عسل الرواية

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

قراءة في رواية جوع العسل

الكاتب: زهران القاسمي

الناشر: مسعى للنشر ٢٠١٧م

 

 

“عسل في اليد خير من عسل في المخيلة”

ص٧٣

 

هل لقارئ رواية جوع العسل أن يجد طريقه هو الآخر إلى عسل الرواية؟ أين هو ذلك العسل، في أي شق من شقوق الجبال وعلى أي شجرة سيجد القارئ ذلك العسل، في رواية تكرس عوالمها لاستكناه واستعراض العلاقة الإنسانية المعاصرة مع العسل، رواية تعرض للقارئ من جهة حياة مربي النحل في عمان، ومن جهة أخرى حياة جامع العسل، وفي الخضم بين العالمين تكشف ستارة عالم جبليّ مترامي الأطراف، وهي لا تفوت أي معلومة مفيدة، مثل تاريخ العسل في عمان وقصة جلب النحل الفارسي منذ أيام اليعاربة.

 

تجري أحداث الرواية في حياة بطل الرواية عزان بن سعيد، عزان الذي تحوّلت حياته من قاع الوادي إلى قمة الجبل، من البحث عن الأودية إلى متابعة القمم، ليجاريها في شغفه براعية غامضة، تجوب الأمكنة بقطيعها، كل مرة في واد جديد، وفي قمة جبل جديد: الجنية الجبلية المتوحدة هذه تشبه الساحرات اللواتي يغيّبن الشباب في الوديان البعيدة بصوتهن الشجي. ص٥٧

 

يدرك قارئ الرواية أنه يقرأ الرواية وهي تنمو بين يديه، تترعرع بدرجة نستطيع معها تمييز الفرق بين أشكالها المختلفة في بنائها، نرى في جسدها آثار حيواتها السابقة، فهي تأخذنا بهدوء من الدوران الرتيب المعاصر للأشياء المقننة والمحددة بإطارات خلية النحل، إلى الحياة الأخرى التي لا يتبع فيها النحل الإطار، لا يعود إلى منحل، بل يقوم النحل نفسه بكل الأدوار، ولا يبقي لأحد أي شيء، وما جامع العسل إلا من يقاطع المرحلة الأخيرة من العمل، حين يجني العسل، وكان بمقدور النحل نفسه جني عسله بكل تأكيد.

 

في عالم جوع العسل الروائي ندخل في عالم نود ألا ينتهي: لكم تمنى أن يطول به المكوث هناك متماهيًا مع ذلك العالم. ص١٣٩، ذلك أننا من خلال أحداث الرواية نستطلع حياة جبلية بين جبال الطائيين، حياة لا تُمل بصورتها الروائية، وهي تتخلق وتنمو، وتكبر وتذوي، وتتجدد في دورات الحياة الدائبة، بين صعود وهبوط، زاخرة بالثقافة الجبلية، خاصة تلك المتعلقة بالأعشاب ومنافعها واستخداماتها: كان مفعول العيطمان رائعًا، فهو يسكر سمك الصد، يجعله يطفو دائخًا. ص١٣٠، ورائحة الأشجار، فـ: الروائح هي ما يتبقى بعد الراحلين. ص١٦٥ وبالطبع مذاق العسل ورائحته وتجسيدات العسل: كان كمن تذوق أنواعًا كثيرة من العسل حتى وجد عسله النادر. ص١٩٠

 

ترسم رواية جوع العسل خارطة ممتدة على أودية وجبال الطائيين تقودنا إلى العسل، ومن بداية رتيبة خلف مناحل العسل، التي تتطلب الارتحال من منطقة إلى منطقة أخرى، يسافر عزان بمنحله ليلُا من الطائيين إلى الجوبة مسافة ٤٥٠ كم تقريبًا، وعبر التعرف على نمط حياة بدوية، يدخلها البطل دخولًا خجولًا: دفعه أحد البدو بقوة ليجد نفسه في وسط الحلبة واقفًا ينظر حوله وقد شعر بالحرج. ص٣٨ وبدايات مستعصية صعبة يكاد أن يتعرض فيها للمخالفة، مهما نهضت من كبوتها لكنها لا تستطيع القيام، نجد أننا درنا دورة بعيدة وذهبنا مسافة طويلة نعود بعدها بخُفي حنين، حتى لو كان العسل وافرًا؛ لذلك حين يحين موسم ظفار يتردد عزان في الذهاب ص٥٩.

 

يكتشف القارئ لاحقًا أن كل الفصول الثلاثة الأولى مجرد تمهيد للانتقال الكلي، إلى بقية الفصول التي تستغرق الرواية، والتي يطوف فيها بحياة زاخرة وغنية ومتعددة متنوعة يعيشها الجبلي، محافظًا على بساطة حياته وتماسه مع البيئة من حوله، توجس الجبلي والصحراوي كذلك من الأنظمة والقوانين، ورغبته الدائمة في الحياة دون زيادة حدود غير طبيعية، وفي ذلك المناخ وتلك البيئة تنمو الرواية بحيوية مدهشة، تجعلنا نلتقط الخيوط من أول محاولة، على تنوع وتكاثر شخوصها، حيث كل شخصية لها سماتها وحكايتها الأبرز، وما كان من قبل مجرد أسماء عابرة بفراغات كثيرة تغدو ممتلئة بالحياة مع معرفة القارئ لحكاية تلك الشخصيات، التي قد تبدو بأنها تأخذ سمة محددة نهائية، فيما نكتشف بعد فصل أو اثنين أننا أخطأنا الحكم، وأن هناك الكثير مما لا نعرفه.

 

بتلك الحيوية النابضة يتعرف القارئ على الماضي الذي جاء منه بطل الرواية، والتحول الذي يجري في الرواية نفسها، والراعية التي ترافق القارئ منذ الفصول الأولى، وهي الحكاية الأولى التي تتفتح للقارئ، لكن ليس بكل التفاصيل اللاحقة، هكذا تتكشف الرواية عن خلايا متعددة، رغم انضمامها إلا أن كل خلية هي قصة مختلفة، وعسل حياة مختلف. حتى الضحك يخرج عن أدواره: الضحك يبعث فيهم روح التمرد والتوحُّش؛ إذ يخرجون من عباءة القبيلة وتقاليد القرية إلى سلطة المكان والمطلق، هناك حيث لا تحدك الحدود، إذ تقف في الصمت بينك وبين نفسك، لا فاصل بينكما، وإذ تستمع لترددات الزمن وتحولاته، وترى ذلك جليًا على السفوح والوديان. ص٢٠٦

 

مع النظرة الدقيقة سنجد أن جسد الرواية لا يخلو من ترميم لاحق، وبضع تعارضات، منها مثلًا أن تستأثر شخصيتان هامشيتان في العمل بخطاب طويل ١٥٠- ١٥٥، لكن في المجمل يبدو ذلك كالتجديد الذي صعد عاليًا بالعمل وجعله يبلغ عسل الرواية، فعسل الرواية وختمها هو تمامها الداخلي، وتمامها الداخلي نجده في تلك الحياة التي تسيل، بين أجيال مختلفة، وتنتقل صورها بين بيئة وأخرى، بين العشاق، والسكارى، والطبيعيين، والمنعزلين في الجبال، ذلك هو العسل الذي تنقله لنا رواية جوع العسل؛ لأن الجوع الحقيقي هو للحياة في مناخ قد يبدو قاسيًا، أو كما تصفه الرواية بالمكان الصخري ص١٣٧، لكن ذلك المكان الصخري القاسي هو نفسه ملجأ كائن رهيف كالنحلة، تقوم على سائل ذهبي أكثر شفافية كالعسل، تحاول هذه الرواية جمعه في جوفها دون أن ينسكب، لتدفع القارئ كي لا يصبح كالمرأتين اللتين ترد قصتهما في الرواية حين توهمتا القربة المعلقة على أغصان اللثب مملوءة بالماء البارد فإذا هو عسل. ص١٣٣.

 

 

كتب الشاعر حمود الحجري تعويبات كانت مفتتحًا للفصول المختلفة تحمل نكهة مكانية خاصة: “عود القصب ما رام/ يا الراعية صوتك/ يحيي رميم عظام” ص٤٥

“مندوس لمقفل/ مو م الخبر عندك/ بو م الزمن الاول” ١٠٩

كل ذلك أضفى على الرواية سمة شهية خاصة، وجعلها نوعًا من العسل المقروء، أو نتاج الكتابة بحبر العسل.

أدب الأول بعد المئة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد