دار حوارٌ غريبٌ بالنسبة لي في أحد “الجروبات”. كان صادما بالنسبة لي بادئ الأمر. لقد سألتْ إحداهن عن مُعلمة بعينها، فقيل لها: “للأسف باتت محجوزة وجدولها ممتلئ عن آخره، ولن تقبل بطالبٍ إضافي”، كنتُ كالأطرش في الزفة، فتساءلتُ: “عمّا يتحدثن؟”. قلن لي: “هنالك مُعلمة شاطرة جدا تعطي الدروس الخصوصية، وباتت محجوزة بالكامل”. تحسرتْ أمُّ الطالبة كثيرًا لأنّها لم تجد مُتسعا لابنتها في حلقات الدرس الجماعية تلك !
قد يبدو هذا الكلام غير متوقع وفانتازيًا بعض الشيء، ولكنه واقعيٌ حقا. فخللُ منظومة التعليم في عُمان باتت تصنعُ الأثرياء، من أولئك الذين لن يجدوا مُعضلة تُذكر جراء تنقلهم من صلالة إلى مسندم مع حقائب التدريس الخصوصي والمُلخصات الجاهزة على الدوام، فضلا عن حل الواجبات لو تطلب الأمر!
إذ يصعدُ هؤلاء الأثرياء على أكتافِ تعليمٍ هش يُعززُ فكرة النجاح والمعدلات المرتفعة على حساب الفكرة الأعظم “التعليم لأجل التعليم”. يصعدُ هؤلاء الأثرياء على أكتافِ جيلٍ اتكالي لا يرغب في أن يقوم بأبسط مهامه. يصعدُ على أكتافِ أولياء الأمور الضجرين من قصص المُتابعة اليومية وراء أبنائهم. يصعدُ هؤلاء على أكتافِ المعلم الذي يبيع ضميره في الحصّة الدراسية، ليشتغل ضميره بإخلاص كبير خارج المدرسة !
أتذكرُ جيدًا عندما كنا نُشاهد الأفلام المصرية والمسلسلات في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، أتذكرُ تلك القضية الحساسة التي تثارُ بصورة دائمة، فلا نملكُ إلا أن نتعجب منها ونستغرب؛ لأنّنا ببساطة لم نكن نُمارسها آنذاك. لقد أثار دهشتنا مشاهدة الآباء والأمهات وهم يضعون ما أمامهم وما خلفهم من أجل الدروس الخصوصية، ولكن بعد عشرين عامًا من التحولات، بات ما كنّا نستغربه واقعًا مريرًا في حياتنا !
على كل المحلات اليوم، نجد عشرات أرقام الهواتف التي تُرشدنا إلى أوكار الدروس الخصوصية؛ بل إنّ بعضهم يحصل على إقامة ويأتي إلى السلطنة ويجوبها من شمالها إلى جنوبها بالطائرة، ويجمع ثروة جيدة وعمله الوحيد هو إعطاء الدروس الخصوصية !
بدأ الأمر مع المراحل المتأخرة “الثانوية”، لأنّ الأهالي يريدون نسبًا عالية لأولادهم تُمكنهم من دخول التعليم العالي ما بعد الثانوية، ولعلنا كنا نعذرهم في البدايات الأولى، ونشعر أنّ الأمر نابعٌ من اهتمام، ولكننا لم نعد نستطيع أن نُقدم أعذارًا لأحد في ظل تفشي الدروس الخصوصية. لقد وصلتْ بكل جرأة إلى المراحل الأولى من التعليم الابتدائي !
في جوّ من التدريس الجماعي يُدفعُ للمعلم مبلغ يصلُ إلى عشرة ريالات في الساعة الواحدة، أمّا المعلم المحجوز بشكل انفرادي فتدفع له “بلاوي متلتلة”! والمصيبة الأدهى أن يكون مُدرس المادة الذي لا يدرس بضمير في الصف، هو نفسه “اللي شاد حيله” ويدرس بضمير في الدروس الخصوصية؛ بل إنّه يعصر نفسه أحيانا ويشتغل على مُلخصات ويبيعها للطلبة من مبدأ “زيادة الخير خيرين”. وفي أحايين أخرى تتسرب أسئلة الامتحانات القصيرة من بين يديّ هذا المعلم الشهم والنبيل، لكي يحصل الطالب على علامات كاملة، الأمر الذي يُسعدُ أولياء الأمور بالتأكيد.. وهكذا يتم الدفع بمسلسل الدروس الخصوصية للاستمرار والتكاثر والتفريخ!
ما كان فانتازيا بالنسبة لنا بات واقعًا محميًا ومُسيجا. والسؤال الأهم: لماذا يفهم الطالب في الدروس الخصوصية ولا يفهم في صفه الدراسي اليومي؟ وهل الطلاب الذين يذهبون إلى الدروس الخصوية هم أكثر تميزًا من أقرانهم ممن لا يذهبون؟
قرأتُ مرّة أنّ الدروس الخصوصية هي بداية انهيار التعليم في أي بلد لأنّه يُؤكد على نظرية أنّ التعليم ينهض على هدف يتيم وبائس وهو “تجاوز الامتحانات” لا أكثر.
وعندما كنتُ أسأل أولياء الأمور لماذا تُرسلون أبناءكم للدروس الخصوصية كانت الإجابات تأتي مُتنوعة، ولكنها غالبا تصبُّ في مجرى انتقاد المنهاج وأداء المدرس. “المدرس غير موجود، المُدرس يريد أن يُنهي الحصة وحسب. المنهج صعب ولا يراعي فروقات الطلبة .. أبنائي لا يستوعبون”. الأمر الذي يشكلُ حيزًا من الابتزاز للأهالي. فيما يرى قسمٌ آخر ممن هم ضد الدروس الخصوصية أنّها: “شكلٌ من أشكال التباهي لا أكثر !”.
والغريب أنّ المدارس الخاصة التي يدفعُ فيها أولياء الأمور مبالغ هائلة، لم تنجُ هي الأخرى من هذه الآفة .. نحن لا نعرف حقا هل فقدت المدرسة جاذبيتها كبيئة تعليمية، أم أنّ الأمر يعود لاستهتار الطلبة، من مبدأ “فهمت أو لم أفهم، سيُعاد شرح الدرس لي في وقت آخر”!
هنالك طلبة يفقدون حقهم باللعب والحياة الطبيعية، فما إن يعودوا من مدارسهم ويتناولون وجبة الغداء حتى ينطلقوا زُرافات إلى الدروس الخصوصية مجددًا. كنتُ أظن أنّ الأغنياء والطبقة المخملية هي التي تدفع بأولادها ناحية الدروس الخصوصية، ولكني اكتشفتُ أنّ الطبقة المتوسطة تفعل ذلك باستماته أيضا، لكي ترفع من تحصيل الأبناء، بل إنّ البعض يقترضون المال لذلك. وكنتُ أظن أيضا أنّ الدروس الخصوصية هي للكسالى والضعفاء في التركيز، ولكني اكتشفتُ أنّ الطلبة “الشُطار” لهم نصيبٌ وافرٌ منها !
العملية التعليمية تنحطُ إلى شكل تجاري كما يبدو، والكلّ يرغب في أن يبقى مُتفرجا عن بعد، ابتداءً من القوانين التي لا تفعل بشكل صارم وتنفذ، إلى المُعلم، وولي الأمر، وانتهاء إلى الطالب الاتكالي الذي هو ضحية لهذا الشكل من الممارسات.
فماذا عن دور الوزارة في تفعيل قوانينها وإجراءاتها بشكل صارم تحدُ من هذه الظاهرة التي باتت سوقًا رائجة تنتج الأثرياء، دون دراسات ميدانية تقيس هذا الوباء وأسبابه ومدى انتشاره والأثار المترتبة عليه !
والسؤال الأخير والأهم: هل نريد طلابًا ينجحون بنتائج عالية ويبصمون الكتاب عن ظهر قلب ثم يخرجون إلى الحياة دون أي شيء يُذكر !