“العولمة لا تعني ذوبان الهوية إلا عند ذوي الثقافة الضعيفة وأصحاب الدفاعات الفاشلة ممن يلقون أسلحتهم أمام الحدث فيما هم يرفعون شعار المقاومة والمحافظة”.
علي حرب
لا جدوى من اختلاق التنافر بين العولمة والأخلاق أو اعتبارها مأزقًا لابد من إقصائه، ولا فائدة من الجدل البيزنطي الذي لا طائل من ورائه سوى إثبات مَن منا على حق ومَن منا على باطل، فثلة مشاريع المثقفين والدعاة للأخلاق – حسب تصورهم لها – من الغربيين والعرب وغيرهم ممن نصبوا أنفسهم حماة للفضيلة ورافعين لراية الأخلاق والهوية مقابل علمانية خليعة دون أخلاق أو مبادئ – حسب رأيهم-، قد فشلت في ترسيخ ما يدعون إليه؛ ذلك لأنها كانت تنطلق من منطلق الحق المطلق الواحد، فالواقع يسير دائمًا على عكس ما تدعو إليه هذه الأصوات، والعقل الجمعي يتشكل حسب المعلومة المتوفرة لديه أيا كانت صورتها، فعزل الذات عن البيئة غير ممكن، فكما يقول جون ديوي في كتابه الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني ” لا نستطيع أن نتصور تكوين عادة من العادات دون أن يكون هناك فرد إنساني من ناحية وبيئة محيطة من جهة أخرى… فالحياد الأخلاقي لا وجود له” وحسب رأيه فإن كل ما ذكرته سيكولوجية الميثولوجيا عن غريزة خاصة للمحافظة على النفس ما هو إلا تغطية لتأكيد العادة المستمرة لذاتها، فالعادة طاقة تنتظم في مسالك معينة، وعندما نعوقها عن العمل فإنها تنتفخ لتصبح حنقا وقوة انتقامية، والقول إن العادة أمر يطاع وإن التقاليد تخلق القانون، والقانون سيد الجميع يستوي في النهاية مع القول إن العادة هي العادة.
ومن ثمّ؛ أصبح التنافس الشريف مطلبًا ضروريا، دون شيطنة أو إرهاب أو إقصاء، قد يفضي إلى تطرف وإرهاب وموت أبرياء لا ناقة لهم في هذه الزوبعة ولا جمل، وأن نستبعد مقولة توماس هوبز أن ” الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” من مخيلتنا أثناء التعاطي مع القضايا الفكرية، فالشر لا يقابل بالشر، لذلك يرى زيجمونت باومان في كتابه الخوف السائل أن العولمة السلبية كما يسميها تفتقر إلى عولمة إيجابية خلاقة، التي هي بعيدة المنال على أقل تقدير، فما دامت هذه العولمة السلبية تتمتع بحرية الانطلاق فإنها تتخصص في كسر تلك الحدود التي بلغت من الضعف ما يحول دون مقاومة الضغوط، وفي حفر ثغرات ضخمة غير قابلة للسد عبر تلك الحدود الناجحة في مقاومة القوى العاكفة على تفكيكها… ففي عالم تحكمه العولمة السلبية وحدها، ويتألف من مجتمعات مفتوحة بالإكراه لا سبيل إلى تحقيق الأمن، ناهيك عن ضمانه داخل بلد واحد أو في مجموعة منتقاة من البلدان إذا اعتمدت على وسائلها الخاصة وحدها، ولا سبيل إلى تحقيق الأمن في انفصالٍ عن بقية العالم.
ومع تشاؤم زيجمونت إلا أنه وقياسًا على مقولة هنتنجتون في كتابه “من نحن” أن كل أمة وُلدت لتموت، فإن هذه العولمة السلبية لابد وأنها تحمل بذرة فشلها في أحشائها ولابد لها أن تتمخض يوما فتنجبها وتكون سببا لانحسارها، والنهاية المتخيلة في ذهن فوكوياما ليست سوى فرضية لا يمكن إثبات صحتها إلا بعد نهاية هذا العالم ومن فيه، فهذه العولمة حسب – سيف الدين عبدالفتاح- ليست عملية بلا ثقوب أو بلا مفاصل تمثل عناصر ضعفها، والعالم يشهد على ذلك بؤرًا صغيرة في العالم تستعصي وتأبى التنميط وهي خارج حسابات العولمة.
عودًا على بدء فيما ذهب إليه جون ديوي من أنه لا وجود لحياد أخلاقي فإنه ليس بالقول الفصل غير القابل للنقض أو الاختلاف، فبالنسبة لأكونياس يرى أن الأخلاق تقع في النظام المنطقي الذي أسسه الله في الكون، وأن الإنسان يختار بحرية في أن يشترك في هذا النظام المنطقي أو أن يكون ضده، وذلك اعتمادًا على ما إذا كان السلوك منطقيا أو غير منطقي.
ومع أن هذه الفكرة لم تُتقبل كثيرًا، ويرى معارضوها أن الأخلاق منوطة بالمصلحة والمنفعة الاجتماعية، وأن الإنسان ومنذ قديم الزمان أقام سلوكه الأخلاقي على منظومة التماسك الاجتماعي والاقتصادي، واعتبر ألا وجود لأخلاق كونية مفارقة عن معطيات الثقافة الخاصة.
غير أن هذه الرؤى تبقى قابلة للأخذ والرد، فلا مطلق في الحقيقة، ويذهب إيدموند ج.بورن في كتابه “التغيير العالمي من أجل بشرية أكثر إنسانية” إلى أن أغلب ديانات العالم تعتقد بالحب الخالص غير المشروط، وبالحديث عن هذه الأرضية كما في البوذية عندما ذكرت شفقة الله ورحمته، وذكر المسيحية لمحبة الله وتسامحه، وذكر الصوفيين أن الكون كله سيقع لولا محبة الله لمخلوقاته، وفي الهندوسية مفهوم عن الذات الكونية يحوي المعنى نفسه، وبالمثل فبالقياس المنطقي لو كان الحب الخالص منسوبًا أساسًا للكون، وأعماقنا في أساسها متوحدة مع الكون، إذن فنحن في أعماق طبيعتنا قادرون على الحب الخالص غير المشروط، الذي بدوره يترجم الأخلاق الفاضلة.
بجمع الفرضيتين السابقتين التي لا أرى بينهما تعارضًا بالغ الشدة، فإنه وإن لم يكن للخير والأخلاق منبع من داخل النفس البشرية وأن البيئة المحيطة هي الخالقة الأصيلة لهذه الأخلاق فإن ما ندعو إليه في هذه الحالة لمواجهة العولمة السلبية، عولمة إيجابية، بعيدة عن التنظير والتأصيل للعولمة والجدل حول مفهومها وأهدافها وخيرها وشرها، والسؤال الكبير الذي طرحه علي حرب في كتابه “حديث النهايات فتوحات العولمة ومآزق الهوية” من يصنع العالم اليوم؟ وكيف يُصنع ويتشكل؟
بالإجابة المقتضبة والمتُصرف فيها؛ فإن حرب يرى أن الإمكانية المتاحة والمثمرة هي إخضاع خطاب الهوية للنقد، من أجل التحرر من العوائق التي تشل الطاقة وتولد العجز والإخفاق. وذلك يحتاج إلى تغيير نمط التعامل مع هويتنا، بحيث نقُيم مع الأصول والثوابت علاقة متحركة تحويلية، تتيح لنا أن نتغير عما نحن عليه عبر إنتاج الحقائق وخلق الوقائع. بهذا المعنى نحن لا نحتاج إلى الدفاع عن هويتنا، بقدر ما نحتاج إلى عمل نتجدد به بقدر ما نزداد تجذرًا.
ويضيف علي حرب قائلا: نحن اليوم هذا شأننا مع الثورة التقنية وتجلياتها وعولمة الاقتصاد وأعلمة المجتمع والحياة، نحن نخشى على الهوية والوعي والثقافة من التسطيح والغزو والاختراق. في حين أن ما يحدث لا مرجوع عنه إلى الوراء، فالأجدى أن نقرأ الحدث، لا بلغة الرجم واللعن، ولا بلغة التعظيم والتسبيح، بل بلغة الفهم والتشخيص، ومن أجل التعقل والتدبير، بحيث لا نرد على الحدث بنفيه، ولا بالمصادقة عليه، بل بفهمه والمساهمة في صوغه، أي بتحويله إلى فكرة خصبة أو إلى حقل معرفي أو إلى مجال تواصلي أو إلى سوق تبادلي.
ومن ثم؛ فإن العولمة السلبية لا سلطان عليها على الأخلاق والهوية والعقل إذا ما كان عقلا منتجا وفاعلا، فليس المراد حسب تعبير حرب اكتساح العولمة والأمركة وإنما خلق الأفكار وفتح المجالات وابتكار المهام وتغيير الأدوار، لمواجهة تحديات العولمة على صعدها المختلفة والمتعددة، وأن هويتنا ليس ما نتذكره ونحافظ عليه أو ندافع عنه، وإنما هي ما ننجزه ونحسن أداءه، أي ما نصنعه بأنفسنا وبالعالم، من خلال علاقتنا ومبادلاتنا مع غيرنا.. وبهذا المعنى ليس عليّ أن أنغلق وأقيم حواجز في عقلي بين النصوص والأفكار بين أعمال أفلاطون ومقدمة ابن خلدون، أو بين فصوص الحكم لابن عربي وتجليات العقل لهيجل، بل أسعى أن أشرع فكري إلى كل ما هو مهم ومثير ومدهش ورائع من الأعمال والنصوص الخارقة لحواجز الثقافة وعصور المعرفة، محاولا بذلك التحرر من لعبة الهوية والتجنيس للمعارف والأفكار، الذي يفكر بصورة منتجة ليس من يقوم بحراسة هويته أو أفكاره، بل هو الذي يحيل وطنه إلى أرض لزراعة الأفكار الخصبة أو لولادة المفاهيم الخارقة.
فالتقدم حسب لاري لودان في كتابه التقدم ومشكلاته لا يتم من خلال التأييد أو التكذيب أو التعزيز أو التبرير، وإنما بخلق فكر مستنير متحرر من التبعية والتقليد الأعمى الذي يكبل العقل ويكبت الفكر، نحن بحاجة لمشروع ينقي المفاهيم من شوائبها ويطرح عنها غبار التعصب والتطرف، ويخرجها بحلة قشيبة علمية.
ويرى رجب بو دبوس في كتاب محاكمة العولمة الجزء الثاني، أن ثمة من يرى طريقا آخر لمواجهة العولمة وهي ثورة ثقافية عقلية حقيقية، وبدلا من الاكتفاء بمعارضة العلمانية فقط صار الأمر يتطلب التفكير في سياسات تقود إلى عكس العولمة – عولمة إيجابية- ، فالردّ على العولمة ليس فقط من خلال المظاهرات والاحتجاجات وعمليات تدمير مصالح الشركات الكبرى العابرة للأوطان أو مؤلفات وبحوث تكشف مساوئ العولمة ومآسيها، وتحسيس الرأي العام العالمي بخطورة المرحلة التي يدفع إليها دفعا، المعركة بدأت على أرض الواقع، ويرى دبوس أن توطين الاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها سيجعله يشعر بالانتماء إلى المكان الذي يعيش فيه – وحسب تعبيره- أن نرى ونجعل أطفالنا يرون بيئتنا حية وكائناتها ونباتاتها ومياهها، أمور تخصهم والحفاظ عليها من مسؤولياتهم وأن نذهب إلى تعرف مصادر غذائنا، وربما نزرع جزاء مما نأكل ونتعرف إلى الفصول والمواسم.
وما الذي يمنع من ذلك؛ فالتغيير ليس عائقًا أمام التقدم؛ فقد قال برتراند رسل يومًا أن التغيير لا يمكن تفاديه؛ ذلك لأن التغيير يصدر عن العلم أما التقدم فيصدر عن الأخلاق.
وهذه الأخلاق التي تشكل الهوية لاحقا، يجب أن نكون نحن من نصنعها لا استيرادها من الخارج بل بخلقها من الداخل بما يتوافق من الحياة الاجتماعية، فاستيراد الهوية الخارجية والأخلاق الخارجية ما هو إلا نوع من التبعية والانقياد الذي يدل على الضعف، نعم لسنا ضد الأخذ بالأفضل مع المحافظة على الجيد عندنا، ومن ثمّ فإن ربط الأخلاق بالعولمة وتأثيرها ما هو إلا وقوع في المأزق القديم القائم على ضرورة الانخراط في الصراع بين العولمة والأخلاق أو العولمة والدين أو العولمة والسياسة وهكذا، وهي ما يمكن تسميتها بالعولمة الإيجابية الخلاقة، حينها يمكن أن تكون هذه العولمة ممكنة التصدير لأنها تحمل من القيم ما تفقده العولمة السلبية الحالية المتسلطة على كل كبيرة وصغيرة في العالم، وكما يقول رجال القانون، لا يحد السلطة إلا سلطة مثلها، غير أن هذه السلطة المنشودة يجب أن لا تحمل طابع الجبر والتطرف والتعصب وإنما تتطبع بالمرونة والتسامح والطيبة والمحبة.