
“ميا التي استغرقت في ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة استغرقت في العشق”، تضع جوخة الحارثي العبارة السابقة في بداية روايتها؛ فما إن يفتح القارئ الصفحة الأولى من السرد حتى تقع عينه وقلبه عليها؛ إنها تعبّر عن حدث ظاهر معتاد في المجتمع، ولكنّ الكاتبة هي وحدها التي وضعت “ميا” أمام ماكينة الخياطة، وأمام رغبتها وعشقها؛ وهي التي صنعت مادة الترقُّب في القارئ لما يؤول إليه من نتائج في حياة مفعمة بالحركة ولكنها على الورق، وبين كائنات حية متحركة ولكنها كرتونية تسكن عمليات “الحكي” والتلفظ.
إن السرد هو رصدٌ وتحنيطٌ لتلك الحركة التي لا وجود لها في الواقع، ولكنه تحنيط مختلف؛ فهو نابض في واقع الرواية التي هي حركة الإنسان والأشياء داخل الزمن؛ بحيث يُفضي إليها الساردُ دونما رقيب من أحد؛ فهي تصوير لحالة الإنسان في كينونته الخاصة داخل الزمن وفي عمق الاجتماع والفردانية. إن الرواية – كما يدعي أمبرتو إيكو- واقعة كوسمولوجية؛ فـ”رواية قصة ما تفترض بناء عالم، ويستحب أن يكون هذا العالم كثيفا في أبسط جزئياته. فإذا بنيتَ نهرًا بضفتين ووضعت على الضفة اليسرى صيادًا، وأسندت إلى هذا الصياد صفة الغضوب، وجعلت له صحيفة سوابق، حينها بإمكاني أن أبدأ الكتابة، أي أترجم إلى كلمات ما يستحيل أن يحدث” (إيكو، 1985: 33)، فالحكاية تبدأ من “ميا” ومن استغراقها في الخياطة والعشق.
يضع بول ريكور في مسألة “الحبكة التاريخية” مقابل “الحبكة الروائية” فارقا يراه مهما لتمييز الحبكتين يتعلق هذا الفارق بالمرجعية في التاريخ إلى الواقع؛ فهو يدّعي أنه يقول الحقيقة أو ينقل الواقع دائما؛ بينما يعترفُ الروائي بأنه يبني القصة من خياله. على أنني أجد الرواية لا تستطيع بناء الأحداث خارج الحياة الواقعية ذاتها؛ لذلك تتعرض الرواية اليوم في بعض البيئات الاجتماعية للمصادرة، وأرى أن السبب يكمن في أن التاريخ هو تاريخ المذكور الذي يريد المؤرخ استنطاقه؛ مما يعني أن المنسي، والمهمل لا يمكن وصفه والبحث عن حقيقته؛ لذلك فإن الكشف الحقيقي عن ذلك يمكن أن يكون في غايات المؤرخ (بغورة، 2019)؛ ومن ثَمَّ يبرز دور الرواية لاستدعاء “المهمل” إلى دائرة الجدل والتداول؛ وبهذا فإن الرواية لا يمكن أن تخون “الحياة” فتقدم صورة مشوهة لها بقدر ما هي في حدود الممكن، وهي ليست وعظا، وإنما هزة عنيفة عندما تفارق الذاتُ ذاتها لتعيش بعلوها في الزمن الاستثنائي الذي يخلقه السرد خلقا بعد خلق، والقارئ الذي يبحث عن الفضيلة في الرواية أو الموعظة الحسنة، أو الصورة الخارقة أو المثالية لمجتمعه كالذي يعيش الوهمَ عندما يعتقد أن المجتمع الإنساني مثالي؛ فيجعل ذلك افتراضا أو معيارا لقراءة الأعمال الرواية، وهو هنا لا يدرك أن السرد حالة سوية وحقيقية ومتصالحة مع الواقع بعيدة عن زيف التاريخ وأكاذيبه، وأن الاعتقاد الأول في مثالية المجتمع وتعاليه حالة انفصام الإنسان عن واقعه، وأكذوبة ابتدعها ليخفي آثامه.
إن الكاتب يمارس “السيرورة الإبداعية” التي لا يدركها سواه إذ يبني عوالم في الخفاء لا يرى القارئ منها إلا المتحقق في الضمني والصريح داخل الشكل الروائي، فالروايات لا تكتفي بوصف العالم أو بنائه؛ لأن النشاط السردي تصريفٌ مشخّص لكميات زمنية لا يمكن إدراكها إلا في الحبكة، وهي تجاهد لكي تجعل من الفعل السردي رؤية شاملة تستوعب داخلها مناطق تتجاوز الموصوف الحدثي المباشر من خلال فعل الشخصيات وقولها وردود أفعالها (بنكراد، 2009)؛ فالقارئ أمام قطعة سينمائية أو قطاع في الحياة لا تتحرك إلا بتأويله الشخصي وتفاعله معها؛ وفعل القراءة وحده الكاشف لسلسلة من التأويلات والتفاعل لا تتوقف، ولكنه كشف داخل حدود النص وما كان خارجه يسكن في السيرورة الإبداعية عند الكاتب؛ وذلك يدفعنا إلى طرح سؤال مؤداه: لماذا يعدُّ فوز جوخة الحارثي بروايتها “سيدات القمر” حدثا مهما في المشهد الثقافي العماني والسردي؟
إن السؤال السابق يدفعني إلى وضع افتراض أجده مهما، فلو أن رواية “سيدات القمر” لجوخة الحارثي كانت طبعتها الأولى في العام (2019) قبيل معرض مسقط الدولي للكتاب، ما المصير الذي كان ينتظر الرواية وهي لا تخرج عن العوالم ذاتها التي تناولتها الروايات الممنوعة في المعرض السابق والذي قبله؟
إن رواية “سيدات القمر” أعتقد أنها أحرجت عوالم التعالي المتمثلة في موقف المؤسسة الرسمية التي تمارس أشكال منع الخطابات؛ فهي قدمت نفسها خارج دائرة السيطرة لتدفع بالموقف السابق إلى التناقض، وكأنها تدعو أخواتها داخل المشهد الثقافي، ولم يعد في مقدور التيارات الدينية وغير الدينية ممارسة المنع الرسمي على الرغم من اتفاق المضامين الجزئية داخل السرد بغيرها وقد خلت من قبلهم المَثُلات؛ فهي تنتمي إلى ذات الحركة السردية الممنوعة، وهي تستدعي خلافا لعمليات “التأريخ” المؤسساتي المهملَ والمنسيَّ إلى دائرة التداول والجدل، بل تتحول الرواية إلى حدث يقع داخل أهواء الرغبة التي يتوسلها المسؤول للمؤسسة الإعلامية الذي يبرر عمليات المنع للفكر والروايات؛ بحيث أصبح شريكا في الحدث يتجاهل كلّ أصوات المصادرة والمنع التي تريد من الرواية أن تكون مشهدا وعظيا أو قطعة تاريخية مصقولة لما يراد استحضاره مقابل ما يراد طمسه ومصادرته. ولعل القضية يمكن اختزالها في افتراض آخر نضعه أمام المؤسسة الرسمية: ماذا لو أن رواية عمانية أخرى أو دراسة علمية قد حظيت بجائزة دولية وهي ضمن الأعمال الممنوعة من التداول في المشهد الثقافي العماني؟
نلاحظ أنه بعد حدث الفوز بالجائزة الدولية لسيدات القمر ظهر في المشهد صوتان: الأول مرتبط بأهواء النفس الإنسانية بين الأنداد كالحسد والغيرة في الاشتغالات ذاتها الإبداعية والنقدية على صعيد الثقافة، وأعتقد أنها ليست بذات أهمية كبيرة؛ لأنها تنتهي وتضمحل تلقائيا، بينما يرتبط الصوت الآخر بطبيعة المشهد الاجتماعي والثقافي العماني، وهو صوت ينمُّ عن تشظّي السلطة وظهور المؤسسات الوسيطة لمنع الخطابات وإعادة إنتاجها وتوزيعها بطريقة تضمن لهذا الصوت تحقيق غاياته ورتابته وضمان متابعيه، ولكنّه لا يستطيع هذه المرة مقاومة الواقع بسبب تجاوز الرواية حاجز المنع؛ فيستعيض عن المصادرة بالتشويه الذي يشي بغياب الفكر الثقافي عن طبيعة السرديات مما يؤدي إلى ظهور اللاوعي الجمعي الذي يتوسّل الصورة الخيالية عن المجتمع العماني، ولكن عمليات التشوية لا تأخذ “الخطاب السردي” بشموليته في الرواية بقدر ما تصطاد حالات سردية جزئية تعتمد فيها على السطح، وفي الغالب يبدو أن الاصطياد في خضم اللغة السردية لا يبعد عن طبيعة التفكير الديني الذي يضع النتيجة سابقا، ويصادر عليها، ثم ما يفتأ يبحث عن الأدلة المادية التي يعتقد أنها تؤيد صوته الآمر الناهي لمكافحة كل ما من شأنه زعزعة الإيمان والفضائل وفقا لفهومه وقصدياته الدينية.
يمتلك القارئ مهما كان نوعه وتصنيفاته وغاياته الحقَّ الكامل في التأويل، ولذلك فعندما تحدث أمبرتو إيكو عن رواياته في “آليات الكتابة السردية” فإنه تجاوز المضامين والتأويل حتى لا ينتهك حق القارئ وحريته في التفاعل مع النصّ؛ لأن اكتشاف المضامين والغايات الأيديولوجية والأخلاقية هي مَهمَّة القراءة، وليست مهمة المؤلف، والنصُّ أوسع من قصديات المؤلف، واللغة أكثر انشطارا من أفكار المؤلف في لحظة الكتابة (بنكراد، 2009)؛ على أن التأويل المحصور في جزئيات السرد بوصفها مقاطع إباحية لا ينفك عن حالة المكبوت في خيال القارئ وعقله؛ مما يعطّل فعل السرد وحركته في “سيدات القمر” لا سيما وأن المعنى يبدأ من العتبات، ولكنه لا يكتفي بالمشاهد مفصولة عن بعضها؛ وإذا كانت الرواية معرفة؛ فهي لا يمكن أن توضع مباشرة على لسان الشخصيات المتشعبة والمعقدة والمتداخلة في سيدات القمر أو غيرها، ولكنها “رؤية تخصُّ نسج العلاقات الإنسانية والأشياء وتخص صياغة الوضعيات ونمط تصورها. إنها بعبارة أخرى، تجسيد فضائي وزماني للمعنى. فالمعنى لا يوضع عاريا على شفاه الكائنات التخييلية، ولكنه يولد من خلال ما يؤثث الكون الذي تتحرك داخله هذه الكائنات” (بنكراد، 2009: 14)، وهذا ما يجعلنا نؤكد على حالة الافتراق بين معرفة وأخرى؛ فلن يجد التفكير الديني أو الشعبوي في الرواية ما يجده في كتب الفقه، والأخلاق، والمواعظ من أوامرَ أو نواهٍ، فالمعرفة في هذه الخطابات – اعتمادا على رولان بارت – ملفوظ وفي الرواية “تلفظ”؛ فإذا كان الملفوظ إنتاجا فإن التلفظ طريقة وتصور في الإنتاج ذاته؛ لأنه انفعال إنساني أو إمساك بأحوال الذات وابتهاجها بنفسها وما يحيط بها وكأنه في احتفال دائم (بنكراد، 2009).
للقارئ – انطلاقا من ذلك كله – أن يلاحظ حالة التعقّد في المعنى من العتبات الأولى لنصّ “سيدات القمر” ففي العلامة اللسانية على سطح الغلاف يظهر القمر كائنا أسطوريا يمثل بحركته حركة السرد في آفاق التلفظ وقصدياته، وفي صورة علامة لسانية وليست أيقونية؛ فالقمر في تاريخه وكونه يجسد الأسطورة التي هي نتاج الانفعال الإنساني بجوهر سماوي يصعب إدراكه في وجوده اللا- مادي؛ بينما يتجسّد “القمر” على المسار السردي بوصفه حركة التاريخ في زمن الرواية وعلاقاتها؛ لا سيما وأن القمر جزء من “السيدات” بما هو غياب لمجد الألوهة الأنثوية في صراعها مع الذكورة ورغبتها فيها. إن هذا التأويل (ربما) لم يخطر ضمن قصديات جوخة الحارثي عندما وضعت العبارة الأولى؛ إذ تركت “ميا” غارقة في ماكينة الخياطة ذات اللون الأسود وعلى أرجائها الفراشة بطابعها الرمزي، وهي تعيش عشقها الأبدي، في زمن يعدّ حب الأنثى سرا من أسرارها وعورة تماما كجسدها الذي يثير كل تناقضات الذكورة، ولكنه يقع ضمن التأويلات الممكنة.
إن الكاتب يتخلى عن “النص” ليقدمه قربانا لانتهاكات القراءة، وهو إذ هو كذلك لا يفنى ولا يضمحل؛ وإذ تتمازج الأيقونات على غلاف الرواية مع العلامات اللسانية لتكوين محفل غارق في التاريخ والأسطورة يتبدّى الأفق الأزرق وهو يحمل العلامة اللسانية (سيدات القمر) ليخفي رأس المرأة وتفكيرها الذي يمكن أن ينضم إلى سلسلة الأصناف المحرمة في المجتمع الإنساني والعربي على وجه خاص؛ لا سيما وأن العقل منبعُ الحرية والشقاء بالمعنى الكانطي في “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق”، إن الأيقونة البصرية للمرأة وهي تقف على لوحة الغلاف تتقابل مع العلامة اللسانية مشكلة ثنائية الحضور والغياب؛ ففي حضور اسم (جوخة الحارثي) غياب لذاتها الإنساني وجسدها وتجسيد لعقلها الغائب في المرأة (الأيقونة البصرية) التي تستعيض عن هذا الغياب بالمستقبل والغموض والصمت والماضي في صورة المفاتيح التي تمسك بها المرأة على غلاف الرواية التي لا يمكن للقارئ أن يكتشف سرها إلا من خلال الحركة السردية وطبيعتها ودلالاتها السطحية والعميقة؛ لذلك يأتي الغلاف في النظرية السيميائية ضمن معمار النص في انتظام للعلامات البصرية واللسانية.
إن الغلاف بوصفه لوحة Tableau يعد مدخلا إلى التأويلات الممكنة، وهو بقدر غموضه وتمازج كائناته لا يصادر تأويلا، ويفرض آخر، ولكنه يبني من ثنائية البقاء والاضمحلال الممكنَ السرديَّ؛ فإذا كانت شخصيات الرواية بما هي كائنات اضمحلت في الزمن وبقيت في الذاكرة؛ فإن الكاتبة تقوم ببعث هذه الأسماء ونفخ الروح فيها وفي علاقات معقدة، ولكن في مسرح آخر يختلف عن مسرح الحياة الواقعية داخل الكون السردي، في ظل إكراهات “المعيش اليومي” في حركة السرد أو فعل الحَكي؛ فذلكم العشق المستغرق في الذات الذي يتجسّد في طقوس الصلاة والدعاء لا يمكن له أن يكتمل إلا في الغُلالات الغامضة كغموض الحياة ذاتها؛ فالرغبة في الوصول إلى (علي بن خلف) تتحول إلى علاقة تقليدية عائقة مع (ولد التاجر سليمان)؛ إن الكاتبة هنا هي وحدها تبني هذه العلاقات المعقدة، وتكشف الستار عن كل ما من شأنه أن يختفي وراء كواليس الحياة اليومية الواقعية؛ لتضع “المرأةَ” في المعاناة الحقيقية التي تخلق معاناتها خلقا بعد خلق؛ فالعشق الذي تم وأدُه يعيش في أوصالها وفي تفاصيلها وفي لحظات ولادتها من زوج آخر حينما لم تستطع البوح بحبها الأبدي فألقت بشيء من روح ذلك العشق ومتعلقاتها على طفلتها فأسمته (لندن)؛ إن المرأة هنا أيقونة تتجسّد في بكائها، وعشقها ورفضها وعطائها.
إن الزمن الذي تكتب له جوخة الحارثي يفرض سياقاته لبناء العلاقات والأدوار لكائنات الرواية لتؤدي أدوارها في الكون السردي؛ لقد أوحت الرواية بزمنها وتحولاته منذ الحدث الأول واستغراق (ميا) في الخياطة والعشق، ولعلّ ما يميز الكتابة السردية هي محاولة اكتشاف الأدوار التي يمارسها الممثلون، والتي تكشف عن براعة السرد وقدرته على بناء المعنى من خلالهم؛ إذ يستطيع السردُ وحده تعريةَ الحياة الاجتماعية من زيفها وإعادتها إلى الدائرة الإنسانية المعتادة والمنسية حينما يزاحمها المذكور التاريخي المنتقى في المتخيلات الجمعية، حيث العواطف والأهواء والآلام تظهر في السرد؛ فالإنسان هو الإنسان مهما تبدل الزمن لا يتبدل في ألمه وقلقه واغترابه.

تكشف سيدات القمر عن مجموعة من العلاقات المتنوعة كالعلاقات المحرّمة الحميمة خارج حدود الزواج بين (ظريفة) و(التاجر سليمان)، وبين (عزان) و(نجية القمر) وما كان للمعرفة التاريخية أن تكشفها مباشرة؛ ولكنّ السرد يبنيها في محفل إنساني حيّ لا ينتهي، وفي الجانب الآخر تأتي علاقة الزواج الباردة كالعلاقة بين (أم ميا) التي فقدت العلاقة الحميمة مع زوجها وأعلنت الانفصال الجسدي، بعد أن اكتشفت علاقة زوجها الحميمة مع (نجية القمر)؛ إن الرواية هنا تحكي، ولكنّها في صمتها تريد أن تقول شيئا آخر؛ لا تستطيع قوله إلا في حالات الانفراد مع قارئ في مجتمع القراءة؛ بينما تأتي علاقة أخرى مقدسة تظهر فيها الفتاة صديقة قريبة لوالدها تمثلت في علاقة (خولة) بأبيها عندما رفضت (ابن عيسى المهاجر)، كما تحكي (لندن) لأبيها عن تصرفات (أحمد) ليأتي الأب في صورة المنقذ لفتاته، أو تأتي العلاقة الإنسانية بين (ظريفة) وابن التاجر سليمان. إن اكتشاف خارطة الشخصيات وأدوارها وعلاقاتها يميز الكون السردي عند جوخة في سيدات القمر (يتبع..)