يهدف هذا المقال والذي يأتي بعده إلى قراءة مضامين محاضرةٍ لسيف الهادي قدمها على موقع بصيرة بعنوان “عمان وسياسة الصدمة” والمتوفرة على الشبكة، والمحاضرة تنطلق من مُصادرة أو افتراض مؤداه أن عمان تعيش الصدمة على خلفية الأزمة الاقتصادية، وأن كلَّ ما ذكرته الباحثة نعومي كلاين Naomi Klein في كتابها عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism ينطبق على السلطنة في واقعها الراهن ووضعها الاقتصادي، في ربط غريب مارسه الهادي بين الفلسفة وأعلامها والصدمة التي يفسِّرها، ويبدو أنه قد اتجه مؤخرا إلى القضايا الفلسفية يطرحها في السياق الديني ودون وعي أو قراءة فاحصة أو حتى سريعة أحيانا؛ بحيث يكتفي بسرد الأعلام، وإطلاق الأحكام التي قد تؤدي غاياتِها التداولية في الأوساط الدينية لانعدام فقه الفلسفة لدى المتلقي، ولكن ما إن تطرح هذه المحاضرات في أسواق الفكر والثقافة حتى تستدعي علاماتِ الاستفهام والاستنكار.
تخاصم التياراتُ الدينية الناسَ على مسألة حدود الاختصاص الشرعي وتأويل النص الديني وامتلاكه من حيث إنه محصور في فئة محددة، وتزعم أن الخوض في الدين وفهم النص محرَّم على غيرها، ولكنّها في الآن نفسه تخوض أعقد المسائل الفلسفية دونما وعي أو قراءة متأنية، وقد تجدر الإشارة في السياق ذاته إلى محاضرةٍ أخرى قدمها الهادي بعنوان “العقل بين الماهية والإنتاج” في العام (2018) يزعم فيها أن ما يدور من جدل شديد حول العقل وماهيته ووظائفه إنما يدور في دائرة مغلقة منذ سقراط، والسبب أن الله تعالى قد كفى الخليقةَ في هذا الأمر بالرسالات السماوية على حد تعبيره، ولا يخلو هذا الطرح من غرابة واختزال؛ فهو – فوق أنه بُعدٌ واضح عن المعارف العلمية والفلسفية واللسانية ونظرياتها في مجال الذهن والعقل والوعي والدماغ- بحثٌ بافتراض مسبق ونتيجة مُعدة كعادة العقل الديني الذي يحصر المعرفة كلها في تأويلاته للنص، ثم يبرهن على صدقها بأسلوب خطابي مصادرا كلَّ فهم مختلفٍ مقابل فهمه الأوحد، وهذا المنهج يقترب من مناهج المتكلمين شكلا ويختلف درجة وعمقا والذي تمثّل في القبليات التي حاولوا بها تطبيق النصوص على مذاهبهم؛ بحيث يَعرضون أفكارهم وعقائدهم على النص الديني (لزيق، 2014) فبمجرد اختيارهم للنص بوصفه دليلا، وبعملية الاختيار والانتقاء والانتزاع بوصفها استدلالا يبدأ تأويل الخطاب الشرعي، وهم اليوم يتعاملون بذات الأسلوب مع المُعطى العلمي والفلسفة الغربية؛ فما يؤيد نصوصهم وتأويلاتهم ونزعاتهم يقع في دائرة “البرهان” على صدق النص وتأويله كتعلقهم بقضية الإعجاز العلمي، وما يخالفهم، أو يعدّ كشفا لسياسات الدول الغربية يقع في تأويل الوضع الراهن والتبرير الفج وفضح المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين وبما يتناسب مع أغراضهم ووثوقيتهم.
بدأت تحولات الهادي الفكرية أو الدخول في المعترك الديني والثقافي عبر إدارته الدائمة والحصرية لبرنامج “سؤال أهل الذكر”، وهذا طابع لازم في المشهد الديني، فهناك أشخاص محددون سلفا وحصريا ولا يتغيرون في إدارة البرامج الدينية وبيانات الأهلة ومواسمها لما لها من شأن رمزي عندهم، وتعد إدارته لملف البرنامج منعرجا مهما في تاريخه الشخصي اكتسب من خلالها مكانة في الأوساط الدينية بسبب اقترانه بشخص المفتي ومساعده أو الرموز الدينية؛ مما جعل طرحه الفكري قائما على “الهالة الشخصية” وليس على عمق المناهج والمضامين؛ فالإنتاج الفكري والوعظي علاوة على امتزاجه واختلاطه غير خاضع للفحص والمراجعة والقراءة المتأنية الذاتية، لا سيما وأن المتلقي ينتمي إلى ذات دوائر التفكير؛ فالطرح يؤتي ثماره بسبب عدم إلمام المتلقي بالمطروح الشكلي والمضموني، وهو خلال هذه المسيرة التي ترجمت الرغبةَ في التحول إلى الفكر والفلسفة يواجه مسألة بالغة الدقة كنتُ قد طرحتُها في مقال نشرتُه على صفحتي سابقا بعنوان “العقل الديني: إشكالية الانتماء والمجابهة”، وكان فحوى الطرح فيه حول تعارض رغبتين في التيار الديني: الرغبة في البقاء داخل السياج الديني الدوغمائي لما يحققه من مكاسب أو سعادة في الدارين، والرغبة في مجابهة خصمٍ نوعي يمتلك عُدة فلسفية ومنهجية تختلف عن أدوات التدبير الوعظي وأنظمته.
إن الانتماء الديني داخل السياج المحدد يستلزم الإيمانَ بمجموع المعتقدات ذات البعد الهُوياني الصوري والإيماني؛ فلكي تكون منتميا إلى طائفة دينية معينة؛ يستلزم أن تتضمن ذاتُك الشروط الضرورية والكافية وفق نظرية الطراز الأرسطي بوصفها نظامَ مَفهمةٍ وتصنيفٍ أو مَقْوَلة، وأهم تلك الشروط تجنُّب التساؤل، أو تجنب إنجاز العُدة المنهجية والمنطقية؛ والتمسك بالمسوح والعلامات الظاهرة التي تدل على الانتماء؛ حتى يظل الإيمانُ الشكلي ساكنا وعنيفا يضمن للدين الجمعي انتماءَ الفرد إليه دونما تساؤل؛ لأن العقل في حقيقته هو كالثور الهائج في الأوساط الدينية لا بد أن يُكبح، وتاليا فإن ما ينتجه العقل الديني لا يناسب إلا الأفراد المنتمين إلى هذه الدائرة؛ لاستهلاكه في نسخ رتيبة ومكررة؛ فهو إنتاج يكرر نفسه؛ على أن مجموع الأفراد المنتمين إلى الدائرة يريد البقاء بوصفه كتلة أمام عوادي الدهر؛ مما يستلزم إتقان مناهج علمية ومنطقية في مجابهة الخصم المختلف المتمثل في القارئ النوعي المختلف، والناقد المختلف ليظل تماسك المجموع؛ ولكنّ هذه المناهج سلاحٌ ذو حدين لا يضمن للفرد بقاءه في الدائرة التقليدية وإنما يتعرض المجموع الديني للخطر بخروج الفرد من دائرته؛ بحيث إنه بعد امتلاكه لعُدة التفكير والنقد امتلاكا رصينا وليس شكليا قد ينقلب على معتقدات الجماعة ذاتها في الوقت الذي كُرّس مدافعا عنها ولها ضد المارقين المهرطقين؛ مما يجعلها عُرضة للتآكل الذاتي أو النقدي، وهو أمر يقترب من مفهوم سلب السلب المادي؛ بحيث لا سبيل للبقاء إلا باجترار المكرر وتدويره. بوجيز العبارة: إن إتقان الواعظ للفلسفة ومناهجها والمنطق وتصوراته يعرّضه لخطر الردة على مجموع المعتقدات أو الخروج على الانتماء الديني الجمعي (الزدجالي، 2019)، ونعني بالردة هنا الاختلاف الفكري ومخالفة المجموع حتى لا يشطح فكر القارئ بعيدا، منعا لأي تأويل لا يحتمله السياق.
إن النظر والتأمل في محاضرة الهادي حول “الصدمة” يقتضي لفت الانتباه خلال مسيرته الوعظية التي تعدّ جزءا من ديماغوجيا الخطاب الديني في العالم الإسلامي إلى محطتين أو فكرتين عنده:
الأولى: مقطع مثير للتساؤل ضمن خطبة من الخطب الدينية يطرح فيها الهادي مسألة تحتاج إلى إعادة تساؤل، نصطلح عليها اعتمادا على نصه في الخطبة بالمرحلة الانتقالية لسلطنة عمان، وأعتقد أن طرح الهادي في الخطبة هذه هو بحد ذاته صناعة للصدمة، أو اشتغال في المساحات الهامشية للأزمة الاقتصادية في الدولة؛ فالسلطنة بعد انتهائها من بناء المؤسسات والتشريعات كما هو مفترض، وإغلاقها لملفات الصراع التاريخي بين الإمامة والسلطة؛ يأتي الهادي ليعلن أنها تمر بمرحلة انتقالية في نص لا يخلو من غرابة يقول فيه: “احرصوا على أن تحافظوا على وحدة هذا الوطن، إياكم أن تفعلوا شيئا إلا بعد أن تعودوا إلى حكمائكم، وعقلائكم، وعلمائكم، لا يغرنّكم المشاركة في شبكات التواصل الاجتماعي .. إن هذه الشبكات هي اليوم التي تدير دفة الحرب بين المسلم والمسلم، ولذلك لا تكتبوا شيئا يؤدي إلى الفتنة، ولا تكتبوا شيئا يثير الشحناء بين بعضكم بعضا، ولربما لا تدرون في أي لحظة تمر عمان في مرحلة انتقالية” .
إن ظاهر النص ساكنٌ رتيب لا يبتعد عن قوالب الوعظ المعتادة، بيد أن مسألة المرحلة الانتقالية تثير بعض الشكوك والتربُّص وهي بيت القصيد، وتشتغل على ذات الفكرة التي يحاول أن ينتقدها وهي فكرة الأزمة والصدمة وكأنه ينتظر بعد الأزمة الاقتصادية مرحلةً انتقالية لا يعلم سرّها إلا الهادي، والنصٌّ ينطلق بذات المنطلقات الدينية؛ إذ المرجع هم العلماء والعقلاء وليس القانون المتمثل في النظام الأساسي للدولة وما يرتبط به من حدود المواطنة والمواثيق والعهود الدولية أو الحالة الدستورية الشمولية؛ فالنص من نوع Free size يناسب جميع الأوضاع بما يخدم الغايات التي يريدها الوعظ الديني، كما أن النص يثير دائما مسألة التنافر بين مدنية الدولة القائمة على المواطنة والقانون والتحول إلى الدين الاجتماعي ذي النزعة الواحدية والتجانس الهوياني الموهوم الذي تتحدد مرجعيته في العلماء؛ ويظلُّ السؤال متجددا: ما المرحلة الانتقالية التي يعنيها الهادي؟
الثانية: المحاضرة التي يتحدث فيها عن سياسة الصدمة ويطرح فيها قضية مثيرة وبالغة الخطورة لا من حيث موضوعُها وإنما من حيث الغايةُ التي يريدها والظرف الاقتصادي التي تمر به المجتمعاتُ اليوم، وعلاقته بقضية التدبير المالي لمجابهة العجز في الإيرادات عبر الإدارة الضريبية وتحسين الخدمات الحكومية ومراقبة الأسواق، والبدائل المطروحة من صندوق النقد والبنك الدوليين، ويُلاحظ أن الهادي يمزج قضايا المحاضرة مزجا لا تكاد تستبين فيها المقدماتِ من النتائج، ويبدو أنه اعتمد في صناعة المحاضرة إما على قراءة مشوهة أو سريعة لكتاب نعومي كلاين “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث” من ترجمة نادين خوري عن شركة المطبوعات في بيروت، أو قراءة لمقالات المراجعات للكتاب ذاته دون قراءة الكتاب، وأدخل فيها مما يراه مناسبا للفكرة ومما ليس منه ولا علاقة له بها.
تتكون المحاضرة من جزئين يمكن اعتبار الأول مقدمةً لا علاقة لها بالنتائج منطقيا أو معرفيا أو منهجيا؛ فانفصام عرى العلاقة واضح يتأكد بتلك العبارات الاختزالية التي يُطلقها، والاختناقات الفكرية التي يخرج منها عبر ادعاءات ضيق المقام وعدم القدرة على البسط، ويبدو أنه أرهق نفسه باستظهار أسماء الأعلام وبعض الأحكام التي التقطها مما يظنُّ أنها تمثل نظرياتهم وفي ذات سياق الصدمة؛ ليعلن ضمنا أن الحل لمشكلات السياسة والاقتصاد يكمن في الإسلام؛ لنعود في حركة دائرية دائبة إلى قضايا الإسلام السياسي وشعاراته. وعلاوة على الخلط الشديد بين المصطلحات والمدارس والمذاهب والنزعات الفلسفية يغيب عنه فقه الفلسفة والمنطق، وهو يعذر لأنه بعيد عن هذا الحقل، وكان يريد اجتذاب المتلقي بإغراءات المعرفة وفتنتها، والمحاضر هنا يدرك سمات هذا المتلقي وطبعه الاستهلاكي، ولكن عذره يرتفع عندما يخوض في الحقل دون وعي علمي رصين يحترم به عقل المتلقي المختلف، فيكون بذلك بابا لخلق ديماغوجيا وعظية وصناعة أزمة فكرية أمام الجماهير المشدوهة. ولعل جوهر دَمغجة الهادي يكمن في وثوقيته المطلقة لأحكامه شبه الثابتة التي تخلو من عنصر المراجعة والنسبية، وكأنه رجل محيط بكل النزعات الفلسفية التي يطرح أعلامها وينثر أسماءهم، وكان عليه أن يميز بين الفكر وتاريخه، ويراجع موضوع العلاقة بين المقدمة والنتائج في المحاضرة.
يصل المحاضرُ في النهاية عبر مقدماته وثوابته الموهومة إلى نتيجة فحواها وجودُ مؤامرة على السلطنة وأنها تتعرض فعلا لأزمة تفتح مجال العلاج بالصدمة، وتاليا فإن كل طرح أو قرار حكومي أو مرسوم سلطاني بشأن الضريبة والتدبير الاقتصادي سيندرج تحت الصدمة التي على الشعب العماني أن يرفضها رفضا قطعيا. وهنا يبدأ المأزق الفكري والمنطقي الذي تنبثق من مبدأ عدم التناقض؛ بحيث إن المجتمع العماني أمام حالتين مفروضتين بمنطق الهادي إما أن يرفض الضريبة وتدخلات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مما يحول المجتمع إلى حالة العلاج بالصدمة وفقا لرأس مالية الكوارث، وإما أن يقبل الضريبة وإجراءات التدبير المالي المقترحة وهذا يعني أنه يدخل إلى حالة الصدمة، والفارق بين الحالتين هو الرفض أو القبول فحسب؛ لأن الصدمة بهذا الطرح المتناقض قدر محتوم، ونسي الهادي هذه المفارقة التي تنبثق من اللغة التحريضية الخطِرة على المجتمع بحيث يسحب الثقة من الجمهور في مؤسسات الدولة، عبر ما يسمى في المنطق المتعدد القيم بـ”مفارقة الكذب”؛ إذ القضية كاذبة في الحالتين بسبب التأسيس أو المقدمات غير الصحيحة؛ فالهادي يخلق أزمة وصدمة من حيث يريد علاجهما. ولا أدري ما سرّ هذه المحاضرة وفي هذا الظرف وما علاقتها بالمرحلة الانتقالية، ولماذا يطرح التيار الديني كلّ ما يروق له من أفكار ودون وعي سياسي أو فلسفي؟
لا يفرّق الهادي بين الفكر والمنطق، والقضايا السياسية ونزعاتها؛ فيبدأ برينيه ديكارت، ويزعم أن إمانويل كانط حدد العقل بمقولات محددة حسب تعبيره، وأن إنتاجه في ظرف الزمان والمكان “الأستطيقا”، وأن نيتشه يسلب العقلَ قيمتَه، وأن سيغموند فرويد ألغى العقل نهائيا ورفع من منزلة العقل اللاواعي، وعندما جاء هيدغر – حسب زعمه – قال بأن اللغة هي التي تتحكم في الإنسان، حتى إذا جاء كلٌّ من جون ديوي ووليم جيمس وجيرمي بنتام ابتكروا طريقة جديدة في التعامل مع النفس الإنسانية قائمة على البراغماتية، أي على “النفع” فإذا أراد المستكبر صاحب القوة ووجد فائدة في قتل الضعفاء فذلك له، هكذا يكوّر الهادي كل المذاهب الفلسفية ومحطات فلسفة المعرفة ونظرياتها والسيكلوجيا واللسانيات والوجود والسياسة في قطعة عجين يكورها ويلقي بها في زيت مغلي لتنتفخ مثيرة اندهاش المتلقي.
يتحول الهادي إلى خمسينيات القرن الماضي حيث “مسح ذاكرة الإنسان” عبر فكرة الصدمة الكهربائية؛ لأن الإنسان محكوم بذكريات الماضي؛ مما يحتّم إنتاج إنسان جديد؛ ثم يعود مرة أخرى إلى التحليل النفسي عند فرويد وبالتحديد إلى “التداعي الحر”، والتنويم المغناطيسي! ومنه يدخل الهادي إلى كاميرون وفريدمان؛ لأن الأخير ادعى بأن نظرية كاميرون يمكن توظيفها في المجال الاقتصادي لتحقيق (السوق الحرة)؛ فيكون العالم كله مسرحا لهذه السوق أو الشركات العابرة للقارات؛ ثم دخل في قضيتي البنك وصندوق النقد الدوليين، وذكر أمثلة منها العراق؛ ليخلص إلى النتيجة التي يريدها بشأن سلطنة عمان. هذا ملخص المحاضرة، ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا لم يقدم الهادي قراءة عميقة ووافية لكتاب كلاين وأدخل نفسه في مقدمات فلسفية ولمدارس لا علاقة لها بالصدمة أو عقيدتها، وبعضها مدارس علمية ومنطقية وفي فلسفة العلم؟ لماذا هذا الأسلوب الدراماتيكي في تقديم قضية سياسية- اقتصادية واضحة ومطروحة؟ كيف للهادي أن يضع هؤلاء الأعلام في سلة واحدة وكأنهم حلقاتٌ لمسلسل واحد يصل إلى غاية المؤامرة الكبرى؟ ولماذا كلّ هذه الإسقاطات من كتاب محدد على سلطنة عمان؟
أعتقد أنه لا يمكن التنظير والتأسيس لقضية الأزمة الاقتصادية وقضايا الباحثين عن العمل والضريبة في السلطنة دون وعي لأبعاد الموضوع وتاريخه؛ فإن ما يحدث اليوم في واقعنا العماني هو نتيجة طبيعية لسوء الإدارة لبعض المؤسسات المعنية وملفاتها، وضعف الرقابة والمحاسبة، وقد أعلنت الحكومة ذلك منذ العام (1995) ضمن تحديات التنمية وظهرت في إستراتيجية التنمية الشاملة (1996- 2020)؛ فلا علاقة لها برينيه ديكارت، ولا بكانط أو فرويد أو جون ديوي، أو فريدمان ولكنها نتيجة طبيعية يمكن إيجازها في المثل العربي “يداك أوكتا وفوك نفخ”؛ فالصدمة عندما تحدث وفقا لأطروحة كلاين فإنها تحدث لوجود أزمة إثر كارثة طبيعية، أو بسبب وجود أزمة نحن صنّاعها، وتحويل القضية إلى (فلم هندي) بأسلوب دراماتيكي مدعاة للاستغراب، ولا يستقيم مع الوقائع وهو نوع من التنصّل والترفع عن الاعتراف بالخطأ ومعاودة الإصلاح.
أعتقد أن من بين إشكالات طرح الهادي في محاضرته، علاوة على القبليات الفكرية والافتراضات المسبقة، والأسلوب الإسقاطي التعسّفي وتبرير الخطأ الاقتصادي والتخطيطي تبريرا فجا، وجرّ الفلاسفة إلى الموضوع دونما علاقة أو وعي؛ حديثه عن التصرف بعد “الأزمة” التي خلقت “الصدمة”. وإن نحن سلمنا فرضا بصحة ما يدعيه المحاضر من وجود مؤامرة على السلطنة؛ فإنه يتحتم عليه أن يتحدث عن الأزمة ذاتها وصُنّاعها؛ فإذا كانت الأزمة إثر إعصار كاترينا في الولايات المتحدة صنعت الصدمة؛ بوصفه كارثة طبيعية؛ فما الأزمة الحقيقية في السلطنة التي ستحدث الصدمةُ في أعقابها؟ ولنفترض جدلا أن الأزمة هنا ليست طبيعية وإنما هي إدارية بالدرجة الأولى تتمثل في سوء إدارة الرساميل والأسواق والتعليم والرقابة؛ لأن الأزمة وحدها هي التي تُحدث التغيير الحقيقي؛ فعند حدوث الأزمة، تكون الإجراءات المتخذة منوطة بالأفكار السائدة، ووظيفتنا الأساسية هي أن نطور البدائل السياسية، وأن نبقيها حية ومتوفرة ليكون المستحيل حتمية سياسية (كلاين، 2011: 16) فما البدائل التي تقترحها المحاضرة عندما تعلن أن إجراءات الضريبة وبدائل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مؤامرة فريدمانية؟
ترك الهادي – وهذا يعدّ من بين إشكالاته أو قراءته المقتضبة لأطروحة كلاين – قضية مهمة ذات علاقة بالوضع السياسي في البلدان العربية لا سيما تلك التي تضع الدين ضمن الأوراق المدرجة في حزمة أدواتها، وترتبط هذه القضية بتغييب أصحاب الآراء وتهميشهم وتعذيبهم واعتقالهم ومحاكمتهم؛ لا لشيء سوى أنهم يعترضون على السياسة المعلنة في بلدانهم وبطرق حضارية متمثلة في المناقشة والكتابة؛ فلماذا يترك الهادي هذه الظاهرة المهمة إذا كان فعلا ينوي تقديم نقد علمي لعقيدة الصدمة الفريدمانية في نسختها الأصيلة لا سيما وأن الرجل عمل مستشارا عند الدكتاتور التشيلي أوغستو بينوشي وهو الذي فتح زنازين التعذيب ضد الأشخاص الذين يحتمل أن يكونوا عقبة أمام التحول الرأسمالي؟ (كلاين، 2011: 17)؛ فعودة الدين ذاته أو استدعاؤه إلى المجال العام بهذه الطريقة لتفسير مسارات الاقتصاد والسياسة محط شبهة وتنصل؛ ولذلك يلاحظ أن جهاز الرقابة في السلطنة تلجأ اليوم إلى لغة الوعظ بدلا من توسّل القانون والاشتغال الرصين، ولو كان الوعظ فاعلا لفعل في تاريخه الطويل على المنابر لخلق النزاهة.
وفي سياق محاضرته ينسى قضية أخرى مهمة في تفسير عقيدة الصدمة الذي أخذه على عاتقه كما وعد جماهيره، وهي تتعلق بخصخصة القطاعات الحكومية المهمة، وهي سياسة اتخذتها السلطنة منذ زمن، وأنا أرى أن السبب الحقيقي في هذه السياسة الاقتصادية هو تضارب المصلحة؛ بسبب وجود “الوزير التاجر” في أروقة الحكومة والقرار الاقتصادي، وهو يقع بين نزعتين متعارضتين تتعلق الأولى بالمصالح الشخصية وتسهيل إجراءات شركاته والحصول على أفضل البدائل عبر التشريع والممارسة، بينما تأتي الثانية متمثلة في المصلحة العامة، وأفرزت هذه السياسة تخلي الحكومة عن الأسواق، وأدت إلى الاستحواذ على الأراضي ذات الأهمية الاقتصادية، وظهور إشكالات الاحتكار وشبهات الفساد؛ بحيث يصبح نقاش هذه الظواهر من المحرمات تبعا للإشكالية السابقة، ولتصبح الخصخصة من أهم أدوات السياسة الاقتصادية التي يتجاهلها الهادي أو لا يدركها. كما يترك موضوع الأسواق الحرة في السلطنة، ومسألة الولاءات وطبيعة الاقتصاد الأوليغارشي وتكوين البورجوازيات المتنوعة والتي من بينها البورجوازية الدينية، ويترك الأزمة الحقيقية بسبب الاعتماد الكلي على النفط وهجرة الزراعة؛ فلماذا لم يطرح المحاضر الموضوع طرحا مركزا وواضحا كما فعلت المؤلفة في كتابها؟
وعندما طرح الهادي محاضرته، وعرّج على الفلاسفة وعلماء النفس نسي أن العلاج بالصدمة يستدعي توفير حالات إضافية من الصدمات الجماعية وفقا لمدرسة شيكاغو، كما عالجته نعومي (كلاين، 2011: 23- 29)، وقد تؤدي هذه الحالات إلى تأجيل الممارسات الديمقراطية؛ وحينما نريد فعلا تجاوز الأزمة فإن تعطيل الصلاحيات البرلمانية المرتبطة بالرقابة تعد أهم العقبات التي تعيق حركة التنمية والعلاج؛ مما يفضي إلى تراجع الشفافية والمساءلة، وحرية الرأي؛ فالعلاج بالصدمة والذي يحذر منه الهادي دون قراءة معمقة تصنعها السياسات، وتراجع الوعي وظهور الانتهازية وتعرقل الديمقراطية؛ بحيث تتخلى السياسة عن الإصلاحات الحقيقية؛ أما نيتشه فلا علاقة له بأزمة الباحثين عن العمل ولا بالضريبة وسياسات التقشف.