رسائل إزرا باوند إلى جيمس جويس

كتب بواسطة أحمد الزناتي

في الثاني من فبراير من كل عام يحتفل الأدب العالمي بذكرى ميلاد الروائي الآيرلندي الأشهر جيمس جويس (2 فبراير 1882 – 13 يناير 1941)، الكاتب الذي قال إنّ أعماله ستشغل الدنيا قرونًا قادمة، وقد صحّ ما قال.
في سنة 1970 صدر كتابٌ مهمّ تناول بدايات جيمس جويس الأدبية، وطرفًا من رسائله المتبادلة مع الشاعر الكبير إزرا باوند، الذي مدّ له يد العون لوصول أعماله إلى الجمهور. نُشر الكتاب للمرّة الأولى في ديسمبر 1970، وصدرتْ طبعته الأولى عن دار نشر New Directions Publishing Corporation تحت عنوان (باوند/جويس: رسائل إزرا باوند إلى جويس)، متضمِنةً مجموعة من المقالات النقدية والمراجعات التي حرّرها إزرا باوند حول أعمال جيمس جويس، ثمّ توالت طبعات الكتاب في السنوات اللاحقة، لتشمل تنقيحات ومقدمات جديدة بمعرفة دار النشر، لكن الكتاب – بحسب المقدمة- لم يشمل الرسائل كافة نظرًا لفقدان جانبٍ كبير منها، وعلى الأخص الرسائل الموجّهة من جويس إلى باوند.
بدأت الحكاية في أحد أيام شتاء سنة 1913، حيث كان الشاعر الأمريكي الشاب إزرا باوند جالسًا إلى جوار أستاذه الشاعر البريطاني الكبير وليام بتلر ييتس يعملان على تحرير ومراجعة مختارات شعرية (أنطولوجيا) لمجموعة من الشعراء الجُدد.
سأل إيزرا باوند أستاذه “يتس” إن كان قد نسي أحدًا، فبادر “ييتس” بالإشارة إلى اسم شاعرٍ آيرلندي شاب اسمه جيمس جويس، كان قد كتب ونشر بعض القصائد الغنائية الجيّدة. سأل ييتس سكرتيره “باوند” آنذاك: لماذا لا تبعث له برسالة”؟ على الفور شرع باوند في كتابة رسالة إلى جيمس جويس، أوضح فيها قوة علاقاته بالوسط الأدبي، وعرض عليه المساعدة في نشر أعماله، وسأله الموافقة على ضمّ قصيدة I hear the Army إلى الأنطولوجيا الشعرية التي كان يعدّها ويحررها باوند. بعد أيام وصلته رسالة من جويس يسمح فيها استخدام قصائده لتُنشر داخل المختارات الشعرية، أتبعها بإرسال نسخة مجموعة قصصية تحمل عنوان “أهالي دبلن”، وفصلًا من رواية جديدة بعنوان “صورة الفنان في شبابه”.
لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 حال دون اجتماع جويس وباوند. لكن رُب ضارة نافعة؛ إذ كانت الحرب سببًا في تفجّر سيل عرِم من الرسائل المتبادلة بين الشاعرين امتدت حتى سنة 1920 بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ودَعى باوند صديقَـه جويس لزيارة مدينة سيرميوني في إيطاليا.


تعكس الرسائل إعجاب باوند القويّ بأعمال جويس، وتكريس جهوده للعثور على ناشرٍ لأعمال جويس، والدفاع عن أدبه ضد مقصلة الرقيب، والتوسّط لنشر مقالاته لدى كبريات المجلات الأمريكية في محاولةٍ لدعمه ماليًا ومعنويًا.
كان جيمس جويس، البالغ من العمر آنذاك ثلاثين عامًا، قد واجه رفضًا بعد رفض، وسخريةً وراء الأخرى من جانب عدد كبير من الناشرين في العقد الأول من القرن العشرين، وكان قد أكمل مجموعته القصصية القصيرة “أهالي دبلن”، قبل ثماني سنوات قبل اتصال باوند.
وفي كل مرة كان يقترب فيها جويس من رؤية مجموعته القصصية الأولى مطبوعة، كانت تلوح في الأفق عقبات جديدة. يقول جويس في يوميات أوردها الكتاب عن هذه الفترة الصعبة:
“بعد رفض عدّة دور نشر، ذهبتُ من جديد إلى آيرلندا ودخلتُ مرحلة تفاوض مع السادة “ماونسيل” بغرض نشر المجموعة القصصية “أهالي دبلن”. طلبوا مني حذف قصة An Encounter، وبعض الفقرات من قصة Two Gallants، وكذلك فقرات من قصة The Boarding House، كما طُلبَ مني تعديل جميع أسماء المطاعم، محلات الحلوى، محطات القطارات، الأماكن العامّة، أسماء الحانات، وكذا أسماء أماكن المؤسسات الأخرى، وبعد أن خضتُ معهم جدلًا طويلًا يومًا وراء يوم طيلة ستة أسابيع، وبعد الرضوخ لطلبهم بإدخال التغييرات المطلوبة كافة، بشرط أن تُنشر المجموعة القصصية دون إبطاء، وأن تُنقّح نسخة الكتاب في الطبعات اللاحقة، لكن الدار طلبتْ مني إيداع مبلغ تأمين قدره ألف جنية استرليني في حسابهم البنكي، أو شراء سنديْن، قيمة كل واحد خمسمئة جنيه، وقد رفضتُ الطلبيْن، بعدها أخبروني كتابةً أنهم لن ينشروا الكتاب، سواء بعد إدخال التعديلات أو دونها”.

كتبَ باوند أولى رسائله إلى جيمس جويس – بتكليف من وليام بتلر ييتس- في 15 ديسمبر 1913:
“حضرة المحترم جيمس جويس: حدّثني السيد وليام بتلر ييتس عن أعمالكَ. تربطني – بصفة غير رسمية- علاقة بمجلات مثل The Egoist، ومجلة Ceribrilist، وهي المكان الوحيد الذي ما يزال واقفًا بقوّة وراء الكتابات التجريبية الجديدة، ويسعى إلى نشر أدب حقيقي. المجلة الأخيرة تدفع أجرًا ضعيفًا، أما الأولى فهي لا تدفع مقابل النشر مطلقًا، وإنما ننشر فيها بهدف النشر فقط، وبهدف إيصال أصوات الكتاب الجُدد إلى الناس. كما أنني سأتوسط للنشر لدى مجلتين أمريكتيين كبيرتين، لكنني لا أستطيع أن أعدكَ بالنشر فيهما، فلا أملك سلطة إجبارهم على نشر كل شيء. هذه هي المرّة الأولى التي أكتبُ فيها إلى أحد خارج دائرة معارفي القدامى، ونظرًا لاستحالة مناقشة مثل هذه الأمور وجهًا لوجه، فإنني أكتبُ إليكَ الآن.تحياتي..إزار باوند”.
وفي رسالة أخرى في 26 ديسمبر 1913 يقول باوند:
حضرة المحترم جيمس جويس..لقد اطّلع السيد “وليم بتلر يتس” على قصيدتكَ ” I hear an Army، وقد أبهرتنا القصيدة. هذه ملاحظة فنيّة مستحقة من جانبي، وإطراء من جانب السيد ييتس.أودّ أن تسمح لي بضمّها إلى مختارات الشعراء التصويريين (جماعة شعرية من الأمريكيين والإنجليز تنتظمهم مدرسة شعرية، تزّعم الحركة إزرا باوند)، وفي وسعي أن أبعثَ إليكَ بدفعة مقدمة مقابل نشر القصيدة إن كان ذلك مناسبًا، وسوف يكون لك نصيب من أرباح توزيع المختارات بحسب مشاركتكَ فيها”. وفي رسالة بتاريخ 17/18 يناير 1914 يقول باوند: “عزيزي جويس..لا أظنّ أن خبرتي واسعة في مجال الرواية، لكني أعتقد أن روايتكَ عمل ذو جودة فنية عالية، بل أذهب فأقول إنها رائقة واضحة مثل أعمال ميريميه ( بروسبير ميريميه: أديب فرنسي من القرن التاسع عشر). أنا بصدد إرسالها الآن إلى مجلة The Egoist، لا أنكر أنه جُرم ألا يُدفع لكَ لقاء نشرها، لكنكَ تعلم جيدًا الصعوبات والعوائق التي يُمكن للناشر أن يثيرها. أسأل السماء ألا تتحفّظَ المجلة على فقرة أو فقرتيْن مما كتبتَ، لكنني سأحاول أن أعفيكَ من ثقل مهمة الجدال والحِجاج. للأسف الشديد لا أقرأ نثراً لأي من كُتاب الإنجليزية، اللهم أعمال هنري جيمس أو هادسون، والقليل من نثر جوزيف كونراد. أكتبُ لك في اللحظة التي أنهيتُ فيها القراءة”.
رسالة أخرى من باوند بتاريخ (6 إلى 12 سبتمبر 1915):
عزيزي جويس: انتهيتُ للتوّ من قراءة ختام روايتكَ “صورة الفنان في شبابه”، أردتُ أن أخبرك كم كانت رائعة. أعتقد أن الفصل الخامس من الرواية قد أُرسِل بالفعل إلى مجلة The Egoist”.


استمرّ باوند في كتابة مقالات ومراجعات عن أعمال جويس حتى أواخر العشرينيات من القرن الماضي. وعن هذه النقطة تحديدًا أوردَ الكتاب شهادة الروائي الأمريكي الحائز على نوبل إرنست همنجواي عن باوند: “كان باوند هو الكاتب الأكثر سخاءً وكرمًا من بين كل من عرفت”. مضيفًا:” لقد ساعد باوند العديد من الشعراء والرسامين والنحاتين والروائيين الذين آمن بهم، كان دائمًا في عون أي إنسان يطلب المساعدة، سواء آمن به أم لم يؤمن، كان يقف وراء من يشعر بمعاناته. كرّسَ باوند حوالي خمس وقته للفنّ ولكتابة الشعر، بينما حشد جهوده لدعم زملائه، وتطوير مسيرتهم الإبداعية”.
بعد ذيوع شهرة جيمس جويس داخل أوروبا وخارجها، وعلى الأخصّ بعد نشر روايته “يوليسيس” في أوائل العشرينيات، خفتْ وتيرة المراسلات بين الكاتبيْن.
وخلال الفترة من سنة 1921 حتى سنة 1924 لم يتبادل جويس وباوند رسالةً واحدة بسبب موقّف باوند المتحفّظ تجاه رواية “يقظة فينيجين” المعقدة.
بعد انتقال باوند للعيش في مدينة رابالو الإيطالية في سنة 1924، واصل الكتابة عن أعمال جويس حتى وفاة الأخير في 13 يناير 1941. وبعد وفاة جويس بأيام نعى باوند صديقه على موجات راديو روما، واصفًا إياه بالكاتب الأكثر ثوريةً وتجديدًا في تاريخ الأدب المعاصر.

السابع بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي