الاستنارة بالقرآن كعلاج بالمعنى

 

كتب الفيلسوف الألماني (نيتشه) ذات مرة بداية القرن العشرين أن الله قد مات، ليزيد بكبر وجوديته خبو الرجاء في العالم الغربي، ثم حدث التحول الكبير نحو الأنانية في أمريكا في الستينيات، وكان انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية القرن العشرين القشة التي قصمت ظهر البعير. وقد شهدتُ بنفسي إبّان دراستي في الولايات المتحدة منتصف الثمانينيات مولد حركة عون الذات self help التي ما لبثت أن تحولت إلى بحث عن الخلاص من العدمية واللامعنى.

لقد مات نيتشه وما زال السراب الذي يحسبه الظمآن ماء في كل مكان.

والعلاج بالمعنى أو العلاج المعنائي مبني بالتأكيد على أن دافع الإنسان الأساسي في الحياة ليس طلب المتعة وتجنب الألم كما ذهب إلى ذلك فرويد، ولا التخلص من عقدة النقص كما ذهب أدلر؛ بل هو طلب معنى الحياة. وإدراك معنى للمعاناة هو عمود مدرسة العلاج النفسي المسماة بالعلاج المعنائي Logotherapy  التي أسسها بعد الحرب العالمية الثانية طبيب النفس النمساوي الراحل فكتور فرانكل، وذلك بعد فتحٍ فتحه الله عليه أثناء مكابدته في معسكر الاعتقال النازي سيئ الذكر (أوشفتز) المخصص  لتصفية غير القادرين على العمل في أعمال السخرة من اليهود الأوروبيين والغجر والأسرى السوفييت.

وعلى الصعيد نفسه يعدّ القرآن ترياقًا للحيرة والكرب الوجودي؛ فهو يوفر للإنسان مبادئ وسبل استنارة لتحقيق معنى الحياة، وبخلاف مدارس فرويد وأدلر وفرانكل يركز القرآن على المعنى النهائي؛ أي على المعنى الذي ينتهي إليه معنى كل شيء وهو الحق تبارك وتعالى: (الله جل جلاله). والاستنارة بالقرآن تستند على إدراك الآتي:

 

  1. الإنسان مولود على الفطرة.
  2. الإنسان مخلوق في كبد.
  3. الحياة الحالية ليست هي الحياة النهائية.
  4. حرية الإرادة
  5. حقيقة القدر.

 

أولا. الإنسان مولود على الفطرة: أي طلب الخالق ومعنى الوجود. وهي المقصودة بصبغة الله في قوله تبارك وتعالى: “صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ” (البقرة: 138). يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في خاطرة عن هذه الآية : ” إذا جئنا بقنديل من الزيت ووضعنا فيه فتيلا من القطن بحيث يكون الفتيل في الزيت ثم تشعله من أعلاه نجد أن الزيت يسري في الشعيرات ويشعل الفتيل. وقوله سبحانه: (صِبْغَةَ الله) لنعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله وأنه ليس صبغة من خارج جسمك؛ لذا يهز الإيمان كل أعضاء الجسد البشري. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: (الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23 ) . هذا هو التأثير الذي يضعه الله في القلوب وهو أمر داخلي وليس خارجيا”.

فالإنسان بحسب القرآن الكريم عابد بطبعه، وفي حالة إحباطِ مطالبِ هذه الصبغة يُصاب الإنسان بحالة يسميها القرآن الكريم (الضنك) وهي حالة تشمل بالمفاهيم الحديثة: الاكتئاب الوجودي والقلق الوجودي أو ما أسماه عالم النفس النمساوي الذائع الصيت (فكتور فرانكل) بالعصاب الروحي. قال تعالى ” وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ” (طه:124).

ولقد أجرى عالم النفس الأمريكي الراحل ( جيمس سي. كرومبو) اختبارًا باسم (اختبار مقصد الحياة) PIL  استطاع  عبره تمييز العصاب الروحي عن كل أنواع العصاب التقليدية الأخرى. وقال كرومبو أثناء عرض نتائج دراسته الأولى بتطبيق (بي آي إل): إن العصاب الروحي يوجد بمعزل عن التصنيفات التشخيصية التقليدية، وليس مطابقًا لأي من أعراض التشخيص التقليدية. أي إن العصاب الروحي متلازمة سريرية جديدة لا يمكن فهمها فهما كافيا باستخدام الأوصاف التقليدية.

 

ثانيًا: الإنسان مخلوق في كبد. قال تعالى ” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ” (البقرة: 155). وقال: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَد ” ( البلد: 4) وقال ” يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ” (الانشقاق: 6). وما زلت أذكر في هذا الصدد تلك الشابة التي جلست على كرسي الطاولة التي كانت مقابل طاولتي في صالة مطعم أحد المستشفيات في مدينة مسقط. كانت تمسح بمنديل دموعَها المنسكبَةَ على وجنتيها وكانت عيناها مُحْمَرَّتين من الدمع. كتبتُ هذه الكلماتِ على قُصاصة وطلبتُ من نادلة قريبة أن تعطيها إياها: ” الابتلاء جزء من حياة المؤمن والمؤمنة. والأوقات العصيبة تركز نظرنا إلى الداخل وتقوي علاقتنا مع الله. والعلاقة مع الله تجعل لمعاناتنا معنى وتجعل لنا مخرجا. وكلَ ابتلاء له أجل ” إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) (الانشراح).

لذا لم يستهن أرباب السلوك الإسلامي بعقبة الابتلاء في طريق السالكين إلى الله، حيث قال صاحب كتاب (مدارج السالكين) عن الصبر على الابتلاء بأنه ” أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة وأنكرها في طريق التوحيد” . لكنهم في الوقت نفسه ثمنوا تعبد الله بالصبر. فالعلاقة مع الله ليست عبارة عن علاقة تجار أو كشف حساب. كما أنهم ثمنوا كذلك العاقبة الحسنة الكامنة في التحولات الداخلية والخارجية التي تتمخض عن الابتلاء، إذ يقول تبارك اسمه ” فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا  ” (النساء: 19) وفي هذا الصدد يشير عالم النفسي الأمريكي (جونوثان هيد) إلى ثلاث منافع للإبتلاء وهي:

  1. أنه يقوي الإنسان ويجعله أكثر مرونة.
  2. أنه يقوي العلاقة مع العائلة والأصدقاء.
  3. أنه يغير أولويات الشخص ونظرته للحياة.

 

ثالثًا : الحياة الحالية ليست هي الحياة النهائية التي لا حياة بعدها. قال تعالى:” وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (العنكبوت:64). فبالإيمان بالآخرة يقدم القرآن الكريم للإنسان هدفا مستقبليا نهائيا. وفي هذا المعنى يؤكد (فكتور فرانكل) في كتابه (بحث الإنسان عن المعنى) أن الأشخاص الذين كانت لهم أهداف مستقبلية يرجون تحققها نجوا رُغم معاناة مرارة العذاب في معسكر الاعتقال النازي (أوشفتز) في حين استفحلت نسبة الوفاة بين الذين لم يروا لهم أي هدف في المستقبل. ويبين فرانكل وهو طبيب نفسي أن أحد وسائل منع الانتحار بين المعتقلين كانت تبيان هدف لهم  في المستقبل ليعيشوا من أجله؛ إذ يقول: ” إن طرائق العلاج النفسي في المعتقل كانت بمثابة تدخل لحفظ الحياة، فقد كانت كلها مهتمة بمنع الانتحار. وأذكر حالتين من الحالات المحتمل انتحارها، فكلا الرجلين تحدثا عن عزمهما الانتحار، وكل واحد منهما قدم التبرير نفسه؛ أي إنه لم يبق له ما ينتظره من الحياة. وبرزت في كلا الحالتين المسألة نفسها، أي أن يدرك الاثنان أن الحياة لا تزال تتوقع منهما شيئا في المستقبل، لقد اكتشفنا أنه بالنسبة للشخص الأول كان ابنه الصغير الذي ينتظره في دولة أجنبية، في حين تعلق الأمر بالنسبة للآخر بشيء لا بشخص؛ فقد كان عالما كتب عدة كتب لم ينته منها بعد، ولم يكن بوسع شخص آخر إتمام هذا العمل. إن فرادة كل حالة وتفرّدها قد ميزت كلا الرجلين وأعطت لكل منهما معنى لكي يستمر في العيش. وعندما أدرك الرجلان استحالة أن يقوم أي شخص آخر مقامهما ظهرت لهما بجلاء مسؤولية الإنسان تجاه بقائه واستمراره. فالشخص الذي يصبح على وعي بمسؤوليته تجاه ولد ينتظره بشغف أو عمل عليه إتمامه لن يزهد في حياته. فالذي يعرف لماذا يعيش يستطيع تقريبا تحمل أيِّ كيف” (15 ).

 

إن القرآن الكريمَ يُبيّن للإنسان هدفا مستقبليا نهائيا لا هدف بعده؛ فالقرآن الكريم يؤكد للإنسان أنّه في رحلة نهايتها المستقبلية جنة عرضها السموات والأرض حيث تنتهي كل معاناة.

 

رابعًا: الإرادة الحرة أو حرية الإرادة؛ فالإنسان في القرآن الكريم مخلوق يملك حرية الاختيار وهو لذلك مسؤول عن خياراته. وهي الأمانة التي حملها الإنسان. قال تعالى ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا  (73)( الأحزاب). وتشمل هذه المسؤولية مسؤوليته تُجاه نفسه ومسؤوليته تُجاه غيره، وتتيح له هذه الحرية البحث عن معنى للحياة وتحقيقه حتى في حالة المعاناة؛ لذا لا يعيب الإسلام معاناة المعاني. فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على موت ابنه إبراهيم ، وقال : ” إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ” متفق عليه. وابيضت عينا نبي من الحزن حيث يقول القرآن الكريم عن يعقوب عليه السلام لما ذهب ابنه يوسف ” وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. (يوسف: 84). فلوم المعاني على معاناته يزيد من معاناته. تقول عالمة النفس الامريكية الراحلة (إدث ويسكوف جيولن) : ” إن فلسفتنا القائمة على النظافة العقلية تؤكد فكرة بأن على الناس أن يكونوا سعداء و أن عدم السعادة عرض من أعراض عدم التوافق مع المجتمع أو سلوك غير اجتماعي. إن نظام القيم هذا مسؤول عن حقيقة أن عبء عدم السعادة الحتمية يزيد بعدم السعادة عن عدم السعادة”.

 

خامسًا:  حقيقة القدر. وهذا الأمر لا يعني الإيمان بالقدر على الطريقة الجبرية؛ وإنما يعني قبول الظروف والحوادث الحتمية أي التي ليس للإنسان فيها حيلة بما في ذلك المعاناة التي لا مفر منها. وأحسن تعبير عن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم: ” المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان” (رواه مسلم).

 

ويتحقق المعنى في القرآن الكريم بسبل الاستنارة الآتية:

  1. بالعلاقة مع المعنى النهائي: وهو الله جل جلاله. ويهيمن المعنى النهائي على ما دونه من سائر المعاني؛ لذا لا تخلو صفحة من صفحات المُصحف من ذكر لفظ الجلالة (الله) أو من اسم من أسمائه الحسنى أو صفة من صفاته أو من الإشارة إليه؛ ففي القرآن يخاطب الخالق المخلوق، وفيه يجد المخلوق خالقه. وعلى أي صفحة يفتح المخلوق المُصحف يجد أن الله يذكر نفسه ويدعوه إليه.
  2. بفعل الخير للغير. ربما قد خبرتم هذا الشعور من قبل: الإحسان يشعرك بالسعادة والرضا. فلا غرو أن دراسة نشرتها دورية Journal of Health and Social Behavior قد كشفت عن أن الإحسان وفعل الخير والعمل التطوعي أمور تمد فاعلها بالطاقة من ستة أوجه: أنها تعزز السعادة وتعزز الرضا بالحياة وتقوي الإحساس بالسيطرة، وبها يصح البدن ويحسن المزاج.

ويؤكد القرآن أن حالة البر لا يمكن أن يبلغها الإنسان دون إنفاقه على غيره مما يحب؛ أي إن حالة البر مشروطة بالتسامي. قال تعالى ” لنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” (آل عمران: 92 ). ولا يشمل هذا الخير المتعدي للإنسان فقط؛ بل يشمل البيئة والحيوان والطير والنمل، كذلك أي الحياة الفطرية. والمراد أنّ من سبل تحقيق المعنى في حياة المسلم الإحسانَ إِلى الخلق و البيئةِ و الحياةِ الفطرية.

  1. بموقفه من أحداث الحياة بما في ذلك الموت. فعَنِابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : ” لا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ ، وَلا تَحْمِدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ ، وَلا تَذِمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ ، فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ لا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ ، وَلا يَرُدُّهُ عَنْكَ كُرْهُ كَارِهٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرَّاحَةَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينَ ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي السَّخَطِ وَالشَّكِّ “. وفي هذا الصدد كشفت دراسة قام بها علماء نفس من جامعة (فاندربلت) الأمريكية عن ارتباط سلبي بين الغاية من الحياة والخوف من الموت. فالأشخاص الذين عبروا عن معنى وغاية لحياتهم كانوا الأقلَّ خوفا من الموت. في المقابل فإن الذين قالوا بأنه لا معنى ولا غاية لحياتهم كانوا الأشدَّ خوفا من الموت.
  2. باحتساب الصبر وهو فرع من الإيمان بالآخرة. قال تعالى ” إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ” (الزمر: 10) أي في الحياة الآخرة. وقال في موضع ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚإِنَّ اللَّهَمَعَ الصَّابِرِينَ) ” البقرة :153 ) وفي موضع آخر قال:

” و َكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ( آل عمران: ١٤٦). بل يؤكد القرآن الكريم أن المؤمن في حالة دائمة من الصبر. قال تعالىوَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)( الرعد).

 

لذا يعدّ القرآن الكريم ترياقًا للفراغ الوجودي؛ فهو يجيب عن الأسئلة الثلاثة الكبرى: من أين ولماذا وإلى أين؛ وإذ يؤكد القرآن الكريم أن للمعاناة معنى فهو في الوقت نفسه علاج للمعاناة. فكما أنه شفاء من الشك والحيرة الوجودية والعصاب الروحي هو في الوقت نفسه علاج نفسي  بقراءته والإنصات إليه. فما زال القرآن الكريم يمارس أثره على ملايين القلوب منذ ألف وأربعمائة سنة؛ لذا يعبر الذين يقرؤون القرآن الكريم عن شعور بالراحة عند قراءته أو الإنصات إليه. وفي هذا السياق يذكر المستشرق البريطاني الراحل آرثر آربريArthur Arberry   – الذي وضع ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الانجليزية- في مقدمة الترجمة أنه لم يعنه على إتمامها إلا استمرار أثر جمال صوت القرآن الكريم الذي كان يسمعه في القاهرة من مقرئ مسن يقرأه يوميا كل صباح، مضيفا أن الجمال الأصلي للقرآن لم يفارق ذهنه. (20)  ولي أنا كاتب هذه السطور تجربة مثلها إذْ كلما مررت بخبرة مجهدة نفسيا أستلقي على السرير في الغرفة وحدي أستمع من آلة تسجيل تلاوة سورة يوسف للمقرئ الراحل عبد الباسط عبد الصمد؛ فأشعر بالأمل والراحة ، فمن وسط معاناة الابتلاء ” إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ” انبثقت عاقبة حسنة غير متوقعة في الوقت الذي اختاره الله بحكمته الغيبية.  والحق أن معاني القرآن الكريم راكبة على مركوب ذي إيقاعات فريدة؛ الأمر الذي يعزز من أثره في النفوس، أو كما قال المستشرق البريطاني (السير هملتون جب)  Sir Hamilton Gibb ” لا يبدو أن إيقاعاته التي لا تفارق الذهن فقدت شيئا من قوتها على أذهان الناس “.

فللظاهرة الصوتية في القرآن الكريم ولبنائه الصوتي تأثير نفسي وفسيولوجي لا يمارى، يقول الدكتور (محمد محمد داود) أستاذ الدراسات اللغوية  بكلية التربية بجامعة قناة السويس: “الملاحظ في رؤوس الآيات التناسب الصوتي الذي يلفت الانتباه وتستريح له الأذن؛ فكثرة ورود الحركات وخاصة الطويلة ( حروف المد: الألف و الواو و الياء ) بما لها من نغمات منتظمة تسيطر على لحن الكلام، يضاف إلى هذا كثرة ورود الصوامت المتوسطة ( النون، الميم ،الراء) وهي قريبة من الناحية الفيزيائية إلى طبيعة الحركات التي تسهم في خاصية التنغيم الشجي بشكل واضح، وتدعم هذه ظواهرُ صوتيةٌ خاصة بالقرآن الكريم كَالمدّ و الغنة”.

وفي هذا الصدد عرض الدكتور محمد محمد داود في المؤتمر الحادي عشر للإعجاز العلمي في القرآن والسنة نتائج دراسة قام بها الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله مع الدكتور علي موسي اختصاصي برمجة الحاسب الآلي  لمقارنة جذور الكلمات في القرآن الكريم وجذور الكلمات في أكبر معجم للغة العربية هو (معجم تاج العروس) فوجدوا أن القرآن انتقى 15 % من جذور الكلمات العربية، وهي أيسرها؛ لأن الأعم الأغلب منها كان من الجذور الثلاثية، فهي سهلة في النطق، سهلة في مرورها على ألسنة الناس، وليس فيها تنافر. وتذكر الكاتبة الراحلة مريم جميلة – وقد كانت يهودية قبل إسلامها –  في أحد كتبها أن بداية هدايتها كان سماعها تلاوة آيات من سورة مريم في أحد محلات الموسيقى العربية في مدينة نيويورك. وتقول في كتابها المترجم بعنوان (رحلتي من الكفر إلى الإيمان) إِن حلاوة الصوت تغلغلت في داخلها، وهيأتها فيما بعد للانجذاب إلى القرآن الكريم.

وكشفت دراسة نشرتها هيئة المستحضرات الطبية واللقاحات في القاهرة أنّ ثمانيَّةً وسبعينَ بالمائة  78% مِمَّن أُجريت عليهم تَجربةُ سماع القرآن الكريم ‏سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ويعرفون العربية أو لا يعرفونها ظهرت عليهم ‏تغيراتٌ وظيفيةٌ تدلُّ على تخفيف درجة التوتر العصبي التلقائي. ولقد أجرتِ الدراسةُ اثنتينِ وأربعينَ جلسةً على متطوعين أصِحَّاءَ ‏‏تتراوح أعمارهُمْ بينَ سبعَ عشرةَ سنةً وأربعينَ سَنةً.

كما قام البروفسور الباكستاني (أحمد قاضي) وزملاؤُهُ بدراسة فحصوا فيها أثرَ قراءة القرآن الكريمِ على الوظائف الحيوية فوجدوا اِنخفاضا في ضغط الدم عند الذين استمعوا لقراءة القرآن الكريم وبلوغ نبض القلب إلى المستوى الطبيعي، واسترخاء عضلات الجسم. وشملت هذه الآثار المسلمين وغير المسلمين. ناهيك أن دراسة باكستانية أخرى أجريت مؤخرا في لاهور في كلية العلامة محمد إقبال للطب Allama Iqbal Medical College عن أثر صلاة التهجد على الاكتئاب، وليس هبوط المزاج العابر فأظهرت باستعمال (مقياس هاملتون للاكتئاب) انخفاضًا ملحوظًا في أعراض الاكتئاب بينما لم يطرأ أيُّ تحسن على أفراد المجموعة الضابطة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إعلامي عماني وعضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين.

الأول بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد عبدالله العليان

إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA