أصول الفقه وصناعة الحياة
(أبو سعيد وابن بركة نموجاً)
خالد بن مبارك الوهيبي
خالد بن مبارك الوهيبي
مقدمة
مثلت أصول الفقه عند فقهاء المسلمين المنهج المعتمد في آلية استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، وتعددت النظريات التي قام عليها هذا العلم بتنوع العقول والمدارك البشرية، وفي نظري أن أحد أهم ما جعل هذا العلم-الذي عُد من إبداعات فقهاء المسلمين- يصاب مع مرور الزمن بالشيخوخة والضعف عن إمداد الحياة البشرية بالحلول العملية في التشابكات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ هو تحول آلياته إلى جزر متباعدة لا يربط بينها رابط، ففصلت السنة عن القرآن بادعاء أن السنة تشرع استقلالاً بعيداً عن دلالات القرآن أو أنها تنسخ أحكامه، وتمت المرادفة بين السنة والرواية بجعل عشرات ألوف الروايات من السنن الملزمة وساوى البعض بينها وبين القرآن في الحجية، وحصر الرأي في القياس الأصولي، وتنازع الناس في حجية الاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستقراء والإباحة الأصلية، وحتى فكرة المقاصد كانت متأخرة النشأة أصولياً ولا تزال تجاهد ليكون لها حضور في المنظومة الأصولية، أضف إلى ذلك قائمة التعارضات الوهمية بين الشريعة والعقل، وبين النص والمصلحة، وبين النص والرأي، لتتحول إلى استقطابات حادة يتخاصم الناس عليها.
منذ نشأتي الأولى لم أعرف سوى القرآن الكريم مصدراً للهدية والتشريع، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي كان يعلم الناس بسنته الكتاب والحكمة، لذلك ظللت لسنوات طويلة غير قادر على هضم الكثير من نظريات أصول الفقه التي لم أكن أرى في قدر لا يستهان به منها سوى ذاتية الفقيه وخبراته الحياتية ومعارفه الزمنية، وهي لا شك محل تقدير واحترام، لكن كان الواجب أن تكون وثيقة الصلة بوحي السماء، وليس من خلال قراءة عضين بعيدة عن التبيين الذاتي للقرآن.
وفي خضم دفع القدر بالقدر، وأثناء اشتغالي بالجزء المقرر لي في كتاب (السنة: الوحي والحكمة) اصطدمت بعدد من النصوص التأصيلية في نظرية أصول الفقه، وهذه النصوص لفقيهين من المدرسة الفقهية الإباضية وهما: أبي سعيد محمد بن سعيد وأبي محمد عبدالله بن محمد بن بركة، وكانا رأسي المدرستين النزوانية والرستاقية المعروفتين في الفقه الإباضي، الحقيقة أنني وجدت نفسي مع هذه النصوص التي أعدها من أفضل ما قرأت في أصول الفقه، والتي يمكن تطويرها والبناء عليها لتكون النظرية الأم في تكوين وبناء آلية استنباط الأحكام.
أبو سعيد وابن بركة
يعد أبو سعيد وابن بركة فقيهين من فقهاء المدرسة الإباضية، عاشا في القرن الرابع الهجري، واستمر أثرهما الفقهي والأصولي حاضراً بقوة إلى يومنا هذا، والنصوص التي سوف أنقلها عنهما تبين مدى اتفاقهما في طرح النظرية العامة في أصول الفقه.
1. يقول أبو سعيد في المعتبر، ج1 ص14: (ثبوت العلم كله من كتاب الله تعالى، معناه أن الأصل كله من القرآن، خارجة أحكامه كلها من التنزيل، فمنه ما يخرج بنفسه من غير تأويل، ومنه ما يحتاج إلى التأويل، ومنه ما لا يخرج في تأويل التنزيل؛ ويخرج في تأويل التأويل للتنزيل، فمنه ما كان دالاً على نفسه من التنزيل ولم يحتج إلى تأويل، وما احتاج إلى تأويل؛ فمنه ما اختلف في تأويله، ولم يصح من اختلاف المتأولين إلا ما وافق التنزيل المحكم؛ غير المتشابه ولا المنسوخ، فهذا أحكام التنزيل.
فالحق كله خارج بأسره من حكم التنزيل عن الله تبارك وتعالى، وهو أنه لا يدرك الحق إلا منه، وما خرج من أحكامه منه وفيه، وما لم يوافقه ولم تخرج أحكامه منه فهو باطل، لأنه الحق من الله وما سواه باطل، وما بعد الحق إلا الضلال، وما خرج على الحق فهو باطل، لأنه قيل: إن الحق كله إنما يدرك من كتاب الله تبارك وتعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو حجة العقل مما وافق فيه هذه الأصول الثلاثة: كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المحقين من الأمة، وهذه الأصول كلها من كتاب الله تعالى، وهو القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، منه ما يخرج في نصِّ الكتاب بغير تأويل، ومنه ما يخرج من تأويل كتاب الله تبارك وتعالى.
والسنة كلها تأويل لكتاب الله تبارك وتعالى، وكذلك الإجماع من تأويل كتاب الله، فكما كان تأويل التنزيل تأويلاً له؛ كذلك السنة والإجماع من تأويل كتاب الله، وكذلك حجة العقل من تأويل كتاب الله تبارك وتعالى، والرأي من أهل الرأي من المسلمين يخرج حجة من العقول، فثبت أن الحق كله والعلم كله هو من القرآن) اهـ .
2. ويقول ابن بركة في الجامع، ج1 ص 280: (وأحكام الشريعة كلها مأخوذة من طريق واحد وأصل واحد، وهو كتاب رب العالمين، فهو قوله: (اتبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ وَلاَ تَتّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ) الأعراف:3، والسنة أيضاً مأخوذة من الكتاب قال جل ذكره (أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ) النساء:59 وقال: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) النساء:59 وقال جل ذكره: (فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور:63 وقال: (مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) النساء:80 وقال: (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) النساء:65 وقال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ ، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ) النجم: 3– 4 والسنة عمل بكتاب الله وبه وجب اتباعها، والإجماع أيضاً عمل بكتاب الله وبالسنة التي هي من كتاب الله، لأن الإجماع توقيف والتوقيف لا يكون إلا من الرسول صلى الله عليه وسلّم، والسنة أيضاً على ضربين : فسنة قد اجتمع عليها، وقد استغني بالإجماع عن طلب صحتها، وسنّة مختلف فيها، ولم يبلغ الكل علمها، وهي التي يقع التنازع بين الناس في صحتها. فلذلك تجب الأسانيد والبحث عن صحتها ثم التنازع في تأويلها إذا صحت بنقلها، فإذا اختلفوا في حكمها كان مرجعهم إلى الكتاب) اهـ .
3. قال ابن بركة في كتاب (التعارف) : (الضرب الثاني من العلم: هو علم الدلائل المستنبط بالعقول ، ويستدرك معناه بالبحث والنظر وبدليل العبرة، وفي هذا يقع الاختلاف والتنازع لكثرة فروعه، وغموض أدلته ودقة معانيه ، وفيه يميز فضل العلماء بما فضلهم الله به من الذكاء والفطنة، وجودة الرأي وحسن الطلب، لاستخراج أحكام الله تعالى، وحجج الله التي تعرف بها أحكام الكتاب والسنة واتفاق الأمة وحجة العقل، وقال الله جل ذكره : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، فالمحكم يعرفه السامع ، والمتشابه يفكر فيه العالم؛ لأن في القران العموم والخصوص، والمجمل والمفسر، والتصريح والكناية.
قال الله تبارك وتعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) فأوجب التذكرة والاعتبار ، وخص بذلك أولي الإبصار ، فاعتبر أهل البصائر والمعرفة بأحكام الله ، واستخراج أحكام كتابه بما أمرهم به، وندبهم إليه، واجتهدوا وقاسوا النظير بالنظير على حكمه في الجملة، والمنصوص عليه بعينه بالعلل الجامعة، بيّنها بما دلهم الله تعالى عليه بقوله (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) اعتبروا واتعظوا واعلموا أن من فعل مثل فعلهم أحللت به من العقوبة مثل ما أحللتها بهم) اهـ.
النظرية العامة في أصول الفقه
هذه النظرية التي طرحها أبو سعيد وابن بركة تقوم على أساس واحد هو المرجعية العليا والمهيمنة للكتاب العزيز بقيمه ومحدداته على ما سواه، من سنة متبعة للنبي الكريم عليه السلام أو مرويات حديثية أو وسائط عقلية، وذلك على اعتبار أنها ترجع في أصلها للوحي الخالص الذي خرجت منه وترجع إليه. انظر شكل (1)
فالقرآن هو المرجع الأعلى في تكوين كافة التصورات للكون والإنسان والحياة، وهو ما نطقت به آيات الكتاب (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل:89، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام:38، فإذا أردنا أن نكوّن منظومات وآليات للفهم والاستنباط تتسم بالموضوعية بقدر الوسع والاستطاعة فلابد من ربطها بهداية الكتاب ومحدداته.
هنا يقرر أبو سعيد في صراحة أن (ثبوت العلم كله من كتاب الله تعالى، معناه أن الأصل كله من القرآن، خارجة أحكامه كلها من التنزيل، فمنه ما يخرج بنفسه من غير تأويل، ومنه ما يحتاج إلى التأويل)، فالعلم بأسره من القرآن نصاً من أو من خلال التأويل لآياته، أي من خلال استخراج قواعده الثاوية في نصوصه التي تعلم باستقراء آياته.
ثم بين أنه قد (قيل: إن الحق كله إنما يدرك من كتاب الله تبارك وتعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو حجة العقل مما وافق فيه هذه الأصول الثلاثة: كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المحقين من الأمة، وهذه الأصول كلها من كتاب الله تعالى، وهو القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، منه ما يخرج في نصِّ الكتاب بغير تأويل، ومنه ما يخرج من تأويل كتاب الله تبارك وتعالى)، فالأصول التي يعتمد عليها الناس:
- كتاب الله
- سنة رسوله عليه السلام
- إجماع المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
- حجة العقل مما وافق هذه الأصول الثلاثة.
فعقب على ذلك، بأن هذه الأصول كلها ترجع لكتاب الله وهو القرآن:
- والسنة كلها تأويل لكتاب الله تبارك وتعالى.
- كذلك الإجماع من تأويل كتاب الله، لأنه لا يكون إلا عن نص.
3. وكذلك حجة العقل من تأويل كتاب الله، لأن الرأي من أهل الرأي من المسلمين يخرج حجة من العقول، فثبت أن الحق كله والعلم كله هو من القرآن.
أي أنه رجع منظومة المصادر الأخرى للقرآن، فتعد السنة والإجماع والعقل بمختلف الآليات التي يعمل بها مصادر تبعية للكتاب، وهذه قضية محورية ومفصلية في الطرح الأصولي لأبي سعيد يفارق فيها منظومات التجزئة للمصادر الشرعية، ولذلك فالكتاب (لا يدرك الحق إلا منه، وما خرج من أحكامه منه وفيه، وما لم يوافقه ولم تخرج أحكامه منه فهو باطل، لأنه الحق من الله وما سواه باطل، وما بعد الحق إلا الضلال، وما خرج على الحق فهو باطل).
أما أبو محمد بن بركة فقد كان طرحه متوافقاً مع طرح أبي سعيد فيما يخص بمرجعية الكتاب وهيمنته على السنة والرواية والإجماع الذي يعتبره توقيفاً من الرسول عليه السلام، فهو يعتبر أن (أحكام الشريعة كلها مأخوذة من طريق واحد وأصل واحد، وهو كتاب رب العالمين)، لذلك (السنة أيضاً مأخوذة من الكتاب)، (والسنة عمل بكتاب الله وبه وجب اتباعها)، (والإجماع أيضاً عمل بكتاب الله وبالسنة التي هي من كتاب الله، لأن الإجماع توقيف والتوقيف لا يكون إلا من الرسول صلى الله عليه وسلّم).
القياس عند ابن بركة وأبي سعيد
إن القياس بمعناه الاصطلاحي الذي تبلور بعد القرن الثاني لم يكن معروفاً في زمان التابعين كجابر بن زيد وأبي عبيدة، فقد كان القياس يعني لديهم مطلق الرأي والاجتهاد القائم على مقدمات نصية من الكتاب والسنة، وتحليل النصوص المأثورة عن هذين الفقيهين المؤسسين للمدرسة الإباضية في موضوع القياس؛ يكشف أن مفهوم القياس كان يمارس باعتبار مطلق الرأي دون حصره في القياس الأصولي القائم على إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه في الحكم بجامع العلة بينهما، وكذلك الحال بالنسبة عن تلاميذ مدرستهما كالربيع وابن عبدالعزيز وأبي المؤرج، ولذلك وقع في هذه المرحلة الخلاف في ذم القياس ومدحه، وذلك بناء على اعتبار القياس معبراً عن مطلق الرأي الذي قد يفارق النص أو ينسجم معه.
أما الكتابات الإباضية في القرن الرابع الهجري فقد مثلت مرحلة انفتاح واسع نسبياً على التراث الفقهي والأصولي لعدد من المدارس الإسلامية الأخرى، وهو انفتاح فرضه واقع اجتماعي وسياسي، لذلك قام ابن بركة وأبي سعيد بقيادة هذا الانفتاح في العديد من مؤلفاتهما، والمسلك العام –فيما يظهر-لهذين الفقيهين كان القيام بالتعليق على تراث المدارس الإسلامية مع بيان أصول المدرسة الفقهية الإباضية بحسب رؤيتهما، ظهر ذلك جلياً في تعليق أبي سعيد على كتاب النيسابوري، وكتاب الجامع لابن بركة.
وكان للبصمة الخاصة لابن بركة وأبي سعيد ونزعتهما الاستقلالية؛ وأيضاً لتبني الفقيهين لعدد من المفاهيم الأصولية من منظومات متعددة داخلية وخارجية؛ أن يؤدي بشكل طبيعي إلى اختلاف أساليب معالجتهما لمفهوم الرأي والنظر في منطقة المسكوت عنه:
1. فأبو سعيد: يرى بشكل واضح وصريح أن (الرأي من أهل الرأي من المسلمين يخرج حجة من العقول)، وحجة العقل من تأويل كتاب الله، وعليه فإن الرأي في منطقة المسكوت عنه لا يحصر في القياس الأصولي ولا يلزم به، بل هو رأي يستند لمحددات الكتاب ومفاهيمه.
2. ابن بركة: في سياق الكلام السابق من الجامع لم يتحدث عن أي آلية تدار بها منطقة المسكوت عنه، لكنه في جامعه كثيراً ما يشيد بالقياس الأصولي ويكثر من التعويل عليه حتى لكأنك لا تجد لديه آلية سواه في منطقة المسكوت عنه، لكنه في المقابل يورد كثيراً استدلالات منكري القياس، وقد قال في أحد المواضع في الجامع: (والتقليد لا يجوز عند دخول الدليل الصحيح من الكتاب والسنة والإجماع وحجة العقل)، وهذا الكلام يتوافق تماماً مع كلام أبي سعيد، وكذلك الكلام السابق في التعارف عندما قال: (وحجج الله التي تعرف بها أحكام الكتاب والسنة واتفاق الأمة وحجة العقل)، فعندما يعتبر ابن بركة حجة العقل فإنه بالضرورة لا يحصر الرأي في القياس الأصولي كآلية للاستنباط، وهذا الذي يتفق مع التفريعات والتأصيلات لفقهاء المدرسة الإباضية قبل القرن الرابع وبخاصة المدرسة الإباضية الأولى بالبصرة.
وقد يتصور البعض أن القياس الأصولي هو قياس شرعي، أي أنه هو المشروع وحده، وذلك للنصوص المروية عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، مثل ما روي أن امرأة من خثعم جاءت تسأل النبي عليه السلام، قالت : يا رسول الله إن فريضة الله على العباد في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه؟ قال : ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكنت قاضية عنه ؟ قالت : نعم ، قال : فذاك ذاك)، لكن النظر يدل على أن ما روي هو ممارسة للاستنباط النبوي من واقع تعليم الناس الحكمة بطرق وأساليب متنوعة، بدليل أنه قد روي عنه عليه السلام نماذج استنباطية تدل على أنه كان يستحضر الخبرة الإنسانية والمعروف بين الناس في الاستنباط، ، ومما روي في ذلك:
– عن عائشة قالت: أخبرتني جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك، ولا يضر بأولادهم شيئاً).
– قال النبي صلى الله عليه وسلم في مكة: (لا ينفر صيدها، ولا يقطع شجرها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها. قال له العباس عمه؛ وكان شيخاً مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لابد منه للقبور ولظهور البيوت. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال).
– عن عائشة قالت: دف ناس من أهل المدينة حضرة الأضحى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا ، وتصدقوا بما بقي بعد ثلاثة أيام. قالت فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الناس ينتفعون بضحاياهم، ويجعلون جم الودك، ويتخذون منها الأسقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذلك؟ . فقالوا : يا رسول الله، نهيت عن إمساك الضحايا بعد ثلاثة أيام، فقال : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم، فكلوا، وتصدقوا، وادخروا).
– قوله عليه السلام: (شهدت غلاماً مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه).
بين النظريتين
هذه النظرية التي يطرحها أبو سعيد وابن بركة تخالف الطرح الأصولي السائد منذ كتاب الرسالة للشافعي في نقطتين جوهريتين:
– جعل القرآن هو المصدر الرئيس والمهيمن على كل المصادر الأخرى التي تعد تابعة له وخاضعة لمفاهيمه ومحدداته.
– اعتبار حجة العقل من تأويل كتاب الله، والرأي من أهل الرأي من المسلمين يخرج حجة من العقول، فليس هناك تعارض وصدام وهمي بين العقل والشريعة، لأن العقل مكون من مكونات النص الشرعي، وبعبارة أبي سعيد (حجة العقل من تأويل كتاب الله).
- ويترتب على هذه النظرية أن المنصوص عليه مما في الأحاديث التي يرويها الناس عنه عليه الصلاة والسلام ترجع لهيمنة الكتاب ومحدداته ومفاهيمه قبولاً ورداً وتعاملاً، فليست هناك منطقة تعمل فيها الأحاديث بعيداً عن الكتاب العزيز، لأن (السنة أيضاً مأخوذة من الكتاب).
- ويترتب على هذه النظرية أن الطرح الفقهي باستعمال أي مصدر لا بد أن يستند لمرجعية النص القرآني سواء في المنصوص عليه أو المسكوت عنه، فسكوت النص في ذاته تشريع بمنح النظر البشري مكنة العمل في هذه المنطقة (=المسكوت عنه) وفقاً لمحددات الكتاب ومفاهيمه، روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها).
- ويترتب عليها كذلك أنه لا مجال للقول بأن نصوص الشريعة لا تكفي لتنظيم تفاصيل الحياة، فالشريعة -متمثلة في القرآن والسنة المتبعة للنبي الكريم ممارساً فيها تعليم الناس الحكمة من القرآن- تنظم الأحكام إما:
- بالنص عليها بأعيانها أو من خلال قواعد عامة.
- أو بالسكوت عنها، ودائرة المسكوت عنه تنظمها القواعد العامة للشريعة.
فالسكوت في حد ذاته تشريع من الله، وهذه هي دائرة الإباحة النصية، قال الله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثـية:13.
- ومن النتائج المترتبة عليها، أن الرأي لا ينحصر في القياس الأصولي، الذي هو إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه في الحكم لاشتراكهما في العلة، والعلة هنا مستنبطة، فالسكوت النصي يخضع لمستويات متعددة من النظر بحسب اختلاف العقول والأفهام، وهذا أمر لا ينكر، لكن لا بد من رجع النظر والاستنباط إلى القرآن (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) الشورى:10، ففي هذه الدائرة يمكن أن تعمل:
- الإباحة الأصلية التي تنظمها قواعد الشريعة.
- العرف.
- قواعد استقراء الشريعة التي عرفت بمقاصد الشريعة.
- القياس الأصولي.
- المصالح المرسلة.
- الاستحسان، وغيرها من آليات النظر والاستنباط.
تطوير للنظرية
هذه النظرية التي طرحها أبو سعيد وابن بركة تمثل –في نظري- أجود ما هو ما هو مطروح من نظريات في أصول الفقه، لكنها على جودتها تحتاج للتطوير والتحديث ليمكنها التفاعل بشكل أفضل مع حركة الحياة، والتطوير الذي اقترحه في بنيتها يتمثل في أن نضع في اعتبارنا عدة أمور منها:
1. تجريد النص القرآني مما علق به من تفاسير بشرية صارت بمثابة الملاصق والملازم له، هذا ليتم لنا اعتبار أن القرآن هو (الحق كله خارج بأسره من حكم التنزيل عن الله تبارك وتعالى)، فنحن عندما ندرس الكثير من القضايا من القرآن نحاول أن نصور القرآن وكأنه ينطق باسم روايات أو تفاسير معينة، دون محاولة استنطاق النص القرآني، فالقرآن تبيان لكل شيء، مبين لنفسه ومبين لغيره، (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل:89 .
وكونه تبياناً لكل شيء يقتضي:
– أن القرآن نظام محكم، وكل نظام محكم مبين لنفسه من خلال النظام نفسه.
– ورد في القرآن أنه (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) النحل:89 ، وعلى مستوى الآيات (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) البقرة: 99، وكل ذلك يدل على سريان النظام المحكم في جميع الأجزاء، فلو كان غير مبين لذاته لفقد القدرة على تبيين غيره.
– أن القرآن هو المؤسس الأصلي للتشريعات والعقائد ومختلف التصورات.
ومن الدراسات المفيدة التي قدمت في هذا الموضوع، انظر: عالم سبيط النيلي، النظام القرآني، ط دار أسامة، الأردن.
2. إعادة النظر في الموروث الحديثي الذي فارق القرآن في دلالاته ومفاهيمه، فلكي تستعيد الأمة دورها الحضاري لابد أن تكون قرآنية المنهج، وهذا يقتضي منها أن تنخل الموروث الحديثي الذي رواه الناس بمعايير القرآن، التي تمثل بحق المعايير الموضوعية بدلاً من عشرات المعايير الذاتية التي قدمها العديد من الفقهاء والمحدثين.
ويدخل في ذلك التمييز بين سنة الرسول عليه السلام، أي طريقته التي كان عليها من تعليم الناس الكتاب والحكمة؛ والروايات والأحاديث التي يرويها الناس عنه من أقوال وأفعال في مواضع متفرقة من حياته، فالسنة بمعنى الطريقة وهي التي علمها الناس جميعاً ومثلت قيم القرآن ومفاهيمه هي التي علينا أن نعض عليها بالنواجذ، أما تلك الروايات والأحاديث علينا أن نفحصها بمعايير موضوعية على رأسها العرض على القرآن؛ فما يصح وفقاً لذلك هو الذي يلتحق بمفهوم السنة، وما يشذ عنه فلا حاجة لنا به.
3. كلام أبي سعيد في اعتبار حجة العقل من تأويل الكتاب الله مدخل مهم لإلغاء مفاهيم ترددت كثيراً من وجود تعارض بين العقل والشريعة، فالعقل عند أبي سعيد مكون من مكونات النص وليس شيئاً آخر، وما يمكن أن يحصل في الذهن من حصول تعارض هو في حقيقته تزاحم دلالات بين مكونات النص، ويلزم الفقيه حينئذ أن يقوم بترتيب الدلالات المتزاحمة ترتيباً منطقياً ومصلحياً، أما ذلك التعارض الوهمي الذي يذكرونه فمرده في أغلب الأحيان إلى وجود الرواية الكاذبة والآراء الفاسدة التي ألصقت بالشريعة، وهي نموذج من نماذج اختلاط البشري بالإلهي.
تطبيقات على النظرية
إذا حاولنا تطبيق النظرية على بعض الأبواب الفقهية فسنجد أننا أمام ربط لخيوط الاستدلالات ببعضها واتصالها جميعاً بمرجعية وهيمنة دلالات الكتاب العزيز، سواء كان ذلك في المنصوص عليه أو المسكوت عنه، وتقريباً للنظرية إلى أفهام القراء، أقدم هذه التطبيقات العملية عليها:
- أحكام الكفالة:
والكفالة كما عرفها الفقهاء قديماً هي ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة أو في حق أصل الدين، وعرفها فقهاء القانون في العصر الحديث بأنها ضم ذمة شخص هو الكفيل إلى آخر هو المدين في تنفيذ التزامه.
النصوص القرآنية الواردة في الكفالة كان مجالها بيان مشروعية هذه المعاملة، وهي قوله تعالى: (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) يوسف:72، قال المزني: والزعيم في اللغة هو الكفيل، وروى عنه عليه السلام أنه قال: (الزعيم غارم)، أي أن الكفيل ضامن، وهذا هو لب معاملة الكفالة، وهذا ما ورد بعينه في الآية من تلك الأعراف المعمول بها في عهد يوسف عليه السلام.
ما عدا ذلك من أحكام تخص الكفالة هي من المسكوت عنه، وهي المنطقة التي يجول فيها النظر البشري وفقاً لمحددات الكتاب العزيز بقيمه العليا، وهنا لا يشترط أن نبحث لأحكام الكفالة ومسائلها عن نظائر وأمثال في معاملات أخرى، ونمرر المسكوت عنه على النصوص محاولين إيجاد علل بين المنصوص عليه والمسكوت عنه :
– بل يمكننا أن نبحث في الأعراف التي قامت عليها هذه المعاملات ونقوم بانتفاء ما يتوافق مع نصوص الشريعة وقيمها ومقاصدها.
– ويمكننا كذلك أن نوجد لها أحكاماً لها تتفق والمصلحة المبتغاة للمجتمع، وفقاً لنصوص الشريعة وقيمها العليا.
وهذا هو المسلك الذي سلكه العديد من فقهاء المسلمين في هذه المعاملة وغيرها، وهذا يجعلنا نميز بين هذه الاجتهادات التي تعبر عن فهم لروح الشريعة ومقاصدها، والشريعة التي تمثل نصوص الوحي، وبالتالي نستطيع إيجاد حلول استنباطية مختلفة باختلاف أحوال الزمان والمكان.
2. أحكام الشُفعة:
سكت النص القرآني عن إيراد أحكام خاصة بالشفعة التي عرفها الناس في معاملاتهم قبل نزول القرآن، وروى الناس عن النبي عليه السلام أحاديث فيها بعض من بيان المشروعية وبعض الأحكام المتعلقة بها، مثل:
– عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا شفعة إلا لشريك).
– عن جابرٍ: (جَعَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم الشُّفعةَ في كلِّ مالٍ لم يُقْسَمْ، فإِذا وقَعَتِ الحدودُ وصُرِفَتِ الطُّرقُ فلا شُفعةَ).
– عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: (الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ).
– عَنْ سَمُرَةَ ، قَالَ: قَالَ رسولُ الله: (جَارُ الدَّارِ أحَقُّ بالدَّارِ).
بناء على هذه النظرية التي تؤصل العلم كله من القرآن؛ خارجة أحكامه منه، وما رواه آحاد الناس مما يغلب على الظن صدوره عن النبي الكريم بناء على الثقة بالرواة عنه صلى الله عليه وسلم علينا ربطه بمقاصد الكتاب وقيمه العليا، وطالما أن الكتاب العزيز قد سكت عن إيراد سكت عن إيراد أحكام خاصة تتعلق بالشفعة؛ فإذن نعلم من هنا أن النبي الكريم قد مارس تعليم الناس الحكمة المستنبطة من القرآن، من تحقيق العدالة والمصلحة للناس ومراعاة أعرافهم الاجتماعية، أي أن السنة في هذا ما يحقق العدل والمصلحة.
لذلك التساؤل الذي يطرحه الفقهاء: هل لكل من الجار الملاصق و الشريك في المال الشائع والمشترك في حق من الحقوق الارتفاقية حق في الطالبة بالشفعة، لا تتم الإجابة عنه بالنظر في أسانيد الروايات ومعرفة أحوال الرواة فقط، بل لا بد من فهم طبيعة هذه الروايات وموقعها من التشريع القرآني المهيمن على ما عداه من أحاديث وروايات ووسائط عقلية.
وعليه تكون إجابة التساؤل السابق بأن كل ذلك مرجعه لأعراف الناس وتقرير مصالحهم، ولذلك اختلف الرواة عن النبي عليه السلام في ذلك؛ منهم روى قصر حق الشفعة على صنف، ومنهم من وسع نطاقه على بقية الأصناف.