

“إن كنتَ لا تعرف بالضبط اللحظة التي تُطفأ فيها أنوار حياتكَ، فعليكَ مواصلة القراءة حتى تنطفئ هذه الأنوار”.
كانت هذه العبارة التي صدَّر بها الكاتب والناقد الفني والمُترجم الأسترالي الشهير كلايف جيمس كتابه “قراءات أخيرة”، حينما شخّص الأطباء بشكل مؤكد إصابته بمرض سرطان الدم سنة 2010. بعدها بشهور، قرر جيمس نقل مكتبته الشخصية إلى منزله في مدينة كمبردج، ليواصل الحياة، والقراءة، والكتابة بطريقته المُعتادة، كأنّه لم يسمع شيئًا من أطبائه. في مقدمة الكتاب كتب جيمس أنّه وضع هذا الكتاب بدعوةٍ من محرّري جامعة ييل الأمريكية للكتابة عن الكتب التي قرأها مؤخرًا. يقول جيمس: “ربما كانوا يقصدون آخر كتب سوف تقرؤها في حياتكَ”. بدأ جيمس حياته الأدبية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حينما بدأ في كتابة مقالات نقد فني للمسلسلات التليفزيونية البريطانية وقتها، ثمّ كتبَ وأخرج سلسلة لصالح قناة بي بي سي في ثمانية أجزاء، أطلِق عليها “الشُهرة في القرن العشرين”، وهي سلسلة حلقات ضمّت فترة زمنية مدتها ثمانية عقود، من سنة 1900 حتى 1980، سلط في كل حلقة الضوء على أشهر شخصيات القرن العشرين المشهورين عالمياً خلال ذلك الجزء من القرن، قدم جيمس تعليقات مسلية حول المشاهير الذين تم تصويرهم والطرق المختلفة التي أصبحوا مشهورين بها (من بينا لقاء ممتع مع فرانك سيناترا، مُتاح على قناة يوتيوب).
في سنة 2015 أصدر كليف جيمس كتابًا شائقًا تضمّن ثلاثين مقالة ومراجعة أدبية، حدّثنا فيها جيمس عن كتب أعاد اكتشافها، أو رجع إليها في الفترة التالية لتشخيص إصابته بالسرطان. سردَ كلايف جيمس قائمة بمجموعة من الأعمال والمؤلفات الأدبية والتاريخية والفنية، من بينها – على سبيل المثال لا الحصر-: الشمس تُشرق أيضًا لإرنست همنجواي، أعمال جوزيف كونراد، مذكرات نساء هوليود، التاريخ الشخصي للكاتبة كاثرين جراهام، مع التركيز بشكل واضح على أعمال روديارد كِيبلنج، والشاعر الأمريكي فيليب لاركِن، والكاتب الألماني الكبير ف. جيورج زيبالد وكتابه “حلقات زحل”، الذي كان يراه جيمس عملًا أقرب إلى جنس الرواية منه إلى كتب الرحلات والسيرة الذاتية. اقتبستُ من المقدمّة المقطّع الآتي:
“في أوائل سنة 2010 حينما أخطرني المستشفى بإصابتي المؤكدة بسرطان الدم، لم أكن أسمع دقّات الساعة، ألحَّ عليّ تساؤل عن جدوى قراءة أي شيء، جديدًا كان أم قديمًا، أو حتى إعادة قراءة أعمال مهمّة كنتُ قد وقفتُ على شيءٍ منها. الشِعر.. نعم، كنتُ وقتها أضع اللمسات الأخيرة على كتابي “دفاتر شعرية”، و كانت تنقصه بعض الملاحظات الإضافية، ولما كنتُ ما أزال أمشي على قدميَّ، ولم ألزم الفِراش راقدًا على ظهري بفعل المرض، بدتْ كلمة “سأعمل لاحقًا” كلمةً وهميةً، لا علاقة لها بعالم الواقع، إن كنتَ لا تعرف بالضبط اللحظة التي تُطفأ فيها أنوار حياتكَ، فعليكَ مواصلة القراءة حتى تنطفئ هذه الأنوار من تلقاء نفسها”.
خططت أسرة جيمس نقل محتويات شقّته في لندن، حيث يعيش ويقرأ ويكتب، إلى شقّة ثانية في مدينة كمبردج ليكون قريبًا من بقية أفراد العائلة لمتابعته ورعايته. استلزم الأمر التخلّص من نصف مكتبته الشخصية التي قضى عُمرًا طويلًا في اقتناء محتوياتها (وهو مصير مكتبة الكاتب الأرجنتيني الكبير آلبرتو مانجويل التي أفرد كتابه الأخيرة كاملًا Unpacking my Library لسرد تفاصيلها.
يقول جيمس عن طريقة اختيار الكُتب التي حواها كتابه: “حتى بعدما طلبتْ مني جامعة ييل إعداد كتابٍ صغير عن قراءاتي الأخيرة، واصلت القراءة دون نظامٍ محدّد، مازجًا بين الكتب ذات الأهمية الثقيلة بالكتب الأقل أهميّة وشأناً. ضممتُ إلى الكتب التي سبق لي قراءتها كتبًا أخرى كان ينبغي لي قراءتها”. الطريف أنّه بعد وصول تلك الرسالة إليه، تنامتْ داخله رغبة يصفها بأنها “جنونية” لشراء المزيد من الكتب، رغبة لا تخضع لأي منطق متصل بالحالة الصحية، ولا ذهنيةَ ولا وجود لمتّسع من الوقت لقراءة كل هذا الكمّ من الكتب. في فصول الكتاب، يعود مكرّرًا العبارة السابقة نفسها: عليكَ مواصلة القراءة حتى تنطفئ هذه الأنوار من تلقاء نفسها”.
في فصول/مقالات الكتاب الثلاثين يناقش جيمس الكّتّاب الذين طالما أحبّهم ( همنجواي، فيليب لاركِن، سيرة صمويل جونسون، وشكسبير)، وأولئك الذين يعود إليهم (جوزيف كونراد وأنثوني بول)، أو كّتابًا اكتشفهم للمرة الأولى (أوليفيا مانِنج).
يحمل الفصل الأول من الكتاب عنوان “البداية مع هيمنجواي”. يقول جيمس إنّه قرأ رواية إرنست همنجواي الشهيرة “الشمس تشرق أيضًا” قبل زمن طويل، حتى إنه نسي جلَّ تفاصيلها، اللهم إلا التفاصيل الغريبة، مثل أشجار الكستناء في باريس، ومسابقات الثيران في مدينة بنبلونة الإسبانية. يقول جيمس إنّ إعادة قراءة هيمنجواي أثارتْ في نفسة شعورًا بالغيرة من قدرة هنمجواي على كتابة سردٍ بسيط مفعم بروحٍ ساخرة شفافة.
وفي الفصل الثاني بعنوان ” زيارة ثانية لكونراد”، يسلّط جيمس الضوء على أعمال الكاتب البولندي الأصل جوزيف كونراد، واصفًا إياه بأنه “الكاتب الذي بلغ سن الرشد السياسي قبل أي كاتب آخر، حتى حينما بلغ معاصروه سنّ الرشد، كانوا قد وصلوا إلى ركبته فقط. يشير جيمس إلى آراء كونراد السياسية انطقلت من رؤية مفادها أنّ “الانتصار في الحرب” يدل على أن “السلام ليس مبدأ، إنه فقط حالة مرغوبة ، ولا يمكن الحصول عليها دون القدرة على العنف، السِلم والحرب وجهان لعملة واحدة، رغبة البشر في الاستحواذ، واصفًا كتاب “Nostromo بأنه واحد من أعظم الكتب التي قرأها على الإطلاق”.
تستمر فصول/مقالات الكتاب على هذا النحو: مناقشة لفكرة العمل الأساسية والتركيز على مواطن القوّة في الكُتّاب الذين أحبّهم جيمس مثل البريطاني نايبول، شكسيبير، فيليب لاركن، روديارد كِبلنج، ويُنهي الكتاب بمقالتيْن إضافيتيْن عن همنجواي وكونراد بعيون أخرى، عيون مَن يودّع أحبائه، على أملٍ بلقاءٍ في مكان آخر.
قد يرى قارئ أنّ الكتاب مجموعة من المراجعات الأدبية والقراءات لرجلٍ في أيامه الأخيرة، استعدادًا للموت، أو مجرد “كورس” مكثّف اختزل فيه آراءه في الكتب والأعمال التي أثّرت في حياته، وقد يراها قارئ محاولة لقتل الوقت قبل أن يقتل الوقتُ أعصابَ رجلٍ مصابٍ بمرض عضال لا أمل في شفائه، لكن الحقيقة أنّ الكتاب كان إعلان حربٍ على اليأس و آلام المرض.
أنتج كلايف جيمس في الفترة التالية لاكتشافه الإصابة بسرطان الدم سنة 2010 وحتى سنة صدور هذا الكتاب سنة 2015، خمسةَ كتب (ترجمة الكوميديا الإلهية لدانتي، مجلدان في الشعر، ومجلد في النثر، والكتاب الذي بين أيدينا). وكأن الكتب ومحاورتها سيف مسلّط على رقبة الموت وآلام المرض، وحتى يومنا هذا لا يزال كلايف جيمس يواصل القراءة والكتابة.