
شهدت غالبية دول العالم العربي، في تاريخها الحديث والمعاصر، عددًا غير قليل من الثورات، بعضها أخفق ولم يستطع بلوغ الهدف الرئيس في تغيير وضع سياسي قائم، وعدد قليل منها حقق هذا الهدف، وأحدث تغييرا في شكل الوضع القائم، لكن جوهر الدولة وآلية عملها بعد حالة التغيير بقي على حاله، لتبدأ الفكرة الثورية بالانحراف عن مسارها على نحو تدريجي، لتغدو في النهاية أنموذجًا جديدًا عن الوضع السابق قبل الثورة، إن لم يكن أكثر سوءا. وبذا تبقى حالة عدم الرضى الشعبي على حالها، وتبقى الشكوى من غيبة للعدالة والنزاهة والاستهانة بكل ما له صلة من حقوق مدنية، وتجاوزات عميقة على المبادئ الأساسية المرتبطة بفكرة المواطنة، وتحقيق معنى النهضة بكافة صورها، حالة قائمة على حالها. مع ضرورة التفريق والانتباه إلى أن معظم هذه الحركات التي تمكنت من الوصول إلى السلطة لا تنطبق عليها بالأساس المعايير الفنية لمعنى ” الثورة “، وأنها في الحقيقة انقلابات عسكرية أضفى عليها العقل العربي بمجازيته المعهودة الصفة الثورية.
ووفقا لعمومية هذه النتائج فإن غالبية الأبحاث المتخصصة التي تناولت بالتحليل الحركات الثورية في التاريخ السياسي للعالم العربي، تخلص إلى توصيفها باعتبارها حركات ناقصة أو مشوهة أو فاشلة. كما أثبتت الوقائع أن محاولة تجديد الثورة وبعث الروح فيها من جديد، هو عمل لا طائل منه، فاكتمال اللحظة الملائمة لنجاح ثورة ما، فرصة لا يهبها السياق التاريخي للأحداث كل لحظة. إنها أشبه ما تكون بالثمرة بعد تمام نضجها، إن لم تمتد إليها يد لقطفها في موسمها، فإنها تذبل وتسقط مختلطة بالوحل، ليغدو انتظار موسم جديد وترقبه هو البديل الوحيد لقطف الجنى الثوري. وبناء على هذه المعطيات الأولية فإن من حق المرء أن يتساءل عن سبب حالة الإخفاق أو معاندة الحالة الثورية في الواقع العربي. وهي حالة يمكن تلمس أسبابها في بعدين اثنين: داخلي وخارجي.
والمقصود بالبعد الداخلي، أن المعنى الأعمق لمفهوم الثورة، بدلالة أن تتحقق في نسبة غير قليلة من المؤثرين في أوساطهم وبيئتهم المحلية، من نخب سياسية وثقافية، صفة الصدقية بإحداث قطيعة مع واقع قائم وتغييره بآخر أفضل من هذا الأول، بكافة الأوجه وفي مختلف المجالات؛ هذا المعنى أثبت عدد غير قليل من التجارب التاريخية والحالية غيابه بنسبة غير قليلة. والأمر الذي يعزز من فرص هذه الغيبة أن المناخ الثقافي العام في العالم العربي ما زال في حالة تعارض، وبدرجة غير قليلة، مع جوهر الفكرة الثورية. فالمناداة بمبادئ مثل الديمقراطية والعدالة والحرية، والالتزام في مرحلة لاحقة بتطبيقها، تستدعي بالضرورة توفّر بيئة اجتماعية حاضنة، مؤمنة على نحو عملي بهذه القيم والمبادئ، وراغبة بصدق في ترجمتها من صيغتها النظرية لتغدو واقعا عمليا. فكما لا تستقيم فكرة المناداة بقيم الديمقراطية، عندما يكون مبعثها عقل يجنح بطبيعته إلى الاستبداد، أو الإعلان عن مواجهة مظاهر فساد قائم، والنفس المعارضة تكتنز بداخلها نية مضمرة في المضي لاحقا بذات المسار الذي أعلنت ثورتها عليه، فإنه والحالة هذه لا يستقيم العمل الثوري ولن يبلغ مراده طالما لم يبلغ بعد مرحلة النضج والاكتمال. وبذا تكون القاعدة الذهبية في إحداث تغيير جوهري في بنية وضع حالي متهالك وهش، وجود حالة منسجمة ومتوافقة بين الغاية المعلنة، والوسائل التي من شأنها بلوغ الغاية الإنسانية النبيلة. وهذه قاعدة اختصرتها الآية الكريمة:” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وفيما يبدو فإن حالة التغيير العميقة هذه لم تبلغها الشعوب العربية إلى الآن، التي لم تستطع حتى هذه اللحظة تأسيس قاعدة قيمية واعية. وكان فيلسوف الثورة، المفكر الجزائري مالك بن نبي، قد عبر عن هذا المعنى منذ عقود طويلة، عندما صاغ هذه الحالة العربية بكثافة ودقة قائلا:” إن ثورة ما، لن تستطيع تغيير إنسان، إذا لم يكن لها قاعدة أخلاقية قوية.”
أما البعد الخارجي فبالإمكان تلمس أبعاده من خلال تتبع مظاهر اهتمام قوى عالمية لأي نشاط أو تغيير تشهده المنطقة، صغر هذا النشاط أو كبر، سياسيا كان أو ثقافيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا، فكيف إذا كان النشاط بوزن ثورة. والتتبع الدقيق لكل نشاط عالمي تشهده المنطقة، يخلص إلى أن الهدف منه ديمومة صيغة التعامل مع القوى الغربية على النحو الذي كانت عليه لأكثر من مائة وخمسين عاما، وهدفها الأساسي، إبقاء المنطقة في حالة تبعية كاملة، وارتهان مصيرها ومستقبلها في حلة تابعة. والبعد الأخطر في هذا الجانب، أن مخططات هذه القوى ومشاريعها تكون قابلة للتغيير والتبديل وفقا لما يجري على الأرض العربية. وسواء كان هذا التفسير يتوافق مع نظرية المؤامرة أم لا يتفق، إلا أنه في نهاية المطاف واقع سياسي، وحقائق بات الجميع يدركها بقوة.
من أهم الحركات الثورية التي شهدتها الساحة العربية في تاريخها الحديث ” الثورة العشرينية” في العراق، التي استمرت خمسة أشهر ” مايو – أكتوبر 1920 “. وموطن الأهمية في هذه الثورة، أنها الواقعة الأكثر وضوحا في تجسيد الحس الوطني وتناميه عند شعب تجاوز كافة تناقضاته الإثنية ” العرقية والمذهبية ” وعلى نحو واسع في سبيل هدف واحد هو التحرر من الاحتلال البريطاني الذي مضى على وجوده الاستعماري ثلاث سنوات، ومن ثم المضي في بناء مجتمع مدني حديث، يرتكز على مبدأ المواطنة الحرة، والتعامل مع هذه المطالب باعتبارها حقائق سياسية ممكنة وقابلة للتطبيق.
هذه الثورة كانت عاملا جوهريا لكي تراجع بريطانيا، باعتبارها أكبر قوة استعمارية في العالم آنذاك، عددا من أوجه سياستها الإمبريالية في السيطرة على المنطقة بالاستناد إلى قاعدة ” فرق… تسد “. ومن أبرز علامات تلمسها مدى الضرر الذي من الممكن أن تحدثه هذه الثورة في مستقبل علاقتها بالمنطقة بأسرها، في حال كتب لهذه الحركة الواعية النجاح، ومن ثم تقديمها لسائر دول الإقليم باعتبارها نموذجًا ناجحًا وقابلًا للتطبيق، ويعبر عن رغبة الناس الحقيقية، من أهم هذه الدلالات، مغادرة وزير المستعمرات البريطاني، ونستون تشرشل، لندن والتوجه إلى القاهرة حيث اجتمع لأيام متتالية بأربعين شخصية من كبار المستشارين السياسيين والقادة العسكريين والأمنيين الميدانيين في الحكومة البريطانية. وكان أهم قرار اتخذه مؤتمر القاهرة آنذاك، بهدف احتواء المطالب الشعبية الواعية، وهو القرار الذي ما زال معتمدا إلى اليوم من كافة قوى النظام العالمي الجديد، هو استبدال نمط الاستعمار الغربي الامبريالي للمنطقة بصورته النمطية التقليدية من خلال مباشرة الاستعمار بشكل مباشر، بنمط استعماري جديد قائم على السيطرة غير المباشرة، من خلال اعتماد أنظمة حكم محلية باعتبارها وكيلة وركائز محلية تعمل بالنيابة عن القوى الغربية وتضمن مصالح هذه الأخيرة.
بتقدير متواضع، فإن عموم المنطقة العربية لم تشهد منذ هذه اللحظة، إلى يومنا هذا، ونحن نتحدث هنا عن مائة عام تقريبا، حركة ثورية توازي بأهميتها وما تختزنه من دلالات عميقة، مثل ثورة العشرين في العراق. هذه الغيبة لأمثولة ثورية كان من نتائجها أن وصلت المنطقة العربية إلى ما وصلت إليه اليوم من الضعف، وفقدان كل مظهر من مظاهر السيادة الوطنية، التي لم يبق منها إلا بعض المظاهر الزائفة التي يتمسك بها الوضع السياسي القائم، ويحرص على تقديمها باعتبارها جوهر الشرعية التي يستند إليها.
إن هذا الوضع المأساوي والنتيجة المحزنة التي وصلت إليها المنطقة، يفترض أن ينبثق عنها أمر له شأن على المستوى الإقليمي والعالمي، ليتشكل من صميم النتيجة المأساوية، سبب ودافع جماهيري لإحداث تغيير عميق في مجمل تفاصيل واقع المنطقة العربية عموما. بهذا الاستخلاص وهذه النظرة لمقبل ثوري في العشرينية المقبلة، فإن المنطقة ستكون على موعد مع ثورة لا تقل شأنا مع الثورات الكونية الثلاث التي يجمع المؤرخون والباحثون أنها الوحيدة التي قدمت نظرة أيديولوجية جديدة على المستوى العالمي، وحديثهم هنا يكون مقتصرا على: الثورة الفرنسية، والثورة البلشفية، والثورة الإيرانية.