الملابس والإكسسوار في خدمة الطقوس الشعبية
بَحثَ الإنسان منذ بدء الخليقة وقبل بداية التاريخ عن تفسيرٍ للظواهر الطبيعية المحيطة به وما ينتابها من تغيير، فجعل لكل موجود طبيعي روحًا، وأعتقد أن هناك أرواحًا خفية تتلبسه وتتدخل في مصائره، وامتلكت على أثر ذلك كافة الشعوب طقوسًا تُعَدّ نظامًا رمزيًا من الأفعال قائمًا على قوانين راسخة تحتوي على الإيقاع والإشارة والرمز، للتعامل مع الأرواح الغيبية، فاعتبرت حفلات الزار طقوسًا شعائرية تؤدى في دورات الحياة، وتهدف إلى التطهير من الأرواح، وتقديم الأضاحي استرضاءً للأسياد. ويطلق اسم الأسياد على الجن أو الكائنات الغيبية التي تتلبس النساء، وأحيانًا الرجال، وتصيب أجسامهم ببعض العلل التي لا يمكن علاجها إلا من خلال إقامة حفل أو حفلات زار. ويتميز الزار بكثرة أنماطه الرمزية التعبيرية المعبر عنها في الحركة والإيقاع والأغاني والأضحية والبخور والأزياء والإكسسوار والأحجبة، التي ترتبط بالممارسين له من الكودية، والمغنيات، والمساعدات، والمريضة التي تلبسها الروح، وجمهور المشاركين.
وحيث إن لكل سيد من الأسياد مطلبًا يطلبه من المريض، محددًا فيه أدق التفاصيل، ومنها أنواع الرقصات، والملابس والتمائم والإكسسوار، التي يحددها نظير خروجه من جسد المريضة، فضلاً عن ملابس فرق الزار والحبايب والضيوف، فنجد أن ملابس الزار تختلف تبعًا للأدوار المتنوعة التي تمارسها كل مريضة، أي تبعًا لما يتلبسها من أسياد. ومطالب الأسياد تبدو عادةً في رؤيا رئيسة الزار “الكودية” بعد أن تأتيها المريضة بشيء من ثيابها، وترتفع مطالب الأسياد كلما كانت المريضة أيسر حالاً؛ إذ يكتفي الأسياد “بمصاغ” من الفضة رخيصة الثمن للمريضة الفقيرة، و”مصاغ” قليل من الذهب لمتوسطة الحال، أو الكثير من الذهب لمنْ يُرى أنها غنية قادرة على الإنفاق، وكذلك الملابس فهي أيضًا تختلف قيمتها، فمنها ما هو مرتفع الثمن ومنها ما لا يحتاج إلى تكاليف.
ملابس فرقة الزار
شيخة الزار (الكودية)، هي رئيسة الزار التي تتجمع عندها النساء الراغبات في التخلص من الجان، وعادةً ما تكون سوداء اللون من أصل سوداني أو حبشي إلا قليلات تعلمن هذه المهنة بطريقة كثرة معاشرة الكوديات السود ثم انفصلن عنهن واستقللن بأنفسهن. وترتدي الكودية طوال مدة الزار الجلابية البيضاء الناصعة وعلى رأسها طرحة بيضاء يفوح منها رائحة العطر تنسدل قليلًا على وجهها. يصنع ملابسها “ترزية” متخصصون مع أنها أنها بسيطة، وترتدي الكثير من “المصاغ” المنقوش عليه بعض الكتابات غير المفهومة للعامة، وبعض الآيات القرآنية ولفظ الجلالة والـ “ما شاء الله”، وأحيانًا تكون الكلمات معكوسة، وتجعل من هذه الكتابات “التمائم” وسيلة لاسترضاء الأسياد لإطاعتهم وتحقيق مطالبهم.
أما المنشدة في الزار، فهي امرأة مدربة تقوم بإنشاد كل ما يقال في الزار من أغان تُظهر الأسياد وتعمل على كلماتها الكودية. ويملن المنشدات إلى لبس الملابس البيضاء مع استخدام العطور النفاذة والبخور، وتتدلى من أذنيها أقراط كبيرة، وحول رقبتها عقد من الأحجار، وفي أصابعها خواتم كثيرة محفورة بالأحجبة والرموز، تربط رأسها بمنديل مطرز على الجهة اليسرى من جبهتها حجاب خاص. ويطلق على أعضاء فرق الزار اسم “الشغيلة”، وتختلف ملابسهم باختلاف كل فرقة، ويتكون الزار من ثلاث فرق هي: (الصعيدي، والسوداني، وأبو الغيط)، وكانت هناك فرقة رابعة تسمى فرقة الرنجو إلا أنها انقرضت.
ملابس العروس (المريضة)
العروسة كلمة تطلق على المريضة التي يقام لها حفل الزار لعلاجها مهما كان عمرها، التي في الغالب تعاني من مشاكل نفسية مثل غياب الزوج أو عجزه جنسيًا، أو أن تكون عانسًا، أو تعرضت إلى ضغط أو وهم. وهي المريضة ذاتها التي يتحدث الجن بلسانها. ولها عطور خاصة وملابس عديدة تختلف باختلاف ملوك الجن الذين يُراد استرضاؤهم، والملابس التي يطلبها الأسياد تكون عند البعض دقيقة ومعقدة بشروط من الجن لا يمكن تجاهلها لإقامة الزار. فتحرص السيدات والشيخات على الالتزام بالملابس ومكملاتها من التمائم في أدق التفاصيل لاعتقادهن بأن ارتكاب أدنى خطأ في الملبس والإكسسوار قد يفسد العلاقة مع الجن ويسبب للملبوسة المرض.
وتنقل الملابس والإكسسوارات المستخدمة في الزار معلومات عن شخصية الجن، كما يرتبط لون الملابس وتصميماتها بعمر الجن، وتعبر عن المركز الاجتماعي والمالي لشخصية الجن. وعلى الكودية تحديد نوع الأسياد ومعرفة طلباتهم، وأن تقدم الأدوار الخاصة، فلكل دور دقة خاصة، وجن خاص، وملابسه الخاصة به من جلباب أو عباءة أو ملاءة أو معطف وغطاء للرأس وعصا وغير ذلك. مثل: الجن الأحمر، وأسياد الماء، والسلطان الجبلاوي، ويارو بك، والست سفينة، وماما، وأبو الغيط، والصعيدي، والعربي، والست الكبيرة، وأم الغلام، والسلطان المغربي، والسلطان النصراني، وكثيرين غير ذلك.
فيطلب السلطان ذو الأصل البدوي أو العربي؛ عباءة بيضاء اللون مزخرفة ومرسومًا على ظهرها جمل وراع، وراء هذا الجمل من الجانبين أهداب زرقاء اللون ونقوش دائرية الشكل. أما الست السفينة فتظهر من أعلى على هيئة امرأة ومن أسفل على شكل سمكة، وتنقش على الحلي بالهيئة نفسها وبجانبها تُنقش رموز من البحر. ومن أشهر الدقات دقة (الست الكبيرة)، وهي شخصية من العالم غير المرئي، لها مكانة الأم لهذا العالم. أما العروس التي تلبسها (الست)، فترتدي ملاءة سوداء ترمز إلى الليل، وتسجد على ملاءة بيضاء ترمز للنهار، أي الكون الذي تصل بين جنباته. أما “جادو” هو عبارة عن جن يسكن المراحيض فملابسه قطعة واحدة عبارة عن روب أو برنس مصنوع من خامة الخيش يغطي الجسم كله من الرأس إلى القدم، ومن إكسسواراته التي يمسكها في يده الجردل والمقشة.
الطرحة:
يعد غطاء الرأس من أهم إكسسوارات الملابس التي تحتاج إليه العروسة في الزار عمومًا، فأثناء التفقير تضع العروسة على رأسها طرحة تغطي وجهها بالكامل، والهدف من وضع الطرحة هو مساعدة العروسة على الاندماج والتركيز بعيدًا عن المدعوين حتى توفق مع الجن وتنال المراد، كما تستخدم بغرض تأمين العروس من الحسد أو إفساد الزار. ولا يشترط لون معين للطرحة، وإن كان يفضل دائمًا اللون الأسود لقدرته على عزل الضوء والإيحاء بالجو، وكذلك اللون الأبيض كرمز لطرحة العروس وليلة العرس.
“المصاغ”:
تحمل كل من الكودية والعروسة عادةً كمية كبيرة من الحلي، تبدأ من على هامتهم حتى كاحل القدم والأصابع. هذا بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من التمائم والمعلقات المصنوعة من القطع المعدنية أو من الصدف أو من البلاستيك، التي تلبس وتعلق حول الرأس وفوق منديل الرأس. وهي ذات أشكال وتنويعات وكتابات متباينة تصنع في أماكن محددة. وتعبر أنواع هذه الحلي عن حالة المرأة ومرضها ومكانتها الاجتماعية وحالتها الاقتصادية من خلال كم ما تحمله من حلي، كما تختلف حسب نوع الأسياد ومتطلباتهم ومن فرقة إلى أخرى.
القلائد والعقود:
تستخدم القلائد والعقود بكثرة في الزار، ولا تخلعها العروس (المريضة) أو تتخلى عنها أحيانًا إلا بعد مرور سبعة أيام من مراسم الزار، فهي تؤدي وظيفة “الحجاب” إلى جانب كونها وحدات “مصاغ” أساسية. وتستخدم بغرض إيجاد وسيلة مريحة لحمل بعض العناصر الطبيعية أو التمائم التي يُعتقد بأنها تحمل في طياتها قوى سحرية قادرة على حماية المريضة من أهوال الأرواح الشريرة ومعاكستها، ولاسترضاء الأسياد، كما تهب القوة وتمنح الصحة والعافية.
الخلخال:
يُعَدّ من أبرز التمائم المستخدمة في الزار، وهو عبارة عن حلية تلبس في الساق وجمعها خلاخيل، والخلاخيل تلبسها المرأة حول كاحل القدم، وحلقات الأرجل “الحجول” في الزار له مواصفات خاصة وشروط في المعتقد الشعبي يجب أن تتوافر لتكون لها الفعالية المرجوة من استخدامها، كأن تكون رفيعة في سمكها وتنتهي برأس كروي دائري (رمانة). وأحيانًا قد يتدلى من الخلخال بعض الجلاجل “أجراس صغيرة” أو البلابل “كرات صغيرة” فتحدث صوتًا رنانًا عند الحركة، ويعتقد التصور الشعبي أن أصوات الجلاجل والبلابل تعمل على طرد الأسياد.
يتضح الآن أن المعارف والمعتقدات تفرض سيادتها على الملابس وما تخفيه في طياتها من معاني ورموز تحمل وتنقل البركة إلى مَنْ يلبسها، فلا تقف الثياب عند حد ستر الجسم، فتفصيل الثياب أو لونها المميز، وزخارفها، وتطريزها كل هذا له معان كثيرة عند المجتمع الشعبي.