القارئ – قصّة قصيرة لبيتر بِـكسـل

كتب بواسطة أحمد الزناتي

هناك رجلٌ يكرهني في الحانّة الشعبية التي أتردّدُ إليها. وطالما أخبرني بكرهه. الحقيقة أنه لم يكن يكرهني لشخصي، بل لمواقفي السياسية. فأنا كاتب، أي يساريّ، بينما يتفاخر هو  بانتمائه إلى الجناح اليميني. كما أنه يتصرف كرجلٍ يميني أيضًا. لا يتوقّف عن ترديد كلمة “يا جزمجي !” مع ذلك كان يتحدّث إليّ دومًا بنبرةٍ ودودة، حينما نكون وحدنا في الحانة. وهو مندوب مبيعات ناجح. في إحدى اليالي اعترف لي أنه كان يعاني من صعوبات ذهنية في التعلّم، واضطرّ  للذهاب إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصّة. لم يكن مزهوًا بنفسه وهو يخبرني بذلك، بل كان حزينًا. اعترتني دهشة بالغة لأنني أدرك مدى أهمية ذلك الاعتراف بالنسبة إليه. فكّرت أنه ربما يتذكّر اعترافه في وقتٍ لاحق، وينقلب عليَّ، تمثّل عداوته خطرًا. السؤال: لماذا باح لي بسرّه إن كان يكرهني، ربما توقع أنا أقابل اعترافه بالتهذّب، بما أنني كاتب. تطلّ من عينيه مسحة احترام. وربما يعوّل الرجل كثيرًا على تعاطفي مع حالته. لا أنكر أنني رجلٌ  متعاطفٌ ورومانسي، فلقد قرأتُ أوليفر تويست، وكتاب الأطفال “هايدي” ليوهانا سبيري، وكتاب الأطفال “ريد زورا: للكاتب كورت هيلد.

تلبّستني حالة رؤية الأشياء على ضوء الرومانسية. ما فاجأني حقًا أنّ يمينيًا متطرفًا مثله يعرف هذه الأعمال الأدبية. من أين له أن يعرف أنّ القارئ رومانسيّ بطبعه؟ أنا واثق من أنه لا يقرأ. فمن أين خطرت له هذه الفكرة عن رومانسية القارئ؟ ربما يظنّ أنّ من يقرأ رجلٌ ضعيف.

***

ولكن؟ ما المقصود عمومًا بكلمة “قارئ”؟ من يعكفون على حلّ الكلمات المتقاطعة يعرفون الإجابة. فإذا كان مفتاح العمود رقم 24 كلمة يشير إلى كلمة “مشتري جرائد”، فالحلّ الصحيح هو كلمة “قارئ”.

“عزيزي أرجو.. كل ما تحتاجه لتكون قارئًا هو أن تشتري جريدة”.

وفقًا لكلام مؤسسي جائزة “كاتب المدينة“، فمن المفترض في الفائز  بالجائزة أن يقرّب الأدب إلى الناس، وأن يصنع منهم جمهورًا قارئًا. لكني لم أكن أعرف كيف أؤدي تلك المهمة؟ هل أذهب إلى إحدى الحانات لأجلس هناك، مُحيطًا نفسي بمجموعة من الجرائد والكتب؟ الغريب حقًا هو ما كان يحدث باستمرار في أثناء وجودي داخل الحانة. إذ كان يقترب الناس مني، وهم يحملون كتبًا، فيضعونها أمامي، راجيين مني قراءتها، وهكذا تتزايد أكوام الكتب فوق مكتبي.                

راح “يورجين”، مثلًا، يحدثني عن أحد الكتب لمدة أسابيع طويلة، واصفًا إياه بأنه كتاب قيّم وقديم، وهو كتاب عن الألمان في البرازيل: كتاب واقعي، مطبوع ومغلفّ بغلافّ من الورق المقوّى، وعليه إهداء من  المؤلف إلى زوجته، ويتحتّم عليّ قراءته!

 المهمّ، وضع “يورجين” الكتاب أمام أنفي، وها هو الكتاب فوق مكتبي؛ اسم الكتاب: (فردوس فرانتس دونات وجحيمه: مغامرات مدهشة لمحظوظ ألماني بين أحراش الغابات البرازيلية، ومع المـُنـقّـبـيـن عن الماس، ومع الهنود والمستعمرين والمجرمين، مُهدى إلى وزوجتي العزيزة إيميلي). الكتاب مزوّد بصورة للمؤلف وخريطة، وتنتهي مقدّمته بتحية من مواطن ألماني مخلص إلى وطنه الأمّ سنة 1926!

لو كان لي أن أقول شيئًا، لقلتُ إن الكتاب قد وقع في يد “يورجين” بمحض الصدفة، وربما ورِثه ضمن أشياء غريبة أخرى. هل قرأ يورجين الكتاب؟ ربما. وحتى لو كان قد قرأه بالفعل، فالمؤكد أنه قرأه قبل مدة طويلة. أخمّن أنه الكتاب الوحيد الذي يملكه.

قرأتُ الكتاب. وهو كتاب بشع، لكني لم أخبِره بذلك بالطبع.

لماذا ينبغي لي أن أقترح على يورجين قراءة “آلام الفتى فيرتر لجوته” مثلًا، واستبدال ما يقرأه بكتابٍ آخر؟      كل ما في الأمر أنّ “يورجين” أراد مشاركة هذا الكتاب مع قارئ آخر، كي يتخلّص من شعوره بالقلق أنه الوحيد الذي قرأ هذا الكتاب، بعدما سمع عن كاتب في المدنية، فراودته فكرة رومانسية أن كاتبًا حاصلًا على جائزة “كاتب المدينة” قد يكون قارئًا محتملًا، مشاركًا، وموثوقًا به، أو ربما أحد أضلاع مؤامرة لقراءة هذا الكتاب!

***

الكاتب السويسري  المعاصر بيتر  بِكسل واحدٌ من أغرب الكُتّاب الذين يُمكن أن تقرأ لهم في حياتكَ. فهو يكتب نصوصًا نثرية قصيرة، عارية من كل مظاهر البلاغة والزخرفة اللغوية، نصوص خفيفة الدمّ، أقرب إلى قصص الأطفال أو الحكايات المدرسية، منها إلى الأدب الرفيع. بسيطة المعنى والمبنى، لا تتجاوز القصّة الواحدة صفحة أو اثنتيْن، لكنها تُجبِر قارئها في الوقت نفسه على إعادة قراءتها مرّات، فيكتشف معانيَ ثريّة في النهاية. يعُدّ بِكسل نفسه امتدادًا لسلفه وأبيه الروحي الكاتب السويسري الكبير روبرت فالزر.

ولِد بيتر  بِكسل في 24 مارس 1935 في مدينة لوتسيرن السويسرية، وبدأ حياته الإبداعية بكتابة القصائد، وتلاها بتأليف عددٍ من المجموعات القصصية وحكايات الأطفال، ونال عددًا من الجوائز الأدبية المرموقة داخل سويسرا وخارجها. اتخذ بِكسل قبل سنوات قليلة قراراً نهائيًا بالتوقّف عن الكتابةـ والتفرّغ للطبخ والمشيّ وإعادة قراءة أعمالٍ بعينها، من بينها أعمال جوتِه وجان بول.

أدب السادس بعد المئة

عن الكاتب

أحمد الزناتي