحرارة الأوضاع السيئة التي يتعرضُ لها بصورة مُستمرة، ناسين أو متناسين أنّ هذا الكائن قابل هو الآخر لأن ينهار أو يتوقف لأسباب عدّة، فالمرأة المُعلمة قد تنجب، وقد تخرج إلى مواعيد المستشفى، وقد يكون لأحد أبنائها وضعٌ صحي خاص يتطلب الرعاية، أو قد تسافر مع زوجها الذاهب للدراسة، والرجل المُعلم قد يُسافر هو الآخر مع أحد والديه في رحلة علاج على سبيل المثال، ومن ثم يكون الضحية هم الطلاب دائما، وارتفاع نسبة حصص الاحتياط، حتى تبدو حصص الاحتياط كمرضٍ عُضالٍ تُعاني منه أغلب مدارس الحكومة ولا أمل في شفائه في القريب العاجل !

هذا الكائن الفولاذي – الذي لم نُعاين بدقة بقوة كم حصانٍ يسير –  هو في حقيقة الأمر كأي موظف مُعرَّض لظروفٍ كثيرة  في حياته؛ ولذا ينبغي أن يكون هنالك من يسد فراغه، فأين هو (المدرس المُساعد) الذي يأتي مباشرة ليسد فراغ غياب المعلم الأساسي في أي ظرف طارئ.

هل يعقل.. بعد هذا كله أن نسأل أنفسنا لماذا العملية التعليمية ذاهبة إلى مُنزلق حاد وعصيب ؟

لسنا الآن في محل الدفاع عن المُعلم، فلا يمكن أن نضع الجميع في سلّة واحدة، فهنالك الجيد وهنالك الرديء، وهنالك صاحب الضمير الحريص وهنالك الذي  يزيد وجوده من منسوب البؤس، هنالك من يُعطي من أعماق قلبه، وهنالك من لا يرفُ له جفن، ولديه أعذارٌ جاهزة ومُخجلة طوال السنة، حتى إنّ توقيع الحضور والانصراف لم يستطع أن يضبط إيقاع “السربتة” التي يُمارسها.

علينا أن نفعل شيئا ما لإنقاذه من هوس التقاعد الذي يهذي به بصورة مستمرة، فهذا الكائن الفولاذي في حقيقة الأمر لم تصنع له البيئة الملائمة والمحفزة لنستطيع أن نحكم عليه بصورة سوية، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول أهمية إعادة الاعتبار له، فلماذا لا تكون هنالك جائزة سنوية رفيعة المستوى على مستوى الدولة لأفضل مُعلم على سبيل المثال !

ينبغي على أخصائي الأنشطة أن يقوم بدوره كاملا، والمعلم المساعد (الذي سيخفف وجوده في المدارس من نسبة الباحثين عن العمل) عليه أن يُشغل غياب المعلم الأساسي، ولكن إن كنا سنُواجه بالتقشف الذي يضربُ عصب كل الأفكار الحقيقية، فعلى الأقل اتركوا المُعلم لمهمته الأسمى التي درس وتعلّم ليحظى بها. اتركوه للتعليم الجاد والحقيقي، بدلا من تشتيت جهوده في كل شيء، فرأس مالنا الوحيد في ظل كل الأزمات هو الطاقة البشرية التي ستخرج من رحم المدارس يومًا ما.

المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

هدى حمد

كاتبة عمانية