قراءة في الأعمال المسرحية للمفكر العراقي خزعل الماجدي

كتب بواسطة عزيز العرباوي

 

يُعد الإبداع المسرحي ومساهمات الدكتور خزعل الماجدي الكثيرة في مجال المسرح، جزءًا لا يتجزأ من مشروعه الفكري القائم على تأسيس رؤية فكرية للحياة البشرية القائمة على المتناقضات العقلية والاجتماعية بهدف تجاوزها. هذا الحديث نهدف من ورائه استقراء مساهمة الدكتور خزعل الماجدي في المسرح الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا مع الشعر، والصورة، والسينما… وذلك من خلال قراءة متأنية في أعماله المسرحية الصادرة مؤخرًا.

يكتب خزعل الماجدي مسرحياته من أجل عرضها ومتابعتها على المسرح؛ ولذلك كان عليه أن يبدع مسرحياته وفق ما يراه المخرج الذي يتفق معه قبل كتابتها. وفي هذا الإطار نجده قد تفوّق في هذا المجال، بحكم أن أغلب مسرحياته التي أبدعها قد وجدت نفسها على خشبة المسرح ومقدمة إلى الجمهور العربي.

ذاع صيت خزعل الماجدي في مجال المسرح في بغداد، وخاصة خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، حين كتب الكثير من المسرحيات، وعُرض منها حوالي 14 مسرحية، في ظروف استثنائية كانت قد مرّت بها بلاده العراق، التي تعرضت لحربين وحصار شرس. ولم يؤثر خروجه من العراق في الإبداع المسرحي لديه؛ إذ كتب مسرحيات كثيرة أثناء حياته في الغربة، كما أن التحوّل الكبير الذي عرفته مسيرته المسرحية هو إصداره لأعماله الكاملة في مجال المسرح، فقد اعتمد في إصداره لهذه الأعمال في المجلد الأول منها على خطة عامة؛ فأعدّ ملفًا لكل مسرحية يتضمن ست فقرات أساسية يحددها في:

  • المقدمات: كل ما كتب حول المسرحيات في وسائل الإعلام المختلفة.
  • خلاصة المسرحية: الفكرة العامة حول مضمونها وأحداثها وفكرتها.
  • شخصيات المسرحية والتعريف بها.
  • نص المسرحية.
  • أرشيف المسرحية: عروض المسرحية، وزمنها، وكادر الإخراج والتمثيل والتقنيات.
  • مراجع الصور والأشكال.

يتكون المجلد الأول من الأعمال المسرحية لخزعل الماجدي من ثلاثة أقسام، وهي: مسرح الصورة، والمسرح الشعري الحديث، والمسرح المفتوح. وسنحاول مقاربة كل قسم على حدة؛ على أساس أننا سنختار مسرحية واحدة فقط، فنقدمها للقارئ مع الإشارة إلى باقي المسرحيات ببعض الإشارات القصيرة.

 

  • مسرح الصورة:

في هذا الإطار يسلط الدكتور الماجدي الضوء على الجذور التي نشأ منها مسرح الصورة، إذ ينتمي هذا النوع من المسرح إلى تيارات مسرح ما بعد الحداثة في الغرب التي ظهرت متتابعة بعد الحرب العالمية الثانية، كما يدين بالفضل إلى أطروحات أنتونين آرتو المسرحية الحداثية في إطار مسرح القسوة. إضافة إلى أن هناك أمورًا كثيرة قد اجتمعت لظهور الاهتمام بالصورة على حساب انحسار الاهتمام باللغة.

يحدد الدكتور الماجدي جذور مسرح الصورة أو مرجعياته في ثلاث مرجعيات تتجلى في الشعر، والرسم والسينما، إذ العلاقة جدلية بينها تاريخًا ووظيفة. وفي هذا الصدد يتحدث عن المقدمات الفلسفية لمونادا الصورة، والمقدمات الجمالية والشعرية لمونادا الصورة، ومرجعيات مسرح الصورة والمحددة في المرجع الشعري والمرجع التشكيلي والمرجع السينمائي، وآفاق مسرح الصورة من خلال مسرح المرآة، والمسرح السيميائي والمسرح الشعائري.

  • مسرحية: “عزلة في الكريستال”:

تعد مسرحية “عزلة في الكريستال” من المسرحيات التي تعيد الاعتبار لقضية الموت المقبل ولحظاته الخاصة، إذ يسترجع بطل المسرحية صلاح القصب، كما يرى بول شاؤول، لحظات موت مقبل، ويتذكر لحظاته، كحالة وكوسواس في الجسد والحدس والروح، معتبرًا إياه حالة تتسع إلى زمنية مطلقة معممة، تطول إلى مجمل الإرث التاريخي والإنساني؛ إذ تقوم على لعبة التدمير المستمر، حيث الصورة تدمِّر الصورة بالصورة، الطقوسية تلغي الطقوسية بالطقوسية، والمشهدية تحطم المشهدية، والكلام ينفي الكلام، والحركة تمنع الحركة. أما شاكر عبد العظيم فيرى أن المسرحية اعتمدت “على التشكل نحو انفتاح النص وابتعاده من التمركز حول الإيديولوجيا الشمولية الواحدة، ويتكون لدينا هنا صراع الإيديولوجيات وتعددها. فالحدث ليس أكثر من صراعات فكرية تحاول أن تجد لها ثباتًا على أرض الواقع والفكر”؛ لأن المنفي في حد ذاته هو روح تائهة تدور في أفلاك من الفضاءات التي يرفضها ولا يرغب التفاعل معها وهي السلطة المهيمنة التي تحاول خنق صوته وقتله…”.

يقدم الدكتور الماجدي خلاصة المسرحية فيقول فيه: “يعمل مهندسو الاستبداد والموت والحرب على إسكات صوت المغني الذي يرفض الاستجابة لما يريدونه؛ لأنه معنيٌّ بصناعة وإشاعة الجمال والحرية والحياة، ولذلك فإنهم يعملون على محاولة إسقاطه وعزله، فيختار المغني عزلة محتجة رافضة مصطحبًا معه صاحبته المغنية التي يصيبها الحزن والخوف فتقوم بصنع تابوت أو كفن لهما. يتضامن معهما مجموعة من الموسيقيين المعزولين المنهكين الفاقدين للأمل ،وكذلك مجموعة من حاملي صور القتلى أو الضحايا أو المسجونين بسبب ذلك الموت والخراب والقبح. وفي الوقت الذي تنهي المغنية صناعة التابوت وتنصبه وسط المسرح يعمل المغني على تحويل ذلك التابوت إلى بيت له، يأويان له ويعرضان تحديهما العنيد والمثابر للفن الرديء والقبيح والمحرِّض على الموت. وحين يظهر الحفار (الذي يرمز للموت والقبح) ومعه (العجوز) يدخل المغني والمغنية في صراع معهما يساندهما الموسيقيون وحاملو الصور، ويشتغل المكان بالنار وتشبُّ حرائق الشر ويعزف الموسيقيون حدَّ الإغماء دفاعًا عن وجودهم وعن فنهم الحقيقي، ولكي تنتهي النار ويندحر الحفار والعجوز ومعهما كل الشرور ويجبرانهما على التراجع أمام هذا التحدي، لكن المغني والمغنية لا يريان نهاية واضحة لهذا الصراع، فهما في عزلة الكريستال الصلدة والواضحة الرؤيا لكن الدنيا حولهم في التباس ضباب ودخان”.

يستغل المبدع في هذه المسرحية شخصياتها في التعبير عن هذه القضايا المحددة في التقديم السابق، حيث المغني والمغنية داخل عزلة الكريستال بعيدون عن الواقع المزري والغارق في المشاكل والفظائع، ويحاولان قدر المستطاع الدخول في صراع مع الحفار والعجوز اللذين يمثلان الموت والقبح والظلام، لكنهما لا ينجحان في ذلك، إنهما يرمزان إلى أولئك الذين يمارسون التقية باسم التغيير والإصلاح لكنهم لا يؤثرون في شيء ولا بشيء، بينما الفساد والظلم والموت والقبح، كلها شرور تجد نفسها في الواقع فتحصد الضحايا والضعفاء.

يقول المغني:

وأنا الذي ضيعت وقتي عازفًا

في جوقة تبكي يدين نحيلتين

تبكي معزفًا متمزقًا

وتبكي نوتة سرية تعمي العيون إذا أفاقت.

يتجلى الموت بكل أنساقه وأنماطه في المسرحية حيث يعمُّ كل الفضاءات ويستولي على كل العقول، في استحضار لصورة القبر  بحمولته الدلالية والثقافية، يقول الماجدي:

المغنية: سقط المغني

كانت الألفاظ قبرًا للمغنين، احتمال مكيدة

أو شهقة للعقل في الزبد الطري وفي معادن

شفرة سرية أو سوط أنثى تشتهي

وسيوطها الغرباء والغرباء نبل أبيض

في الشمس لا يتحركون

سقط المغني

كانت الألفاظ تحمل ميتين وكان أن

ألقى طحال البحر خرزته وأزهرت السواحل

مثل ذنب نازف

وطوى رماد الخمر إبرته وكان لنا سماء.

يعبر الماجدي عن الواقع الحالي، واقع بلاده ووطنه العربي، حيث الخراب والموت والدمار والتخلف بكل ما تحمله هذه العبارات من دلالات سياسية وثقافية وفكرية، إنه الموت المرير، والخراب المنتشر في كل الوطن، وبالنتيجة الصراع الواقع بين الموت والحياة، بين البناء والخراب، بين الفساد والأخلاق.

1-2- المسرحيات الأخرى:

أما مسرحية “حفلة الماس” فهي مسرحية تناقش موضوع الخلاص من الحروب والتعسف وأحابيل السياسة، كما الخلاص من المنفى الذي يمثل علامة للملل والروتين، لكن هذا الخلاص لا يكون إلا بمحاولة الانتحار دون النجاح فيه، أو بالدفن حيًا لكن دون الخلاص من هذا الجحيم.

بينما مسرحية “صنيعي الشاسع أتممته” ترصد النصف الثاني من حياة الشاعر الفرنسي رامبو التي قضاها في إفريقيا، حيث ترك الشعر بعد أن حقق فيه منجزًا كبيرًا وطاب له أن يكون تاجرًا يتعامل مع العاج والبن والأسلحة والعبيد، وقد مثلت مغامرته هذه لغزًا محيرًا ما زال يحاربها النقاد ودارسو الأدب.

في حين نجد أن مسرحية “نيما” محاولة لاستخراج “أنيما” الرجل وظهورها أمامه كامرأة حقيقية في سعي لمعرفة ما الذي يمكن أن يحصل لو عثر الرجل على المرأة التي في داخله حية في الحياة، ولمعرفة كنه الأنيما ودورها في حياة الرجل.

إن مسرحية “نصب الحرية” تستمد إطارها العام من منحوتة (نصب الحرية) التي صنعها، بمهارة وإبداع، الفنان العراقي المعاصر جواد سليم، التي تزين قلب بغداد حاليًا؛ فهي مسرحية تعالج في أحداثها تلك المفارقة التي تتجلى في غياب الحرية على الأرض، فيحاول البعض إنزال النصب وفتح السجون التي تكبل الحرية وتمثل الاستبداد والظلم والفساد.

 

2- المسرح الشعري الحديث:

في هذا القسم من الكتاب يتحدث الدكتور الماجدي عن البيان الخاص بقضية إعادة الاعتبار للشعر والمسرح معًا وإقامة علاقة وثيقة بينهما، إذ يعدّ اللقاء بينهما اليوم ضروريًا ومهمًا يقوم على ندية متبادلة وخصوبة وعلى شوق عميق من أجل أن يزدادان غنىً وثروة، وعلى “عمق خصيب يكون فيه الشعر مثل الروح الكهربية التي تحفِّز وتنشِّط المسرح وتبثُّ روحًا جديدة فيه مثلما تكون شحنة المسرح عاملًا على تخليص الشعر من سكونه وأحاديته وركون أدواته”.

هذا البيان المذكور يستمد ذاته من خلال “رصد شعرية المسرح في عصر ما بعد الحداثة الذي نعيشه غريبًا كجهاز معرفي وتقني متكامل ونعيش بعض مظاهره عراقيًا وعربيًا بسبب من نزعتنا الاستهلاكية المزمنة”. وفي هذا الصدد يرى الدكتور خزعل أن الثقافة والإبداع العربيين بحاجة ملحة إلى فن ثقافي واجتماعي مبتكر لآليات جديدة ينشط بها المسرح، ويتمثل هذا الفن حيث يجعل الثقافة حيّة مع المجتمع والمحيط والنظر بجدية إلى التحولات الاجتماعية الجديدة بعد ظهور بعض هوامش الحرية التي منحت الفن والثقافة بعض الانفتاح على  الحرية في التعبير والإبداع.

من خلال هذا الحديث يتحدث المبدع عن تاريخ المسرح والشعر، وشعرية النص، وشعرية الممثل، وشعرية العرض والإخراج، وشعرية السينوغرافيا، وشعرية الفونوغرافيا.

2-1- مسرحية “ليليث”:

ولعل ليليث، في رأي الدكتور خزعل الماجدي، هي واحدة من أهم الشخصيات الدالة، على آثار هذا تحملت سهامه وجراحه الكثيرة، فليليث ، في نظره، هي شخصية سومرية ٌ أصيلة وهي المرأة الأولى التي خلقت بمقابل الرجل الأول، حيث كان اسمه في السومرية هو “ليل” ومعناه “هواء”، أما المرأة الأولى فهي مؤنثة “ليلت” أو “ليليث” ويكون معناها “هواء” الذي أصبح “حواء” لأن حرف الحاء في السومرية غير موجود، وقد ُخلقا من الطين حسب أسطورة الخلق السومرية.

ويضيف الدكتور خزعل، أن الأساطير العبرية، التي جاءت بعد ما يقارب الألفين سنة من الأساطير هي سومرية، حيث كان اسم الرجل فيها هو “آدم” ومعناه التراب، أما اسم المرأة الأولى فقد كان “آدمة” التي استبدلت بكلمة “هواء” والتي صارت “حواء”، وبذلك ظل اسم ليليث بصيغة هواء أو حواء وهو ما يدل على ليليث، لكن شخصية ليليث التي أشبعها التراث الديني الذكوري ً قتلا وتهميشًا كان واضحًا في التراث العبري، حيث حول ليليث إلى شيطانة ومصاصة دماء وغولة، بل إنها أصبحت نظيرة الحية في الفردوس. لقد ظلت ليليث مدفونة تحت الحضيض الذكوري والحوائي في الأديان الشمولية إلى أن جاءت الثورة العلمية لعلمي الأساطير والأديان فكشفت عن حقيقة شخصية ليليث التي صارت دالة على المرأة الحرة القوية الند للرجل. وعندما ندرس التراث النسوي الغربي المعاصر الخاص بليليث ٍ كرمز لحرية المرأة، فإننا سنصاب بالذهول من حجم ونوع اهتمامه بها كشخصية دالة على حرية المرأة، فقد كشف مفكروهم ومفكراتهم ما انطوت عليه عملية وصم ليليث بالوحشية والدنس والشيطانية، وكشفوا الزيف الذي مارسه ضدها اللاهوت الديني القديم والوسيط… من هنا نجد المبدع الكبير الدكتور خزعل الماجدي يهتم بهذه المرأة في إبداعه الشعري والمسرحي، باعتبارها امرأة تستخرج من أعماقها شخصية ليليث لتستعيد حريتها وكرامتها التي أهدرها رجل عابث.

ويلخص الدكتور خزعل نص المسرحية في كونها مونودراما امرأة تتمثل شخصية ليليث الأسطورية، فهي ليست عن ليليث، بهذا المعنى، بل هي محاولة للاستعانة بليليث على أن تستعيد المرأة حقيقتها وكرامتها، وهي بتعبير أدق تستخرج شخصية ليليث من أنقاض تجربتها الفاشلة مع رجل لم يفهم حبها ولم ِ يثمنه بل إنه أذلها فانتصرت لنفسها وورمت ثوب حواء الباردة الخجول، واستعادت جسد ليليث وروحها الكامنة فيها. فتظهر المرأة وحيدة جالسة على زقورة  وفي يدها دمية قطنية لرجل بحجم طبيعي وهي تتكلم معه طيلة زمن المسرحية، تتكلم لنا عن قصتها بلغة غير مباشرة، وهي تهبط سلالم الزقورة، واحدة بعد أخرى، حيث يرافق ذلك ما تلبسه من زينة وحلي، فيكون هبوطها أيضا دالًا على هبوط علاقتها بالرجل، من القوة إلى الضعف، فتسقط قلادتها وشالها ثم أقراطها وحزامها وأساورها وهي تروي خياناته لها وتخليه التدريجي عنها واتهامه لها بإهمال ولده وموته، وتروي تعذيبه لها ثم طردها حيث تنزل إلى أسفل  شبه ميتة.

كم من الدراويش صاموا من أجلي، وفي أيديهم الزلزال، تعاويذهم هنا معي،

لكنك كنت الوحيد الذي ذهب معي إلى الأقاصي

في ربيعك  تخفق الطيور،

وفي هذه الوحشة فمي ملطخ بذكراك.

كم قلت لي: ِ أنت الوردة الخفي في صدر كل رجل

تتسرب ُ الحرارة من جسدي إلى غيابك فتحضر هنا معي،

شريط أفلام وصور

وأساطير تهبط من رأسي إلى قدمي، زهرة بين أصابعي

زهرة من حجر ودخان.

وفي الأسفل تضع دمية الرجل على كرسي وترشها بالعطور ثم تربطها إلى الكرسي، وكأنها تجبره على الإصغاء لها والاعتراف بذنبه، لكنها هي من يعترف حين تنزع ثوبها الحوائي وتظهر حقيقتها الليليثية وتكشف أصلها المنحدر من أسطورة ليليث وليس من أسطورة حواء، وليست من أسطورة حواء. إنها الأنوثة الحقيقية الكبرى التي تمسك الحياة. وبعد أن تربط دمية الرجل تهدهدها على الكرسي ثم تعلقها في حبل مدلي من السقف ثم تنهيه من حياتها إلى الأبد بطريقة الطقس السحري التعاطفي حيث تطعنه فيختفي. فتجسد الأنوثة الكبرى عن طريق رسمها النجمة كبيرة على خشبة المسرح بأوتاد وحبال لتثبت وجودها على الأرض، لكنها تحن إلى السماء كنجمة، فتسعى إلى استعادة حريتها كاملة عن طريق عودتها إلى أعلى الزقورة ومن هناك تتحول إلى حمامة وتطير نحو الأعالي.

وتنهشنا الحمى. في الأقاصي أمراضنا وخيولنا المقتولة وفي مساقط

عيوننا الدهشة والجنون.

كيف نسترد بذورنا وكيف نتقاسم مع طروسنا الكلمات؟ أقوالٌ

حسنة خرجت، وأقوال هابطة زالت، ونحن ننتظر البروق.

 

3- المسرح المفتوح:

يرى الدكتور خزعل الماجدي أن المسرح المفتوح هو “لون مسرحي جديد نسعى إلى تأسيسه نظريا عبر النصوص، ونتمنى أن يظهر من المخرجين والممثلين والتقنيين المسرحيين من يساعد على ولادته على الأرض. مع أن هناك شذرات من هذا المسرح ظهرت هنا وهناك، لكننا نشعر أننا اليوم بحاجة ماسة إلى ظهور (المسرح المفتوح) كاملاً كتيار أو لون مسرحي جديد يتناغم مع التحولات الجارية في عصر ما بعد الحداثة على مستوى المسرح والشعر والفنون الأخرى”. بل ويؤكد على أمية هذا النوع من المسرح باعتباره قد تضافرت من خلاله أمور كثيرة في صياغة هذا النص المفتوح في شعر ثقافة ما بعد الحداثة ومفاهيمها، وتجاربنا في مسرح الصورة ومسرح الأسطورة وغيرها، وكذلك شعورنا الدائم بالحاجة إلى لون مسرحي جديد يهضم كل المفاهيم والمفردات الجديدة لهذا المسرح الجديد التي نتجت من تجاربنا العملية أو أفقنا الثقافي أو مشاهداتنا المنتخبة.

وعن المفاهيم الخاصة التي يهتم بها هذا النوع من المسرح يتحدث الدكتور خزعل عن ما يجعل أي نص المسحر المفتوح يختلف جذريا عن المسرح التقليدي، لأنه يعتمد على حقول وآليات تنتمي إلى كتابة أخرى غير تلك التي نألفها، حيث تتسع حقول النص السردية والشعرية لأقصى ما نعرفه، فينفتح النص على أنواع السرد القديم والحديث، ويقوم المؤلف المسرحي بالاستفادة من حقول السرديات كلها. فالفعل السردي في الحياة بما “يتضمنه من أحداث متواترة كل يوم من البيئة التي نعيش فيها بشكل خاص يمكن أن يكون مصدر إلهامنا الأول، لكن إعادة تنظيم وحدات الفعل السردي وترتيبها هو ما يجب أن يقوم بها كاتب النص المسرحي المفتوح على بعضها في الحدث، بل إن هذه البيئة يمكن فتحها على أحداث مشابهة أخرى رآها الكاتب في وقت آخر وزمن آخر أو شاهدها في أعمال أخرى ويجب أن تنفتح الأعمال السردية على بعضها في النوع أيضاً من الخبر إلى الحكاية الصغيرة إلى القصة إلى الموتيف السينمائي إلى الحكاية التاريخية إلى الحكاية الأسطورية إلى المفارقة وغيرها. يمكننا خلط الفعل السردي الذي نرصده بأفعال سردية أخرى من أماكن أخرى بل ممكن الاستعانة بالأحلام والرؤى”.

ومن خلال هذه المفاهيم يمكننا الحديث عن بعض منها، وهي على الشكل الآتي، حيث فصل فيها الدكتور خزعل، وناقشها بشيء من التفصيل: النص، التمثيل، الإخراج، السينوغرافيا، الفونوغرافيا. وذلك من خلال الحقول العلمية والمعرفية التالية: الصورة، السيناريو المسرحي، نفي المركز، التراث الأنتروبولوجي، الرموز والنماذج البدئية، كيمياء المسرح، متن الحكاية وهوامشها، البنية المفتوحة، النص المفتوح.

 

3-1- هاملت بلا هاملت:

تحكي مسرحية “هاملت بلا هاملت” قصة غاية في الأهمية، إذ إنه بعد قتل الملك هاملت على يد أخيه كلوديوس وبتواطؤ مع زوجة الملك “غرترود”، يقرر هاملت الابن العودة من “ويتنبرغ”، حيث يدرس هناك، إلى الدنمارك ليشارك في مراسم جنازة ودفن أبيه، لكن السفينة  التي كانت تقله تغرق ويموت هاملت فيحدث موته أول شرخ في جدار الجريمة التي اقترفها عمه ووالدته، فيضرب هذا الموت عاطفة الأمومة التي تقبع في أعماق الملكة ويتصدع هذا الجدار. أما الأثر الثاني المهم لموت هاملت فيظهر على “أوفيليـا” حبيبـة هاملت التي تمثـل في هذا العمـل النقاء والصفاء حتى النهاية. والأثر الثالث يظهر في هروب هوراشيو صديق هاملت من المملكة بعد أن يتوقع خرابًا لهذه المملكة التي بدأت تعصف بها رائحة الموت.

كلوديوس: هل استأذنت أباك؟ ماذا يقول بولونيوس؟

بولونيوس: تمنيت أن يبقى معنا لكنه لا يقوى على ذلك فقد اعتصر مني قبولاً في الرحيل فأرجو أن تأذن له يا مولاي.

كلوديوس: كما تشاء يا ليرتس.. اذهب متى أحببت.

)يقوم بولونيوس فيستلم رسالة يأتي بها ويقدمها إلى الملك).

بولونيوس: رسالة عاجلة أرسلها لك قائد سواحل الدانمارك يا مولاي.

كلوديوس: ليكن خيراً ما بعثه لنا.

تتقابل الأم وأوفيليا في مشهد هو أقرب إلى الاعتراف وتتحول صورة غرق أوفيليا، في النص الشكسبيري، إلى صورة غرق هاملت في نص خزعل الماجدي، وهكذا كأن الموت ينعكس في ثالث مرايا متقابلة. ويبدأ من  هذا المشهد تصفية المخطئين، فالخطيئة تجر الملكة إلى حتفها على يد عم هاملت بعد أن يزعجـه قلقهـا وكلامها. وتنتعش شهوات ليرتس بعد أن يعرف أن أجداده كانوا هم ملوك الدنمارك فيقتل الملك الجديد عم هاملت، ثم يقتل والده عمدًا ثم يصبح هو الملك. ينهار ليرتس وتقوده جرائمـه إلى حفار القبـور ويستسلم هناك لقبره، فيدفنه الحفار مع الآخرين. وتبقى أوفيليا شاهدة على شهوات الموت المتطاحنة وكذلك يبقى حفار القبور يهيئ، دائماً، القبور الجديدة…

الملك: لقد أصبحت لا تطاقين يا غرترود.

الملكة: لا شك بأني سأحتاج إلى كاهن لأكمل اعترافي أمام الله.

الملك:  أنت تذهبين بعيدًا وتريدين لسرنا أن ينتشر في المملكة.

الملكة: لا بد أن أفعل ذلك.

الملك (ينتزع  حبلا من السرير أو من الملابس ويحاول أن يلفه على رقبتها):

بل لا بد أن تموتي.

 

أدب الأول بعد المئة

عن الكاتب

عزيز العرباوي