مقاربات المعاني بين النظرية الصوفية وعلم النفس الحديث في كتابات محمد العليان

كتب بواسطة نبال خماش

 

ما من شك أنها خسارة حقيقية تلك التي أصابت المجال الثقافي في سلطنة عُمان برحيل الكاتب والمفكر محمد العليان، الذي بذل سني عمره في البحث والتناول العلمي للعديد من القضايا بأبعادها: الوطنية، والقومية، والإسلامية، وصولا إلى حالة من  الاشتباك المعرفي مع عدد من القضايا في بعدها الإنساني. هذا هو الانطباع الذي كنت أخرج به كل مرة بعد انتهائي من قراءة ما ينشره الراحل في مجلة “الفلق الإلكترونية” ولسنوات متعاقبة. ولم تتح لي الفرصة، إلى الآن، للاطلاع على كتابات الراحل التي من أبرزها وأكثرها شيوعا كتاب “الدين والفلسفة وأشياء أخرى”، وهي قراءة من شأنها أن تضفي المزيد من العمق في فهم شخصية الراحل، والفكرة أو مجموعة الأفكار، التي أراد تبليغها للناس باعتباره صاحب تجربة في محاولات الفهم، التي نجمت عنها رؤية تتسم بالعمق والدقة للقضايا التي كانت محل اهتمامه ومجال انشغاله؛ ولكن ومن خلال المتابعة الكثيفة لما نشرته ” الفلق” للراحل يمكن للمدقق فيما نشر الخروج بعدد وافر من التصورات والانطباعات الأولية للمكونات الشخصية والمعرفية التي تميز بها الراحل. لعل من أهم هذه الصفات نزعته الواضحة نحو العلم الصوفي، ومقارباته المتواصلة بين أهم عناصر هذا العلم والتطبيقات العلمية المعاصرة، وبشكل أكثر تحديدًا علم النفس.

في مقاله قبل الأخير، ” الاستنارة بالقرآن كعلاج بالمعنى” والمنشور في عدد المجلة ” شهر نوفمبر 2018 “، تناول العليان بصورة تحليلية ناقدة عددا من تفسيرات علم النفس المرتبطة بالوجود الإنساني، التي ذهب الرأي الأكثر رواجا واعتمادا في مدارس علم النفس الحديثة باعتبار أن دافع الإنسان في الحياة هو طلب المتعة وتجنب الألم. كما استعرض تفسير ثان، أقل شيوعا واعتمادا، باعتبار أن الدافع المحفّز للإنسان يكمن في التخلص من عقدة النقص. إلا أن العليان يرى أن التفسير الأقرب للحقيقة يمكن تلمسه في هذا الذي عرضه عالم النفس النمساوي، فيكتور فرانكل، مؤسس مدرسة ” العلاج المعنائي” الذي يركز بدرجة أكبر على مسألة طلب المعنى من  المعاني الأساسية للوجود ذاته، وهو التفسير ذاته الذي كان القرآن قد عرضه من خلال مفاهيم: الفطرة، الإنسان مخلوق ليكابد، حرية الإرادة، والقدر. وفي شرحه لمعنى “المكابدة ” تناول العليان مفهوم “الضنك” الوارد في القرآن بأكثر من موضع، باعتباره من المعاني الأساسية للوجود، والذي نجد له ما يوازيه في المفاهيم المعتمدة بعلم النفس الحديث والمعبر عنه اصطلاحا بـ ” الاكتئاب الوجودي”. ويرى العليان أن بلوغ عالم النفس النمساوي – فرانكل – للمعنى ذاته الذي أشار إليه القرآن في أكثر من موضع، وتوافق استنتاجاته مع مضمون كلام الله باعتبار هذه الاستنتاجات ” فتحًا فتحه الله عليه “. وغني عن القول إن مسألة الفتوح المعرفية هي في صميم العلم  الصوفي، الذي يصنف المعارف كلها إلى قسمين: ظاهري وباطني، وهذا الأخير شكل من أشكال الهداية/الوحي التي يهبها الله من شاء من عباده. ويطلق علماء الصوفية أو المتحمسون لهم عادة على هذا المستوى من المعرفة باعتباره شكلا من أشكال العلم ” اللدُنّي”.

واستكمالا لمعنى المكابدة، يستعرض العليان، معنى ” الابتلاء” في الفهم الصوفي، واستشهد ببعض الأقوال الواردة في هذا الباب، وخاصة المثبت منها على وجه الخصوص في كتاب “مدارج السالكين” لابن قيم الجوزية، باعتبار أن البلاء من أصعب المنازل على ” العامة وأوحشها في طريق المحبة وأنكرها في طريق التوحيد”. وهذا الشرح للراحل العليان يحتمل إضافة أخرى من شأنها أن تثري المعنى الأول الذي عرضه في المقال ذاته، وهو البعد المعرفي في العلم اللدنّي، وذلك من خلال ربط معنى الابتلاء بالمرتبة المعرفية التي ترقى إلى درجة الكشف أو الفتح، كما ورد في مطلع مقال الأستاذ العليان. وهذا المعنى تناوله ابن الجوزي على نحو تفصيلي في كتابه ” صيد الخاطر ” وأفرد له فصلا تحت عنوان ” ابتلاء العارف…مزيد من الكمال”.

وبموازاة التفصيل الصوفي لمعنى ” الابتلاء” وفوائده، يشير العليان في المقال نفسه  إلى شروحات عالم النفس الأمريكي، جوناثان هيد، لمنافع الابتلاء، التي تتلخص وفق رأيه في ثلاث فوائد باعتباره: يقوي الإنسان ويجعله أكثر مرونة، ويقوي العلاقة مع الأهل والأصدقاء، ويغير أولويات الشخص ونظرته للحياة.

وبالإضافة إلى معالجته المعمقة لمعاني ” الوجود والمعرفة ” في مقاله المشار إليه، الذي أتوجه ناصحا الجميع بقراءته أو إعادة قراءته مرة ثانية لثرائه المعرفي،  يستعرض العليان مقالًا ثانيًا ومعنى آخر وثيق الصلة بعموم النظرية الصوفية، وهو الخاص بمعنى الجمال، الذي تناوله بإسهاب في مقالة تحت عنوان ” العاطفة الإيجابية”. وفيه يشير إلى أن بؤرة التفاعل أو التأثر بالجمال الذي نتلمسه سواء عند تمتعنا بمشاهدة لوحة فنية جذابة، أو سماعنا للحن موسيقي عذب، أو تذوقنا لمعنى من المعاني العميقة في قطعة شعرية أو نثرية، يشير إلى أن هذه المظاهر الجمالية ما هي في الحقيقة سوى امتداد لمجال وأفق أوسع يسمح بالتأثر والانسجام مع الجمال النهائي، وهو الله؛ مستشهدًا بالحديث النبوي الذي يقول:” إن الله جميل يحب الجمال”. ومن أوجه المنابع الجمالية التي ” لها آثار قلبية ” هذه الأوقات التي يقضيها الإنسان عند سماعه للقرآن.  ونتيجة خبرة حقيقية في هذا المجال، يشير العليان إلى أن الاستماع إلى القرآن الكريم والآثار النفسية الناجمة عن هذه التجربة، يمكن أن تدمج ضمن ما يصنفه علماء النفس بـ “الاستجابة بالاسترخاء”. ويمكن الإضافة هنا أن هذه الآلية ” الاستجابة بالاسترخاء ” يصنفها علماء النفس باعتبارها ” هبة طبيعية ” غير أنها بحاجة لأن تستثار من خلال أن يبذل الإنسان جهدًا واعيًا لاكتسابها خاصة في ظل الواقع الضاغط الذي تتعرض له البشرية في هذه الآونة.

وفي مقال مثير تحت عنوان ” في ذكرى استشهاد الحسين: الخلط بين العلم بالغيب والإعلام بالغيب” وفيه أظهر العليان حماسة واضحة وهو يدافع عن مسائل جدلية، بين مؤيد وآخذ لها، وبين معرّض بها باعتبارها شكلا بدائيا من أشكال المصادر المعرفية، والحديث هنا عن قضية هي في صميم النظرية الصوفية معبّر عنها بمفردات مثل ” الكشف” و “الرؤى” التي تعد بالجملة واحدة من مدارك الغيب لدى المتصوفة. وجاء تناول العليان لهذه القضية  ضمن إطار عام وصفه بـ ” الإعلام بالغيب ” فهو ابتداء، وكما هو واضح من العنوان، مقر بأن هذا ” الإعلام ”  واحد من مصادر المعرفة، وأن  تحقق هذا النوع من العلوم لا يضفي على صاحبه أو مستحقه صفة ” العلم بالغيب ” ولذلك فإن العليان فرّق بين مفهومي: العلم والإعلام، باعتبار أن ” العلم ” هو من صفات الخالق تعالى، إلا أن هناك فئة من الناس يتمتعون بقدرات خاصة مرتبطة بـ ” الإدراك الاستباقي”، وهي حالة مدرجة ضمن علم فرعي من علم النفس يعرف باسم علم ” الباراسايكولوجي” وهو علم يبحث في ظواهر تستعصي على التفسير المادي وتدخل ضمن ظاهرة ما قبل الإدراك. واستشهد العليان بعدد وافر من التجارب ضمن هذا المجال. وأشار كذلك إلى تجارب ذاتية خاصة به هو، وذلك من خلال تجارب رؤيوية واستشرافية تحققت في وقت لاحق من موعد الرؤى الخاصة به؛ حيث يقول:”  وأنا كاتب هذه السطور كانت تحصل لي رؤى استباقية تقع لاحقا كما رأيتها وذلك خلال تلك الأيام التي كنت أمارس فيها ممارسات في السلوك الإسلامي وردت في صحيح السنة أو ما اسماه ابن قيم الجوزية في شرح منزلة العلم في كتابه (مدارج السالكين) – بمدد الرياضة الشرعية النبوية المحمدية -. … و قد رأيت رؤيا وأنا صغير لم ابلغ التاسعة بعد وقد تحققت عام 1994! و الرؤيا المتعلقة بوفاة والدي وقعت بعد ثلاث سنوات “.

ومن جملة الأحلام ” الإعلامية ” المتعلقة بتجارب خاصة للراحل، فقد ذكر تجربة أخرى له في مقال ” ماذا بعد: تعقبات هادئة على الأخ المقبالي” أشار ضمن سياق مرتبط باستعداده شخصيا للموت منذ 1990، الى أن الله أراه ” رؤيا حق أين أموت وكيف سأموت و لكن ليس متى. والدي قبل موته بشهر رفض أن يرقد في المستشفى وأملاني وصيته وأعدّ مالا كافيا لتجهيز الجنازة ولنفقات العزاء!”

إن التجارب الرؤيوية الخاصة بالراحل العليان، وتحديدا هذه الرؤى التي ذكرها كتجارب تقترب وتلامس الموت، أو الانغماس به، إنما هي تجارب كثيفة تعكس مدى شفافية روحه ورقتها، وتكوينه المعنوي بدرجة عالية، كما أنها تعكس رغبته العقلية الجامحة في الاقتراب وملامسة الحقيقة. إنه الإحساس الطبيعي المحفز على الكشف المعرفي، لتأتي الاستجابة من خلال هذا الفيض في عالم مواز.

الرابع بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني