يطرح أندريه لالاند في الموسوعة مصطلحَ أسطورة Mythe ويربطه بمعانٍ متعددة من بينها أنها: “حكاية خرافية، شعبية الأصل وغير متروية، يمثّل فيها الفاعلون اللاشخصيون، وفي الأغلب تمثل فيها قوى الطبيعة في صور كائنات شخصية، ويكون لأفعالها أو مغامراتها معنى رمزي”[1]، كما يشير إلى أنها يمكن أن تكون “عقلية تتحدّر منها الأسطورة” بهذا المعنى[2]؛ أي إن الأسطورة لا تقف على المنتج النهائي المتداول، وإنما يمكن أن تكون الخرافةُ العملياتِ العقليةَ المنتجة لها. وما يلفت الانتباه أن مصطلح الخرافة في الموسوعة الفلسفية Superstition اصطلاح يشير إلى الإيمان الزائف في مقابل الإيمان الحقيقي[3]، بيد أن هذا المصطلح يرتبط عند لالاند بالشعوذة والتخريف، ويحيل إلى معان بالغة الأهمية، ولعل أبرزها التعلقُ المفرط وبلا نقد بمبدأ أو منهج[4]؛ كل ذلك يجعلنا نستعيد القصة التي يرويها أحدُ الوعّاظ بسنده عن واقعة طرد الجراد في عُمان في قرية من قراها؛ إذ تدخل القوى الخارقة بتوظيف “الفاعل اللاشخصي” المتمثل في الجرادات السبع في صور كائنات شخصية فاعلة، وما يهمنا في القضية ليس القصة بفحواها المادي أو الحدثي، وإنما بنظامها الذي يأخذ الطابع الديني في اشتغال مقولات دينية خرافية لتعطيل العقل بعيدًا عن منهج النقد، ويكون مسرح الأحداث فيها هو “اللغة” و”التاريخ” وليس الواقع، ولذلك نجد مثل هذه الأحداث الخرافية تتكرر في وقائع التاريخ الديني، ومن بينها ما ينقله السالمي في تحفة الأعيان في تأريخه للأئمة.
عندما نعود إلى عمليات إنتاج الأسطورة أو الخرافة نجد أنها “تصدر عن حالة انفعالية تتخطّى العقل التحليلي؛ لتنتج صورًا ذهنية مباشرة تعكس تلك العلاقة الكلانية بين الذات/ الوعي، والعالم/ المادة. إلا أن الأسطورة ليست انفعالا صرفًا؛ لأنها توسّط الأفكار في محاولتها للتعبير عن ذلك الانفعال وموضعته في الخارج”[5]؛ فعملية البناء، أو التصدير هي عملية واعية؛ ولكنّها تشتغل في لاوعي المتلقي عند تعطل النقد في الشخصية المأخوذة بالإيمان الزائف بتعبير الموسوعة الفلسفية؛ لذلك فإن عمليات التلقّي تحيل دائما إلى مفارقات المعنى؛ فهي تؤدي إلى إنتاج المعنى الديني المتمثل في حماية الرمز الديني وحماية أفكاره من الهدم المنطقي أو عمليات العلم الذي يكون دائما خارج إطار الأسطورة وفق نسقه، وفي الوقت ذاته يَنتج إشكالٌ يجعل الذات المتأسطرة تعاني أزمتها تجاه أشكال المعرفة وتنامي التفكيك؛ فهي تشكّل المعنى وتروّجه، ولكنها تهدمه في الوقت ذاته؛ حينما تعجز عن تبريره التبريرَ العقلي؛ وإذّاك فإن الذات المؤمنة المأخوذة بسحر الأسطورة عوض أن تعيش سكينتها المرجوة أو سباتها تدخل في حلقات الصراع العقلي والنفسي كلما طرق هذا السردُ ذهنه وخاطبه في حالات خلجات النفس العميقة، وكأنها تحضُّ الذات على الانسلاخ والتحرر من السياق كله ومن سحره واستبداده.
لقد حاول العقل الديني القديم أن ينتشل كلّ نص ديني يمكن أن يقع به الإنسانُ في أوحال الخرافة؛ فحكّم القدماء منطق الجهات، وشغّلوا إمكانات اللغة في تأويل النص وإظهار انزياحاته حتى لا يصطدم بالعقل أو منطق الحس؛ فإذا وجد سبيلا في تعقّل النص يمنح الإنسان هروبَه من الخرافة إلى الواقع؛ فإنه لا يتشبث بها؛ إذ يقف الغزالي (مثلا) في قانون التأويل على قوله (ص): “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم”؛ فيجعل الصورة هذه تنزاح إلى أثر الشيطان الرمزي وليس شخصه الواقعي؛ فيقول: “وليس المراد أن جسمه يمازج جسم الإنسان ممازجة الماء للماء، وهذا قول عن تحقيق يطول شرح مقدماته وأدلتها عقلية، وأمّا كيفية مباشرته للقلوب فليس بتخايل يظهره الحس”[6].
إن هذا الإشكال في التعامل مع توليد الخرافة الملتصقة بالدين؛ يمكن معالجتها في الفرق الجوهري الذي طرحه إدموند هوسرل في “مقال اللوغوس” بين العلم والفلسفة؛ فالعلوم كلها ناقصة بسبب الأفق اللانهائي للمشكلات القائمة بغير حل، والتي لا تترك النزوع إلى المعرفة يخمد أبدا، لا سيما في ظل الثورات العلمية وتجدد البراديغمات؛ فهي تعترف في ذاتها قابليتها للتفنيد والدحض؛ أما في الفلسفة فإن القضية ليست في امتلاك نسق من التعاليم يتسم بالنقص، وإنما في انعدام النسق كليا[7]؛ فإذا اتجهنا إلى “العقل الديني” المؤسطر؛ فإن المسألة تزداد شدة لا في غياب النسق؛ وإنما في ادعاء نسق شمولي يستطيع تفسير كل الظواهر الكونية دونما احتمال للخطأ؛ فتصاب بحالة الإحباط من الشعور الذي يتزامن مع إحساسك بعنف الادعاء.
نلاحظ عند النظر في بنية الحكاية العجيبة أو الأسطورة كما هي في قصة الجراد عند الواعظ الديني؛ أنها تواجه معضلة المعنى واللامعنى؛ فتتعلق بأجزاء قد يعتقد المتلقي أنها خارج الحكاية، بيد أنها من صميم صناعتها وإنتاجها مثلما تعلقت هذه الحكاية بـ”وهم السند”؛ بحيث تنتقل الأسطورة أو الخرافة من حالة الاحتماء بالسند؛ إلى حالة الدفاع عن الرمز الديني أو الفكرة الدينية كأدلوجة الكرامة؛ فتنشأ علاقة وليدة بين الرموز الدينية والرعاية الإلهية المتفردة؛ وهذه الإستراتيجية تعويضية عن فقدان معنى النبوة؛ فتلوذ الحكاية بسبب حالة الافتقار المنطقي بخيط العنكبوت، المتمثل في السند؛ للمحافظة على نسق الحكاية وبرنامجها السردي المفعم بالعاطفة؛ على أن السند ذاته لا يخلو من رمزية تاريخية؛ فيعتقد المتلقي بأنه “علة تامة” لصحة الحكاية وتماسكها.
إن الأسطورة لا تحافظ على هذا التماسك الوهمي؛ إلا من حيث إنها توسّلٌ بإمكانات اللغة في “البعد الحجاجي” أو الإنجازي؛ فهي صورة متحركة أو مشهد تمثيلي يظهر فيه لاعبون مختلفون خاضعون لسحرها، لتشتغل داخل سياق الأحداث المصنوعة بلغة متوترة ملؤها الترقُّب؛ فتُحدث حالة من “عطالة العقل” برهةَ التلقي على أقل تقدير؛ فيعيد العقلُ تشكيل المقطع التمثيلي؛ ليكون الانتقال الحجاجي سهلا في إحداث هزات عنيفة داخل الذات المأخوذة بالخرافة إما بالوخز المنطقي وهو غير مراد أو التنويم المغناطيسي وهو هدف الصورة المادية التي شكلتها اللغة؛ فتجد الواعظ الديني يحاول بصوته وحركاته المنتشية أن يموضع الخرافة في الواقع على الرغم من الغياب الحتمي الواقعي أو التبرير العقلي؛ لذلك لن تجد للكرامة – وهي مرادف للأسطورة والخرافة – واقعا ملموسا إلا في اللغة والتاريخ، ولكي نصل إلى البنية التداولية للأسطورة فإن المضمرات المتمثلة في المواضع الحجاجية هي التي تؤدي إلى تضافر الحلقات؛ فقصة السبع جرادات مع ما للعدد “سبعة” من دلالات رمزية مرتبطة بأحداث دينية أو معان مرتبطة بالشر والعذاب؛ تجعل انتقال الصورة من حالة السكون إلى حالة المعنى أشد توترا؛ وإلا فإن “جرادة” واحدة كافية لطرد كل الجراد.
يلاحظ المرءُ تلكم الدينامية في حبكة الأسطورة وتداخل الشخصي في اللاشخصي؛ مع وجود عنصر السلطة الدينية أو الارتقاء الدَّرَجي في المستوى؛ فصاحب الكرامة وهو يطرد الجراد بجراداته السبع يعجز عن استيراد الجراد بذاته، كما يعجز عن إعطاء الأوامر الشفهية للجراد بالخروج، ويتعمّد طلب الجراد من الأدنى رتبة، كما يعطي الأوامر مكتوبة بحيث تخضع أسراب الجراد لهذا المكتوب، وهذا أمر معهود في التراث الإسلامي في تضخيم “الحروفية” التي تستند في أسرارها إلى القوى الخفية للحرف الذي يحمل في داخله أسرارا فالحرف يمثل فاعلا في المشهد؛ ولذلك فإن التساؤل الإشكالي الذي يفكك سحر السرد المعجز: لماذا كلُّ هذا العناء من الكتابة المجهرية على جناح كل جرادة؟ ألم يكن في الإمكان أن يطرد صاحب المقام العالي أسرابَ الجراد من القرية دون هذا العناء؟ ولماذا يقوم فلانٌ بالكتابة وآخر بإطلاق الجرادة في الأفق؟ هل يعدّ ذلك نوعا من تقسيم العمل؟
كل هذه الأسئلة تُصادَر لحظة “الإنجاز الأسطوري”؛ فيتعطل العقل، وتحضر العاطفة ويبدأ اختبار المقدس بالمعنى الذي يطرحه ميرتشيا إلياده؛ فالمقدّس عنصرٌ من عناصر بنية الوعي، وليس مرحلة من مراحل تاريخ الوعي؛ ذلك أن عالما ذا معنى هو حصيلة سيرورة جدلية تتمثل في تجلي المقدس وتحيينه في الأسطورة؛ فالإنسان لا يمكنه العيش في العماء الفارغ من المعنى؛ فالحياة الإنسانية تصير ذات معنى عندما تحاكي النماذج المنوالية التي أوحت بها كائناتٌ غيبية مفارقة[8]؛ فالمتلقي في هذه اللحظة يلاحظ ذلك الإلهام الإلهي في قصة النحل بحيث تقوم بمهامها التي أجدها الهداية المقصودة في القرآن[9] ، “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ“؛ فيتعالق هذا بالإلهام في خرافة الجرادات السبع؛ إذ يقوم صاحب الكرامة بذات الإلهام نيابة عن الله لإخراج الجراد من القرية. إن الإنجاز الأسطوري يعطّل كلَّ الأسئلة؛ بحيث يتحول الحجاج إلى صورة فاعلة وحاضرة في ذهنية المتلقي؛ وبما أن “فلانا” قد أخرج الشرَّ من القرية بالكتابة السرية على أجنحة الجراد؛ فإن هذا الموضع بسبب ارتباطه بالمقدس يفضي إلى نتيجة حتمية تعدّ المعنى المراد لكل هذا السرد وهو تقديس الرمز الديني؛ فلا يجوز “الحط” من درجته أو التشكيك في منزلته.
إن البعد الإنجازي للأسطورة أو الخرافة يجعلنا نمعن النظر في مستوى الدين بتحويله من البعد الوجداني والأخلاقي الشخصي الذي يعطي طابع المسؤولية الفردية، إلى “الدين الجمعي”؛ فتتحول الخرافة من حبكة أدبية كما في الحكايات الشعبية العجيبة إلى أداة تعبوية خطِرة في مواجهة التعقّل، وعند استحضار القطيعة بين العلم والأسطورة؛ فإن الأول يقيم دعائمه في مواجهة الأشكال القديمة من التفكير الأسطوري والسحر[10]؛ بينما تندمج الأسطورة بالزوايا المعتمة من الذات الإنسانية؛ بيد أن القطيعة مع العقل أو الوعي ليست حادة بسبب قدرة الذات المتأسطرة على التبرير العقلي للخرافة تبريرا مغلوطا؛ فالمقدس لا ينفصل عن بنية الوعي لذلك تكون الخرافة سيرورة دلالية وتاريخية وفاعلة في البنى الاجتماعية لا سيما إذا شعر المتلقي أن “الخرافة” جزء من تاريخ معتقداته أو حلقات بناء “الأمة”.
يحيلني ذلك ونحن بصدد عنفوان الأسطورة على ما طرحه المستشرق هنري ماسّيه في معرض حديثه عن ممالك العرب القديمة، وعن مملكة كندة على وجه الخصوص في القرن السادس الميلادي، وهي تعدّ أولى التجارب للعرب في الانضواء تحت قيادة مركزية؛ لكنها سرعان ما فشلت بسبب غياب “المقدس” المتمثل في الدين أو الأساطير[11]؛ إن فعل التماسك بفعل المقدس يجعلنا أمام حالتين: “تعقُّل الأسطورة”، وحالة “الانفعال الأسطوري” ولا تشتغل الثانية إلا بتعطيل أجزاء في العقل تمارس نقدها اللا- إرادي؛ بينما تأتي الحالة الأولى لاستغلال هذه الهوامش المعطلة التي ترتبط بالحالة النفسية التي تبث نوعا من الصراع الداخلي لإحداث هزات عنيفة إزاء شكل من أشكال السيطرة عندما يكون الدين أو الخرافة أداة فاعلة في السيلان العقلي. “إن تكوين الأفكار هو أول تعبير عن نشاط الترميز الذي يرافق اتساع الوعي وارتقاءه. فهنا تأخذ الانفعالات بالتحول إلى أفكار، وهذه الأفكار تتوضّح وتنتظم كلما اتسع الوعي في مواجهته مع الخارج”[12]،وقد أشار القرآن إلى حالة الانفصال بعيدا عن السيلان العقلي، ولكنها مواجهة تبدو تعطيلا لعنصر الاستدلال في الآية، ” وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ”؛ بيد أنها تظل محاولة في ترتيب مفردات الوعي إزاء الواقع.
إشكالات تواجه خرافة الجرادة:
من بين أهم الإشكالات التي تواجه الخرافة عموما، وخرافة “الجرادات السبع” الحاملة لأسرار القيادة، وهي تريد الإعلان عن تدشين كرامة تاريخية جديدة؛ نقلُ الحسي أو المادي الملموس بما يخالف الحسّ أو الواقع؛ فصانع الخرافة يحاول ترتيب الأجزاء المادية للخرافة في مجابهة مفردات الواقع نفسه؛ بما يخالف الواقع؛ باعتبار أن الحبكة محاولة من الواعظ، والمؤرخ الأسطوري لما أسمّيه “تحسيسَ الوهم” أو موضعة الخرافة داخل المفردات الفيزيائية ولكنها موضعة لسانية، وعلى المتلقي إيجاد مساحة فعلية لهذا الوهم في الواقع التاريخي المضمحّل؛ وفي ذلك حماية للخرافة من الانهيار إذ لا يمكن للرمز الديني أن يدّعي اليوم قدرته على طرد الجراد بالكتابة على أجنحتها؛ ففي حالة الانفعال والسيلان العقلي مع الجراد الذي تستبدّ به القيادة الجديدة لتخرجه من القرية يجعل الساردُ الآخر يعيد بناء عالمه الفكري إزاء العالم الطبيعي؛ بحيث يعوض عن حالة الفوضى، أو انعدام العلاقة المادية مع الله بالوهم الأسطوري المتمثل في تعديم العلاقة مع الله عند أهل القرية الذين هاجمهم الجراد، بإنشاء علاقة متجددة من الأتقياء وأصحاب الكرامات مع العالم الغيبي.
يدرك الواعظ الانهيار الذاتي للخرافة الدينية، وتاليا يحاول البحث في مفردات الدائرة ذاتها بما تحمله من مضمون تاريخي ومعرفي يتعلق بعلوم ومناهج مثل مصطلح الحديث النبوي؛ والذي يعدّ الإسناد فيه مرحلة تاريخية انتهت؛ فيغوص الواقع الراهن في خضم هذا التكوين التاريخي متوسلا بالذاكرة الدينية ليخرج بإستراتيجية “إسناد الخرافة”. فحبكة الجرادات السبع واقعة حدثت في الحياة العامة وعانى منها الناس جميعا؛ بيد أن الناقل هو الواعظ الثقة وحده عن الثقة عن مثله؛ فيتحول السندُ الذي يعد آخر المحاولات لحماية الحبكة من الانهيار حاملا لعنصر الهدم في ذاته؛ إذ تتضمن هذه العملية “تكذيب الآخر” أكثر من تضمن “التصديق”؛ لأنه نقل يخالف العوائد والمنطق والحسّ؛ فالسند نوع من إيهام المتلقي بحدوث ما لم يكن ليحدث.
ولكن الأهم في العملية السابقة الذي يتضافر مع كل التحليل السابق؛ أن السند حامل لعنصر آخر هو اللا- سند؛ فالأصل في الإسناد أن المحدث الأول ينقل عن الثاني بما سمعه أو شافهه به الثاني؛ فالأصل وجود واقعة التحديث بينهما، وهي واقعة منفصلة عن حبكة الخرافة، والاستدلال عليها استدلال عقلي وضروري، كدلالة الكلام على القدرة؛ بيد أن السؤال النقدي الذي كان علماء الحديث أنفسهم يفترضونه ويضعونه موضع التشكيك في عمليات النقل هو ما الضمانات العقلية أو الواقعية التي تجعل المتلقي يثق بأن “التحديث” قد وقع فعلا في ذلك اللقاء عوضا عن حدوث اللقاء ذاته؟ مما يجعلنا نستنتج أن السند يفترض واسطة منطقية، وأنه يمكن أن يكون صناعة لغوية لا تحمل مضمونا واقعيا.
خلاصة القول:
إن الأسطورة في علاقتها القطيعية بالواقع والعلم والعقل؛ إذ تفتح الذات الإنسانية على العالم لخلق نظام آخر قوامه الآلهة، أو القوى الغيبية عبر وسائل الترميز؛ تخلق علاقة أخرى بالذات وذاتها، أو بين الوعي واللاوعي؛ لأن هذه الذات المتأسطرة تمنح للطبيعة وجودها المختلف عن الوجود المستقل؛ فانعدام السيطرة على الواقع المتمثل في الجراد؛ يمكن تعويضه بالحبكة الخرافية؛ فتتحرك الذات في المساحة الجديدة عبر المعتقدات الدينية الخاصة بهذه الذات؛ بوصف هذه المعتقدات حالة متعالية على الطبيعة وهي خاضعة لها؛ لذلك فإن الأسطورة لا تنفصم عن الواقع السياسي للإنسان عموما، والإنسان العربي على وجه الخصوص؛ فهي تسدّ ثغرة من ثغرات الفشل والإحباط اليومي الذي يواجه هذه الذات؛ فتغرق في التدين المبالغ فيه الذي يصل به إلى الحالة المرضية المغلقة، ليجد نفسه ساكنة في نظام الترميز الأسطوري الذي يوهمه بأن الواقع قد تغير؛ إنها ذات هاربة من ضجيج الصراع، وقساوة الراهن؛ فيتحول طرف الصراع الآخر المتمثل في قوى الاستبداد السياسي إلى العالم المحسوس بجراداته السبعة وهي تتفاعل وهما مع السيلان العقلي. وهكذا حينما يعلق المرء عقله بجناح جرادة.
_____________________________
[1] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية: معجم مصطلحات الفلسفة النقدية والتقنية، تعريب: خليل أحمد خليل، 2008، بيروت: عويدات للنشر، مجـ2/ 850
[2] المصدر السابق، مجـ2/851
[3] الموسوعة الفلسفية، تر. سمير كرم، بيروت: دار الطليعة، 2011 ص. 189
[4] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، مجـ3/ 1387
[5] فراس السواح، الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، دمشق: دار علاء الدين، ص. 39
[6] أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، تح. محمد زاهد الكوثري، القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، 2013، ص. 13
[7] هسّرل، الفلسفة علما دقيقا، تر. محمود رجب، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002، ص. 25
[8] ميرتشيا إلياده، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، تر. سعود المولى، بيروت: المنظمة العربية للترجمة2007، ص. 40-41
[9] سعود بن عبدالله الزدجالي، المواطنة في سلطنة عمان: الإنسان في جدلية العلاقة مع السلطة، بيروت: دار الفارابي، 2014، ص. 36- 37
[10] كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، تر. شاكر عبدالحميد، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1986م، ص. 25
[11] هنري ماسّيه، الإسلام، تر. بهيج شعبان، بيروت: منشورات عويدات، 1988، ص. 31
[12] فراس السواح، الأسطورة والمعنى، ص. 20- 21