مقدمة:

منذ فترة ليست بالقصيرة، تنبأت الكثير من الكتابات بمختلف أنواعها، ومشاربها، بصعود الرجل القوي ([1])، الذي تجسد لاحقًا في شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومنذ ذلك الوقت ما زالت البحوث، والكتب، والمؤتمرات المختلفة في كل بقاع العالم الحُر، تناقش الأزمات المتتالية التي تمر بها الديمقراطية الليبرالية، إذ تزايدت التشخيصات والبحث عن الأسباب والجذور، منها ما هو آني، عابر، ومنها ما هو عميق يعود لخلل جوهري في الديمقراطية ذاتها، كطرق تمثيل الناخبين، أو منها ما يراه بعضهم بأنه يُعبّر عن تحولاتٍ يمرّ بها الإنسان المعاصر في مساراته المختلفة.
في هذه الورقة نتطرق لعمل صدر مؤخرًا في عام 2018م، يلقي الضوء بشكل مركزي، ومفصل، على هذه المسألة ساعيًا إلى تلمّس أزمة الليبرالية الديمقراطية، باحثًا في جذورها الإعلامية، والاقتصادية، والهوياتية، مختتمًا بعلاجات مختلفة لهذه المسألة. إذ يناقش الكاتب والمفكر الألماني الشاب ياشا منُك في عمله الجديد “الشعب ضد الديمقراطية: لماذا حريتنا في خطر وكيف نحافظ عليها؟” عن منشورات جامعة هارفارد، هذه المواضيع المُلحّة، والحساسة، التي أصبحت مؤخرًا مواضيع الساعة، تلك التي يتحدث عنها الكثير من الباحثين وغيرهم.
الأوهام المتطايرة:
في مقدمته لهذا العمل يتحدث مُنك عن تلك الأوهام التي تطايرت أو تبخرت في السنوات الأخيرة، ذلك أن الوضع الحالي – أو ما قبل الوضع الراهن بشكلٍ محدد – كان يعدّ انتصارًا للديمقراطية الليبرالية وسيادة قيمها، إذ ساد إحساس عميق بين الكثير من الشعوب في هذا الشأن بأن هناك انسجامًا أو توافقًا بين الشعوب والحكومات، حيث الاقتصاد في نمو متزايد، والأحزاب الراديكالية أصبحت عديمة الأهمية، وغير مفيدة، كما ساد شعور أقرب إلى اليقين لدى علماء السياسة بأن الديمقراطية في بعض البلدان كالولايات المتحدة وفرنسا قد استقرّت على أرض صلبة، وبأنها لن تتغير في السنوات القادمة، وهو ما يجعل المستقبل مشابهًا للماضي في هذا السياق.
منذ فترة طويلة ساد شعور بين المواطنين بعدم التوافق مع السياسيين، في حين أنه في الفترة الأخيرة نجد أن الكثير من مشاعر الغضب، والازدراء، قد ازدادت، فأنظمة الأحزاب السياسية قد تجمدت، والشعبوية الاستبدادية في تصاعد مستمر في كل العالم، من أمريكا إلى أوروبا، ومن آسيا إلى أستراليا. ففي السابق لم يكن الناخبون يرغبون في السياسيين، أو الحكومات، وما حدث الآن أنهم قد سئموا من وعود الديمقراطية الليبرالية بحد ذاتها.
ظهرت معالم أزمة الديمقراطية الليبرالية بشكلٍ جليٍّ في انتخاب دونالد ترامب للحكم في أمريكا؛ ذلك أنه وللمرة الأولى في تاريخ أقدم وأعرق دولة ديمقراطية في العالم يتم انتخاب شخص يزدري ويسخر من معايير الدستور ومبادئه، ويتوعد بأن يسجن خصمه الانتخابي في حالة فوزه بالرئاسة، ويفضل الدول والأنظمة الاستبدادية المناقضة للقيم الديمقراطية.
غير أنه في المقابل، لا يمكن النظر إلى انتخاب دونالد ترامب بوصفه حدثًا معزولًا عما يحدث في بقاع العالم المختلفة، فعلى سبيل المثال نجد في روسيا، وتركيا، أن إعادة انتخاب “الرجل القوي” قد أجهض الديمقراطية المحتملة، والوليدة، إلى نظام الحكم الديكتاتوري، وهو ما حدث أيضًا في بولندا وهنغاريا (المجر)، اللتين استخدمتا طرقًا مشابهة لتدمير الصحافة الحُرة، وتجاهل المؤسسات المستقلة، وتكميم المعارضة أيضًا. وهو ما ينطبق بدرجة أو بأخرى على الكثير من الدول كالنمسا، وفرنسا، وألمانيا وغيرها؛ إذ إن كل هذه العلامات التي أصبحت واضحة الدلالة، تشير وبشكلٍ جلي إلى أن الديمقراطية الليبرالية تذهب في الاتجاه الشعبوي من جهة وبأنها تعاني من أزمات بنيوية عميقة من الجهة الأخرى.

والسؤال هنا: هل هذه اللحظات التي تؤشر لتصاعد المد الشعبوي تجعلنا ندخل في العصر الشعبوي الذي يجعل بقاء الديمقراطية الليبرالية واستمراريتها محل شك ٍ كبير؟
لفهم هذه الصورة الواسعة، يقوم مُنك بسرد رواية انتصار الديمقراطية الليبرالية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي (ص3)، إذ إن الليبرالية الديمقراطية قد سيطرت بوصفها نظام الحكم الأصلح للإدارة في الكثير من بقاع العالم في تلك الفترة، من أمريكا الشمالية إلى أوروبا الشرقية، حيث حلّت كبديل عن الأنظمة الديكتاتورية في الكثير من بقاع العالم المختلفة؛ غير أن السبب الرئيس لانتصار الليبرالية الديمقراطية يعود إلى عدم وجود بديل متماسك، ومقنع، وصلب، فالشيوعية سقطت، والحكم الإسلامي لم يكن له تأييد خارج مناطق الشرق الأوسط، والصين استمرت بنظام الحكم الرأسمالي الذي يضع شعار النمط الشيوعي كواجهة للحكم.
تزايدت فكرة انتصار الديمقراطية وبشكلٍ محدد بعد أطروحة فرانسيس فوكوياما في نهاية الثمانينيات التي طرحت بشكلٍ صريح بأننا أمام عصر الديمقراطية الليبرالية، وأمام نهاية الأيديولوجيات البشرية، التي تعدّ نهاية التاريخ بالمعنى الرمزي للثورات والإيديولوجيات المنافسة؛ غير أن هذه الفكرة واجهت الكثير من الانتقادات والاعتراضات الطبيعية، ففي بعض البلدان الفقيرة لم تنجح الديمقراطية، وبعض الأنظمة الأوتوقراطية الحاكمة قد أزيلت من السلطة مع أنها قدمت نفسها على أنها تمثل مستوى جيدًا للمعيشة والحياة.
1) أزمات الديمقراطية الليبرالية:
في العام 1830م، أرسل ملك فرنسا أحد المهندسين الشباب إلى إنجلترا ليعاين أو ليدرس اختراعًا مدهشًا، وحساسًا في تلك الفترة؛ ذلك أن هذا الاختراع يقوم بنقل المسافرين من مانشستر إلى ليفربول، إنه أمام القطار البخاري؛ غير أن المهندس وبعد معاينته لهذا الشيء العجيب أخذ الكثير من الأوراق، وبدأ بكتابة الملاحظات بضمير واعٍ ويقظة، قائلا: هذا الشيء مستحيل، إنه لا يعمل”. ليس الهدف هنا من هذه القصة القصيرة الاستخفاف بالمهندس الفرنسي الشاب، بقدر ما يهدف – مُنك – إلى التدليل على أن الإنسان من الممكن أن يُخيب العالم توقعاته أو فهمه للكثير من الأحداث والاختراعات؛ إذ إن الإنسان يعتقد بأنه يفهم العالم في الكثير من الأحيان فهمًا عقلانيًا بشكلٍ كامل، كما هو حال المهندس الفرنسي.

ينطبق هذا المثال على البريكست الشهير، ذلك أن النقاد والمحللين السياسيين قالوا بأن البريكست لا يمكنه أن يحدث، وهو ما قيل عن انتخاب دونالد ترامب أيضًا، كما قالوا أيضًا بأن الديمقراطية لن تكون في خطر يفككها أو يهددها، وهو ما يجعلنا نشعر بأننا نعيش في عصرٍ يتسم بالتغيرات المتسارعة واللايقينية.
من الضروري في مقدمة هذا العمل توضيح المعاني المتداخلة بين الليبرالية والديمقراطية، فالليبرالية تحتمل معاني كثيرة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تشير الليبرالية إلى الشخص الذي يحمل نظرة سياسيّة، تفرق بين الليبرالي والمحافظ كما هو الحال بين الأحزاب اليمينية والأحزاب اليسارية، أو بين الديمقراطيين والليبراليين، وهذا ليس المقصود هنا في هذا الكتاب عند استخدام الليبرالية أو الديمقراطية. فكلمة الليبرالي في هذا العمل تشير إلى ذلك الشخص الملتزم بالقيم الأساسية مثل: حرية التعبير أو الخطاب، والفصل بين السلطات، أو حماية الحقوق الفردية للأشخاص. بهذا المعنى فإن هذا التعريف يضع جورج بوش، وباراك أوباما، ورونالد ريجان وبيل كلينتون في خط واحد، مع وجود بعض الاختلافات الجذرية بينهم.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الديمقراطية منذ زمن طويل تم توسيعها لتشمل الكثير من الأشياء المرغوبة، والمحببة إلى النفس، غير أن هذه التعريفات الموجودة لا تشكل عملية التباس أو تداخل بين التعريفات الثلاثة: الديمقراطية، والليبرالية، والظهور التاريخي لبعض المؤسسات في بعض البلدان كالبرلمان، إذ تم النظر إليها على أنها “إجراءات الحد الأدنى”، كما هي دعوات السياسي الأمريكي روبرت داهل (1915م-2014م)، إذ إن الديمقراطية تعني بالنسبة له:
1) الحرية، وانتخابات عادلة وتنافسية.
2) اقتراع كامل للبالغين.
3) الحماية الواسعة للحريات المدنية، بما فيها حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية تشكيل الجمعيات أو التجمعات.
4) عدم الالتزام بالسلطات الوصائية التي تمنع الانتخابات كالعسكري، أو الديني.
بهذا التعريف فإن داهل قد مزج بين الحقوق الليبرالية والديمقراطية، مما يعني صعوبة الفصل بينهما، وهو ما خلق التباسًا بينهما وبين المؤسسات التاريخية في هذا الشأن، كما جعل الأمر يزداد صعوبة إن كانت هذه المؤسسات سمحت للناس بسن القوانين أم لا.
في المقابل فإن وجهة نظر مُنك في هذا الخصوص تتلخص كالآتي:
الديمقراطية: عبارة عن مجموعة من المؤسسات المنُتخبة والمترابطة التي تترجم بفعالية الرؤية الشعبية إلى سياسات عامة.
الليبرالية: عبارة عن مؤسسات تحمي بفعالية قوة القانون، وتضمن الحقوق الفردية، كحرية التعبير، وحرية العبادة، وحرية الصحافة، وحرية التجمعات أو الجمعيات، لجميع المواطنين بما فيها الإثنيات والأقليات الدينية.
الديمقراطية الليبرالية: هي بكل بساطة نظام سياسي يجمع بين سمات الليبرالية والديمقراطية ليحمي الحقوق الفردية ويترجم الرؤية الشعبية إلى سياسة عامة. (ص27).
– ديمقراطية بدون حقوق:

في الجزء الأول من فصل أزمات الديمقراطية الليبرالية يتحدث مُنك عن ديمقراطية بدون حقوق؛ إذ يتحدث عن مفارقتين زمنيتين حدثتا في ألمانيا، ففي خريف عام 1989م، وتحديدًا في شرق ألمانيا توافد كثير من المواطنين والعمال في شوارع لايبزغ ودرسدن في مساء كل اثنين ليرفعوا شعار “نحن الشعب” التي أصبحت ترنيمة وشعارًا مضادًا للنظام الشيوعي في تلك الفترة، كما رفعوا شعارًا آخر يقول: نحن – لسنا شرطة سرية، ولا حزبًا نخبويًا- الشعب.
وفي حادثة أخرى وتحديدًا في عام 2015م، تجمع الشعب أيضًا في الشوارع والممرات نفسها، ولكن هذه المرة تجمعوا بغضب، وحنق شديدين ضد المهاجرين، الذي جاءوا إلى ألمانيا وذلك بقيادة حركة “أوروبا الوطنية ضد أسلمة الغرب” أو كما يتم اختصارها حركة بيجيدا، التي بدأت في التظاهر ضد أنجيلا ميركل وسياسة حكومتها في هذا الشأن. ترفع حركة بيجيدا شعار “كراهية الصحافة” كمركزية أيديولوجية لها، مع كراهية اللاجئين، وكراهية الولايات المتحدة الامريكية، مع إصرار على نقاء الشعب الألماني. في هذه التظاهرة رفعت الكثير من الرموز والأعلام والشعارات والصور، مثل علم الثورة الفرنسية، وجمهورية فايمار، غير أن اللافت للنظر هنا – يقول مُنك – هو رفع العلم الروسي، وعبارة مكتوب عليها ” بوتين يضع شعبه أولا”، وذلك في إشارة واضحة إلى الرغبة العميقة في الديكتاتورية، وإقصاء الآخر؛ بل اختراع ديمقراطية بدون حقوق تتضمن الإثنيات المختلفة، واللاجئين وغيرها.
ما حصل في ألمانيا في الفترة الأخيرة ينطبق إلى حد كبير على الكثير من الدول الأوربية، التي صعد فيها اليمين المتطرف للسطح في السنوات الأخيرة، وهو ما يعني صعود الشعبوية هنا، حيث اعتبرها بعض علماء الاجتماع مثل فرانك فرويدي والمخرجة استرا تايلور، بأن المعضلة الحقيقية للديمقراطية اليوم ليست في تزايد الحس الشعبي بل في نقصه” أو بعبارة فرانك فرويدي بأن ” ضد الشعبوية تعني بشكل مستمر ضد الديمقراطية”، وإذا كانا محقين في ذلك من حيث إن النظرة تجاه الشعبوية تعدّ إلى حدٍ كبير القناة الشعبية بطريقة جيدة، فإن سوء التقدير هنا هو: إلى أي حد التعصب أو التوجهات غير الليبرالية تقف خلف صعود الشعبوية ؟ (ص35). فالمراقب لبعض الدول مثل تركيا، وروسيا، وفنزويلا، يجد أن صعود الحركات المعادية لليبرالية مقدمة على صعود الرجل القوي، وهذا يتجسّد في سمات معينة، مثل: تكميم الصحافة، وإلغاء المؤسسات المستقلة، وهي تسهل إلى حدٍ كبير الانتقال من الشعبوية إلى الديكتاتورية.
– حقوق بدون ديمقراطية:
في الأزمة الثانية التي تتعرض لها الديمقراطية الليبرالية يسرد مُنك قصة افتتاحية تعبّر عن مجموعة فلاحين يعيشون في بروسيا القديمة، حيث كانوا عمليًا يعدون من أملاك أسرة أولدنبرغ، التي لم تمنحهم حق التصويت، وبحقوق ضئيلة جدًا. تجمع الفلاحون في حانة قديمة تم تحويلها لغرض الاقتراع ومعرفة رأيهم فيمن يحكمهم، غير أن المفاجأة بأنهم استلموا أظرفًا مغلّفة، ومختومة، تحتوي على ورقة مكررة لدى الجميع. فقط شخص واحد تجرأ وفتح المُغلف ليكتشف أنها لا تحتوي على شيء، عندها قال: “إنه اقتراع سري أيها الحقير”. (ص53). بهذه القصة الرمزية يخبرنا مُنك بأنه في الكثير من الأماكن بأن الديمقراطية تتظاهر وبشكلٍ جاد، وفعلي بأنها تسمح لهم بسن قوانينهم بأنفسهم، وبأن “النخبة” السياسية تُمسك فقط بزمام الإجراءات الانتخابية. وهي القصة التي نجحت الكثير من الأنظمة منذ فترة طويلة في اتباعها، واستمراريتها.
فالليبرالية الديمقراطية تعني الكثير من الأشياء للكثير من الأشخاص، فهي تعد الأقليات بحماية حقوقهم من طغيان وظلم الأغلبية، كما أنها تعد النخبة الغنية بأن تحافظ على ثرائهم وثرواتهم، فهي بهذه الطريقة تعدّ كيمياء المساواة التي ساعدت في جعل المجتمعات الليبرالية الديمقراطية في وضع مستقر، أو شبه مستقر.
فالانتخابات تعني بحسب كلمات جيمس ماديسون رابع رئيس أمريكي الذي يعدّ أب الدستور الأمريكي، يعدّها “صقل الرؤية العامة وتكبيرها، عن طريق تمريرها من خلال وسيط يتم اختياره من قبل المواطنين، الذي يتمتع بحكمةٍ وفهم لمصلحة البلاد”. بهذا المعنى تعدّ كلمات ماديسون تقليصًا جذريًا لتأثير الأفراد في الحكومات الذي يعدّ ليس غريبًا أو طارئًا على الولايات المتحدة الأمريكية، أو المملكة المتحدة، “فالصوت الشعبي – يضيف ماديسون – يتضح من خلال تمثيلهم السياسي، الذي يكون متناغمًا مع الصالح العام أكثر من الإعلان عن طريق الشعب أنفسهم”(ص55).
وهذا يعني بأن التمثيل الانتخابي يقبع في محدودية تحتاج إلى نقد وتوسيع لتتلاءم مع المستجدات، وتسعى إلى تجاوز نقاط الضعف التي اتسم بها هذا التمثيل، إذ إنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية واجهت الأنظمة السياسية تعقيدات كبيرة، وتحديات متزايدة في هذا الشأن، منها التقدم التقني، والإجراءات الاقتصادية التي ازدادت تعقيدًا أكثر من قبل. كما تزايدت في هذا الشأن إجراءات الحماية لتصبح الأداة الرئيسة في الاستقرار الاقتصادي، كما لا يمكننا تجاهل ما يحدث من آثار للجنس البشري بسبب التغير المناخي الذي ساهم بدوره في ازدياد اللامساواة وتعميقها، التي لها جذور عولمية عميقة، والتي يبدو أنها تجاوزت قدرات الدول القومية لتوحيد رد مناسب عليها.
كل هذه الأسباب وغيرها، دفعت لنقل مواطن القوة والتحكم من البرلمانات الوطنية، للتفاوض أو التعاون من أجل سن القوانين والتشريعات مع المختصين في الجانب التقني، وذلك من خلال اتباع الإجراءات البيروقراطية التي جعلتهم يأخذون أدوار المُشرع في هذه المجالات. بطبيعة الحال لا يعود هذا الضعف في قوة التمثيل الانتخابي بسبب مؤامرة من النخبة السياسية، بل جاء نتيجة تدريجية للتحديات السياسية الواقعية، كما أنها تعدّ من الجهة الأخرى بوادرَ تآكل بطيء للديمقراطية، فكما أن كثيرًا من مواضع السياسة العامة قد تم وضعها خارج المجال القضائي، فإن الإمكانيات البشرية أيضًا وتأثيرها في السياسات العامة قد تم تقليصها بشكلٍ جذري.
ما ينبغي فعله في هذا السياق أن تستعيد الآليات الديمقراطية فعاليتها لترجمة الرؤية الشعبية إلى سياسة عامة، ففي الولايات المتحدة نجد أن هذه الآلية قد أصبحت الآن ضعيفة، غير أن هذه الإجراءات كانت في السابق متأصلة، لكن هذه الليبرالية قد تزايدت لتصبح غير ديمقراطية.
– ديمقراطية مفككة:
ما بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، فقد الكثير من المواطنين الأمريكيين الثقة بالطبقة السياسية (ص99)، وهذا تجلّى بشكلٍ كبير في الحركات الطلابية، وحرب فيتنام، وفضيحة ووترجيت التي بدأت تُلقي بظلالها الحادة على الوضع الأمريكي الداخلي، الذي بدوره ولّد الكثير من الشكوك ليس حول السياسة الأمريكية بالتحديد؛ بل أيضًا في فكرة الديمقراطية بشكلٍ عام. فالتساؤلات قد تزايدت في هذا السياق حول مدى صلاحية النُخبة السياسية لقيادة البلاد، أو القيام بالتشريعات وتمثيل المواطنين في المجالس الانتخابية، وهذا أدى بدوره إلى زعزعة الثقة في هذه المؤسسات، “إذ إن الثقة في المؤسسات السياسية للبلاد تعد بمثابة ضمانة أو قانون للبلد”(ص100). ففي عام 2014م، حسب الإحصائيات المتوفرة تشير إلى أن نسبة ثقة الأمريكان في المحكمة الدستورية تصل إلى 30%، وبنسبة 29% في المؤسسة الرئاسية، كما أن الثقة في الكونجرس قد تضاءلت إلى نسبة 7%. وحسب الإحصائيات الواردة فإن نسبة كبيرة من أبناء الجيل الجديد لا ترغب في التعامل المباشر مع الساسة أو الدخول في هذا المعترك مقارنة مع الأجيال السابقة التي أفنت الكثير من أعمارها في النضال السياسي، وهذا ينطبق إلى حدٍ كبير على الكثير من المواطنين الأوروبيين الذين يشاطرونهم المشاعر والأحاسيس نفسها تجاه الحياة السياسية.
غير السؤال الذي طرحه علماء السياسة هنا، هل تشير هذه الأرقام إلى نضج في الأجيال الجديدة مقارنة مع الأجيال السابقة؟ في هذا السياق، من المهم التفريق بين “شرعية الحكومة” وبين “شرعية النظام”، ففي المقام الأول نجد وباعتراف الباحثين بأنها في تراجع، فالمواطنون في الأوقات الحالية أصبحت لديهم الرغبة أكثر من قبل في تحدي المشرعين؛ في حين أن الجانب الثاني بقي محافظًا على استقراره واستمراريته، ففي هذا المجال لا توجد محاجات من المواطنين مثلما هو الحال في السنوات السابقة. (ص103). فالمؤلم هنا حسب المؤلف هو ذلك الشعور الواضح بين المواطنين الذين ينتقدون الديمقراطية ويسعون لهدمها، عوضًا عن رغبتهم في العيش والتمتع بميزاتها ومزاياها، وهذا مقلق جدًا، فهو يشير إلى نقص كبير في البدائل.
ولكن السؤال هنا: ما البدائل؟ هل هناك إشارة إلى الرغبة في أنظمة ضد الديمقراطية؟
لتقييم هذا السؤال، أو لمحاولة الإجابة عنه، من الضروري الانفتاح على الأنظمة التوتاليتارية التي تعد بديلًا عن الديمقراطية، إذ إن هناك الكثير من الردود تشير إلى تلك الرغبة في وجود قائد قوي لا يتم تقليص سلطاته من قبل الكونغرس أو عن طريق الانتخابات. ولكن هل يشير ذلك إلى وجود رغبة لدى الشعب الأمريكي في وجود رجل قوي يقترب من التسلطية أو الديكتاتورية؟
تأتي الإجابة هنا بنعم حسب المؤلف، وهي لا تقتصر فقط على فئة عمرية معينة، بل تشمل الجميع، ومن جميع الأعمار، مقارنة مع العشرين عامًا الأخيرة؛ غير أن المفاجأة الأخرى في هذا السياق تتلخص في أن نسبة الأفراد المؤيدين للأنظمة غير الديمقراطية أو للحكم العسكري ليس كبيرًا مقارنة مع الفئات الأخرى، غير أنه في تزايد مستمر، ففي عام 1995م كانت النسبة المؤيدة ضئيلة مقارنة مع إحصائيات 2011م. وهذا التأييد لا يقتصر فقط على المستوى المعيشي المتدني، بل تزايد حتى لدى فئة الشباب أو الأجيال الجديدة من الأثرياء، كما أن المفاجأة الأخرى غير السارة أيضًا تذهب إلى أن نسبة المؤيدين للحكم العسكري خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية التي تتوفر على إحصائيات وبيانات في هذا الشأن في تزايد أيضًا، كما هو الحال في ألمانيا، والهند، والسويد، وبريطانيا.

2) جذور الأزمة:
في تشخيصه لجذور الأزمة التي تمر بها الديمقراطية، يرى مُنك بأن هناك ثلاثة شروط أساسية جعلت الديمقراطية تعاني من هذه الأزمات، وهي التي أدت إلى تآكل تلك المبادئ على مدى العقود الماضية، إذ إنه من خلال التعرف عليها وفحصها من الممكن تجنب المصير الدموي والعنيف الذي ينتظر الكثير من المجتمعات، كما تتيح لنا معرفة هذه الجوانب القيام بتغييرات معقولة ومناسبة لتلافي النتائج السيئة، والأخطاء التي ارتكبت في السابق؛ إذ نجد الكثير من المحللين في السنوات الماضية يتحدثون عن قصص وأحداث محلية، تقع في بلدانهم، يركزون من خلالها على أسباب معينة، غير أنه وبعد صعود الشعبوية كظاهرة عالمية، أصبح من الضروري إعادة النظر والتفكير في هذه الأسباب بشكل أعم في العديد من البلدان. هذه الظواهر أتاحت للكثير من المحللين في الجانب الآخر ربط الكساد الكبير واستحضاره بوصفه مصدر المشاكل والأزمات، الأمر الذي جعل الفقراء يسهمون في صعود الشعبوية، أو نتيجة لاختلافات ثقافية لا تتوافق مع القيم الديمقراطية (ص136). غير أن مُنك يذهب إلى أن جذور الأزمة بشكلٍ رئيس تنحصر في الأسباب الموضحة أدناه:
– وسائل التواصل الاجتماعي:
في الفترات الزمنية التي سبقت اختراع الطباعة كانت المعرفة محصورة في فئة نخبوية معينة، كما أن المعرفة كانت تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد الكبيرين لتنتشر، بالإضافة إلى تكلفتها العالية التي لا تتناسب مع القدرات المادية للأفراد. غير أنه مع اختراع الطباعة وما تبع ذلك من أحداث كثيرة كما هو الحال لدى مارتن لوثر، الذي ترجم ونشر الكتاب المقدس في عام 1522م تقريبًا، الأمر الذي جعل إمكانية الأفراد من الوصول لمعاني الكتاب المقدس، ومعرفة الوصايا التي يحث عليها، أكثر عمومية من قبل، وهو الذي مهّد لاحقًا لتخفيف سيطرة وهيمنة رجال الدين وصكوك الغفران على البشر، ووصايتهم على الإيمان.

بعد مرور ما يقارب 500 عام من اختراع الطباعة، والتحولات الكثيرة التي طرأت على البشرية نجد أننا في عام 1992م، أمام حدث مفصلي، ومهم، يضع العالم أمام تحول جديد في التواصل ونشر المعرفة بين البشر في جميع أرجاء المعمورة في توقيت حدوث الفعالية نفسه، وكان هذا الصعود في البداية مبشرًا بالخير ومتفائًلا بظهور الكثير من النتائج الإيجابية على المستوى العالمي، وهو ما حدث في عام 2011م، من تحولات كبيرة بفعل المظاهرات التي خرجت في بلدان الربيع العربي، التي كانت تُحكم بطريقة استبدادية وظلامية. ثم ما لبث أن تم التحول إلى العصر الرقمي الذي يعدّ أيضًا طفرة في مجال التواصل الاجتماعي بين البشر بما يعنيه من اختصار للزمان والتكلفة العالية مقارنة مع السابق، وذلك ما تجسد في الهواتف الذكية التي أتاحت للجميع التعبير عن آرائهم واتجاهاتهم المختلفة.
غير أن هذه الأحلام والتوقعات الجميلة، كانت على ما يبدو أمام انتقام من هذا الصعود السريع للتقنية، فعن طريق وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك، وتويتر، وانستغرام، وغيرها، والاستخدام الشائع للهواتف الذكية، أصبح السؤال عن مستقبل الديمقراطية في العصر الرقمي أو عصر الديجيتال مُلحًا، ولا يمكن تأجيله، وبشكلٍ خاص مع الصعود السريع لدونالد ترامب وما رافق ذلك من تعليقات لاذعة في حملته الانتخابية، والقدرة الفائقة لهذه الوسائل على خداع، وبرمجة المستخدمين من جميع الأعمار والخلفيات؛ إذ أتاحت هذه الوسائل ظهور الكثير من النزعات العنصرية، وأنواع الرقابة المختلفة من قبل الحكومات، كما أنها أسهمت في ظهور الكراهية بين الثقافات، نتيجة لهذه الاختلافات.
– الركود الاقتصادي:
لسنوات تاريخية طويلة، وتحديدًا من أثينا عاصمة الإغريق إلى اختراع المحرك البخاري؛ كان متوسط النمو السنوي أقل من 1%، إذ إن هذا النمو كان بسبب تزايد أعداد السكان وليس بسبب تحسن مستوى المعيشة للأفراد. في السنوات اللاحقة تحسنت اقتصادات بعض الدول وبشكلٍ خاص الاقتصاد الإنجليزي بنسبٍ مرتفعة؛ إذ وصل النمو إلى نسبة 80% (ص152)، غير أنه في المقابل نجد أن اللامساواة قد تزايدت في السنوات اللاحقة؛ فنجد أنه في عام 1928م، وحسب توماس بيكيتي فإن نسبة الأثرياء التي تعدّ 1% من المتوقع أن تحصل على نسبة 20% من الدخل الأوروبي في بلدان مثل فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية؛ ذلك أن الحديث عن توزيع الثروة في هذا السياق قد تم سحقه وتحطيمه، وهو ما انعكس إلى حدٍ كبيرٍ على المستويات المعيشية للأفراد، إذ نجد أن الكثير منهم يعيشون في أوضاع معيشية مزرية، وهو ما جعل التقدم الاقتصادي يمشي ببطء كبير في هذا الاتجاه. في هذا السياق فإن الخوف من المستقبل على المدى الطويل، وبشكلٍ خاص في فترة ما بعد الحرب كانت كافية لمنح الديمقراطية الليبرالية مشروعية، فهي كانت لفترة طويلة مستودع الفضائل السياسية.
هذه الأوضاع الاقتصادية التي تزداد سوءًا في السنوات الأخيرة كفيلة بجعل الديمقراطية الليبرالية في موضع تساؤل كبير، إذ يتعلق ذلك بالمشروعية التي تجعل المواطنين يضعونها كخيار حياة، وكرؤية وجودية.
– الهوية:
منذ فترة زمنية طويلة أطلقت الديمقراطية أو أطلق دعاة الديمقراطية وعودًا بأن الشعوب من الممكن أن يكتبوا قوانينهم الخاصة بهم، غير أنه سرعان ما طُرح سؤالٌ مخادعٌ: من هو، بالتحديد، الشعب؟ (ص161). ففي فترات زمنية سابقة، وتحديدًا في أثينا، كان لا يتم اعتبار النساء والعبيد مواطنينَ كاملين، كما نجد أن هناك نقاشًا ساد في تلك الفترة حول المهاجرين المنحدرين من أصول غير يونانية، وعدم اعتبارهم إغريقيين. مع مرور الوقت، وعندما بدأت المدن في التنوع من الغنى، والسكان، وازدهار الآداب، نتيجة هذا التعدد وتوافد المهاجرين إلى اغورا مدينة هيباتايا السكندرية، تغيرت ملامح هذا المفهوم.
بهذا المعنى فإن مفهوم الشعب لدى أثينا قد تطور وتوسع بشكل بطيء جدًا، وهو ما جعل الخطيب والسياسي الإغريقي الشهير بركليس يعيد صياغة هذا المفهوم من جديد، ذلك أن المفهوم السابق يستبعد الكثير من الشخصيات المهمة في السياق الإغريقي من حقوق المواطنة، مثل ديوجين، وأرسطو، اللذان يعدان من “الميتكس” أي من الذين جاءوا إلى الإغريق في فترات زمنية مختلفة.

لاحقا، وبعد ما يقارب ألفي عام، كانت أوروبا أمام موعدٍ جديد في هذا السياق، ففي الكثير من الإمبراطوريات القديمة كإمبراطورية هابسبورغ، والإمبراطورية العثمانية، اللتين ازدهرتا نتيجة توجههما نحو الصناعة وإبداع الذوات بطرق مختلفة، والتحدث بلغات مختلفة. في مقابل ذلك، نجد أن الحماسة القومية التي بدأ بها القرن الثامن عشر، والتاسع عشر، اتخذت بشكلٍ مستمر تلك اللهفة في النقاء القومي، كما هو الحال في الديمقراطية، حيث تنطبق هذه النقطة الأخيرة على دول معاصرة مثل التشيك، والسلوفاك، والهنغار، التي شعرت بعدم الارتياح من أن يتم سن القوانين بلغة مختلفة، واهتمامات مغايرة.
فيما بعد الحرب العالمية الثانية والرعب الذي أنتجته، أطلقت الكثير من الدول العنان للتطهير العرقي، إذ إن هناك الكثير من العوامل التي جعلت الديمقراطية تخفق في العديد من الدول من ألمانيا، وإيطاليا، وغيرها، في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، غير أن هذه الجذور ما لبثت أن عادت في الخمسينيات والستينيات، وربما يعود ذلك إلى عدم التجانس العرقي في هذه البلدان بشكلٍ كبير، وهو الأمر الذي أسهم في إنجاح الديمقراطية بهذا الشكل الجديد، فهي قامت بتهذيب تعريفهم لأنفسهم. من هنا نستطيع القول وعلى المدى البعيد، بأن الهجرات الجماعية من الممكن أن تقود إلى اهتمام أكبر بتاريخ الديمقراطية في هذه المجتمعات؛ غير أن الكثير من المواطنين يشعرون بالقلق من الأجانب الذين من الممكن أن يميعوا أصواتهم أو يفقدوا بوصلتهم.
لكن في أوروبا المعاصرة، التي عرّفت نفسها بأنها غير متجانسة من الناحية العرقية، التي جربت الصعود السريع لمستويات القلق الاقتصادي، نجد أن هناك أسبابًا جيدة للتفكير في التحولات السكانية (الديموغرافية) التي لا تحدث بسهولة تامة، غير أن السؤال هو: هل من الممكن التغلب على هذه التحديات؟
ثمة سؤال لا يقل أهمية عن ذلك، وهو الذي يأتي بعد تلك التحولات السريعة التي حدثت للمجتمعات المتجانسة عرقيًا، والتي أصبحت غير متجانسة بعد ذلك، وبشكلٍ خاص بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ نجد أن في بريطانيا العظمى كان عدد الأقليات العرقية لا يتعدى عشرات الآلاف في عام 1950م، في حين نجد اليوم ما يزيد على 8 ملايين نسمة (ص165)، وهذا ينطبق على أوروبا الغربية، ففي ألمانيا سعت الحكومة لاستقطاب المزيد من العمالة غير الماهرة من اليونان، وإيطاليا، وتركيا، في حين أنه حاليًا يتعدى عدد المهاجرين 17 مليون نسمة. وهذا يشمل إيطاليا أيضا ولكن بدرجة أقل. وهذا ما تجسد في الفترة الأخيرة؛ إذ نجد أن الخوف من المهاجرين تصدر مشهد الناخبين في أوروبا واهتماماتهم.
في ختام هذه الأزمات الثلاث (ص181) التي يطرحها مُنك، والتي راهن من خلالها على أنها سبب من أسباب عدم الاستقرار المعاصر، التي كان ينظر لها بشكل مختلف في الفترات السابقة، ففي البدء من الضروري أن تتحسن المستويات المعيشية لمواطني دول الديمقراطية الليبرالية. كما نجد حاليًا أن النخبة السياسية تدير بشكلٍ كبير مفاهيم التواصل وطرقه، التي من خلالها يتم إقصاء الرؤى الراديكالية من الفضاء العام. كل هذه المشاكل – يقول مُنك – تعدّ تحديات عاجلة وشاقة، والإحاطة بواحدة منها يعدّ صعبًا، في حين أن الإحاطة بالأزمات الثلاث يبدو مستحيلا؛ غير انه من الضروري المحاولة في هذا الشأن، وذلك لتجديد الإيمان والثقة بالليبرالية الديمقراطية التي تعتمد عليها.
طرق العلاج:
عندما صعدت “ملكة الانتخابات” لسدة الحكم كان الكثير من رجال الدولة يشعرون بالخوف من مخاطر صعودها على الديمقراطية في كوريا الجنوبية، فمنذ فترة طويلة كانت باك عن هي محل جدل طويل، فهي ابنة الجنرال الذي حكم كوريا لفترات زمنية طويلة بوصفه رئيس المجلس العسكري؛ إذ إن وعودها لإضعاف الشايبول أكسبتها شعبية كبيرة في البلاد، كما كان يطلق عليها في كوريا، والتي تعني شكلًا من أشكال الائتلافات التجارية في كوريا، التي تتلخص في وجود شركات عالمية متعددة الجنسيات تمتلك مؤسسات دولية يسيطر عليها رئيس ذو سلطة على جميع العمليات. بمعنى آخر؛ فهي عبارة عن تكتلات أو تحالفات داخلية تسيطر على الكثير من مجريات الأمور في البلاد. فيما بعد وفي السنوات اللاحقة للانتخاب أي ما بعد 2012م، وبعد الكثير من الوعود والإنجازات المختلفة، وتحديدًا في عام 2016م، وقعت باك عن هي في فضيحة فساد مدوية، إذ رفضت في البدء الاعتراف بالاتهامات، غير أن المظاهرات الحاشدة، والمتواصلة، التي استمرت لفترات زمنية طويلة أدت إلى اعتذارها وعدم قبول الرأي العام الكوري بها، مما أدى إلى استقالتها. في المقابل، وعلى مدى السنوات الماضية اعتقلت الحكومة التركية الكثير من الصحفيين، وفصلت الكثير من الموظفين من أعمالهم، كما تم إلغاء كثيرٍ من المؤسسات الضامنة لعدم انزلاق البلاد للحكم الاستبدادي. ففي الكثير من البلدان عندما يصل الرجال الأقوياء إلى الحكم، فإن أول إجراء منظم يقومون به هو تغيير قوانين اللعبة (ص186)، وهو ما يزيد من مخاطر بقاء الديمقراطية الليبرالية واستمراريتها.
والسؤال هنا: ما الذي من الممكن أن يفعله المدافعون عن هذه القيم لوقف انتزاعها من الهجمات الشعبوية المتزايدة؟
من النادر أن تقوم المعارضة بتقييد أفعال الحكومات الديمقراطية، غير أنه عندما تتألف هذه الحكومات نفسها من شعبوية استبدادية، تلك التي تزدري القيم الديمقراطية، فإن المقاومة تصبح صعبة جدًا. فكما هو الحال في كوريا الجنوبية حيث أصبحت المظاهرات في الشوارع ضد القانون، وضد النظام.
تقتضي إجابة السؤال أعلاه، وبعد تشخيص هذه الأزمات اجتراح عدد معين من العلاجات، وهي كما يأتي:
ترويض القومية أو تدجينها:
لا شيء طبيعي حول فكرة القومية، فمنذ فترات زمنية طويلة عاش الإنسان في أسر وعوائل منظمة، وقبائل، ومدن، ومقاطعات، ومجتمعات متدينة. وحتى عندما صعدت القومية إبان الثورتين الأمريكية والفرنسية، وأصبحت القوة التي تقود الكثير من الأحداث التاريخية، فإنها في كل هذه التحولات بقيت بصفتها مشروعًا نخبويًا. (ص195). ففي الماضي القريب كانت التنقلات بين الحدود السياسية أقل صعوبة من الآن، فالكثير من العرقيات تتخطى هذه الحدود وتتنقل فيما بينها؛ إذ نجد أن الكثير من الأشخاص يعرّفون أنفسهم على الأساس الوظيفي أو الهوايات التي يقومون بها، في حين أن في الحاضر نجد حضورًا كبيرًا للقوميات وعودة لها بشكلٍ متعصب. وهذا يتضح بشكلٍ كبير في الفروقات أو في الحدود المتخيلة بين هذه القوميات في الماضي والحاضر، فهي لم تكن واضحة، ومتمايزة كما هو الحال اليوم. فالإنجليزي أو الألماني أو الإيطالي أو غيره، لم يكن يعي هذه الفروقات الحادة، بل كان يشعر وكأنه أمام تقسيمات متقاربة، وتختلف فقط في الغذاء، أو الملابس أو الأشياء السطحية.
وهذا الأمر ينطبق على الأمريكي بنسبة كبيرة، ففكرة الحلم الأمريكي كانت سياسيّة، ولم تكن مرتبطة بالدين أو العرق أو غيرها من التقسيمات المختلفة. فالهدف الأمريكي الأسمى كان يركز على اتحاد متكامل، مؤسس على العدالة، ويضمن الطمأنينة للشعب عن طريق الأمان، والرفاهية العامة، بما يحقق الازدهار والحرية للجميع (ص199). من الملاحظ في هذا السياق، صعود القوميات الإقصائية تلك التي تستبعد الاختلافات في المجتمع، وتركز على عرق واحد، أو توجه ديني واحد، وهو ما ينبغي التخلي عن هذا الخطاب القومي الذي يقسم المجتمع إلى إثنيات، وعرقيات متمايزة، بعيدًا عن التوجهات السياسية، واستبداله بخطاب يقوم على الوطنية الشاملة، تلك التي تقوم على احتواء الأقليات، وحماية الحقوق، ومشاركة الجميع في مصير الوطن.
الإصلاحات الاقتصادية:

تنطوي الخطابات الشعبوية التي تسعى إلى الانغلاق على حنين في العمق، وتحديدًا مع شعار ترامب حول “لنجعل أمريكا أولًا” أو ذلك الشعار الذي رُفع في المملكة المتحدة الذي أدى إلى خروجها من الاتحاد الأوروبي الذي يهدف إلى استعادة السيطرة من جديد؛ إذ يعود سبب انتشار هذه العناوين وقوتها إلى شعور كل ناخب أو مصوت بأنها تخاطبه، وتحيي ذلك الشعور البائد في القرون الماضية. من أهم خطوات الإصلاحات الاقتصادية الضرورية هنا، وباختصار؛ فرض الضرائب التصاعدية على الأغنياء أو أصحاب الدخول المرتفعة (ص221)، وتوفير السكن بأسعار ليست باهظة أو مبالغًا فيها (ص224)، والاهتمام بالإنتاجية في العمل التي من الممكن أن تسهم في تقليل اللامساواة الحادة والمفرطة في المجتمعات؛ إذ إن هذه الإصلاحات من الممكن أن تشعر المواطن بالأمان المعيشي من جهة، وأن تسهم أيضًا في الثقة بالليبرالية الديمقراطية وتلك الوعود التي قطعها مناصروها على أنفسهم في أوقات الانتخابات.
تجديد الإيمان المدني:

مع صعود التقنية الرقمية تعزز النمو الاقتصادي في الكثير من البلدان، كما أنها عززت التواصل بين البشر. في المقابل فإن هذه التقنية أججت خطابات الكراهية، ونظرية المؤامرة. فهي بهذه الطريقة قد نقلت طرق التعامل من شخص إلى شخص لتحدث نقلة هائلة ليصبح التواصل من شخص إلى الكثير من الأشخاص في وقتٍ واحد؛ إذ إنه أصبح من الصعب فهم السياسة ودعوات السياسيين – مثلا – دون فهم التحولات التي قامت بها الإنترنت، والتي عن طريقها أججت هذه الخطابات، كما لا يمكن غض النظر عن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في تآكل تأثير السياسيين، الأمر الذي يجعل من الضروري إعادة بناء الثقة في السياسة والسياسيين من جديد (ص239)، لتخفيف حدة خطابات نظرية المؤامرة من جهة، ولتخفيف بروز الكثير من الأفكار الشعبوية المناصرة للديكتاتورية.
من الجهة الأخرى، فإن تعزيز المواطنة، والإحساس بالانتماء للوطن،
والابتعاد عن التقسيمات الاجتماعية التي تفرق بين الأفراد من شأنها أن تعزز قيم
الديمقراطية الليبرالية من جهة، وأن تعيد الشعور بالقيمة الشخصية للأفراد في ظل
هذه التغيرات العميقة.
[1]) انظر ترجمتنا لمقال الفيلسوف الاسباني: سانتياغو زبالا على مجلة الفلق.http://www.alfalq.com/?p=9654#_ftn1 :