أنت جواب السؤال: من رسائل هيرمان هـِـسّـه إلى الشباب

كتب بواسطة أحمد الزناتي

قبل شهور قليلة صدرت عن دار Insel Verlag الطبعة السابعة من كتاب (أنت جـواب السؤال: رسائل إلى الشباب)، بمقدمة المحرّر الأدبي الكبير فولكِر ميشلز (ستة وسبعون عامًا)، الذي أوقف حياته تقريبًا على التنقيب في تراث الشاعر والروائي الألماني الأشهر هيرمان هسّه (1877-1962) على مدار قرابة خمسة عقود، وعلى الأخصّ في تركة الرسائل الضخمة مع كِبار أدباء عصره، كمراسلاته مع أستاذه الأديب الكبير توماس مان، ومعاصره شتيفان تسفايج، والناشر الكبير بيتر زوركامب، والأديب رومان رولان وغيرهم.
في السطور الأولى من الكتاب يقول ميشلز إنّ إجمالي ما تيسّر جمعه من مراسلات هيرمان هسّه بلغ حتى اليوم خمسًا وثلاثين ألف رسالة، حُفِظَ قسمٌ منها في أرشيف المكتبة المحليّة لمدينة بيرن السويسرية، والقسم الثاني مـحـفـوظ في أرشيف السجلات الأدبية في مدينة مارباخ الألمانية، وهي متاحة للباحثين.
بدأت قصّة الكتاب في سنّة 1970، حينما شرع هاينِر هيرمان هسّه، نجل الكاتب الراحل، بالتعاون مع مُحرّر الكتاب فولكِر ميشلز وزوجته في البحث والتنقيب فيما تركه هسّه من رسائل إلى قُرَّاء وأصدقاءٍ (من بينهم أصدقاء أبنائه)، وتعليقات على مخطوطات أعمال أدبية مُرسلة إليه، وتركها لدى زوجته “نينون” قبل رحيله في 9 أغسطس سنة 1962. استطاع المحرّر وزوجته استخلاص خمسة عشر ألف رسالة، هي إجابات/تعليقات هسّه على الخطابات المُرسلة إليه، وقد نُشرت في أربعة مجلدات ضخمة في الفترة من سنة 1973 حتى سنة 1984 تحت عنوان ” هيرمان هـسّه: الرسائل الكاملة”، نشر منها المحرّر في هذا الكتاب نحو عشرة بالمئة فقط، منتقيًا على رسائل هسّه إلى الشباب كما يقول العنوان.

في البداية أودّ الإشارة إلى أن هيرمان هسّه قد حشد تركيزه في نهاية عشرينيات القرن السابق، وبعد ذيوع صيته وتحسّن أحواله المادية والمعيشية، على محوريْن أساسيْن؛ الأول هو كتابة مراجعات لأعمال أدبية وفكرية غير معروفة للقارئ الأوروبي بهدف حثّه على تغيير ذائقته الأدبية، وتعريفه بأعمال قد لا يعلم بوجودها من الأساس (أصدر هسّه سِفره الضخم “العالم في كتاب” فيما يزيد عن 3500 صفحة، ضمّ مختارات أدبية هي خلاصة قراءاته ومراجعاته). أما المحور الثاني فكان اهتمامه بتواصله مع الكُتّاب الشباب، وخاصة المغمورين الذين آمن بموهبتهم الأدبية، وتقديمهم إلى جمهور القُرّاء؛ من بينهم على سبيل المثال لا الحصر الكاتب النمساوي روبرت موزيل، و الألماني فالتر بينيامين، وإلياس كانيتي، وآرنو شميدت، والأمريكي جيروم ديفيد سالنجر، وغيرهم.


في الكتاب الذي بين أيدينا (أنت جواب السؤال: رسائل إلى الشباب) يلتفت هسّه إلى الشباب التفاتًا خاصًا، فيقدم خلاصة تجاربه الأدبية، وتأملاته في الحياة والفنّ إلى الشباب. يشير المحرّر إلى تفاعل هسّه النشِط في إجاباته عن رسائل قُرّائه من الشباب تحديدًا (الفئة العمرية من سنة 15 حتى 35 سنة وفقًا لكلام ميشلز)، لكنه مع ذلك؛ تفاعل اتسم بالاقتصاد والإيجاز لعوامل عدّة، على رأسها ضعف بصره المزمن، ورغبته في الردّ على أكبر عدد من الرسائل. وقد وقع اختيار المحرر على مجموعة متبانية الأطياف من الرسائل، أعطت فكرة شاملة عن رؤية هسّه لموضوعات مثل: الله والإيمان، اليأس، مغزى الحياة، مشكلات الشباب والمراهقة، السياسة، إلخ.
انتقيتُ في السطور القادمة نماذج من رسائل هـسّـه وتعليقات، حرصتُ فيها على تقديم ألوان متباينة من الموضوعات التي ناقشها الكاتب الكبير في رسائله.

في رسالة بعث بها هسّه إلى شابٍ (لم يُذكر اسمه)، يشكو فيها يأسه، واضطراب أفكاره (نُشرت في جريدة نيو زوريشير تسايتونج بتاريخ 21 سبتمبر 1919) قال: تُخبرني في خطابكَ أن غارق في اليأس ولا تدري ما تفعل، لا تدري بِمَ تؤمن، ولا على أي شيء تعلّق أملك، لا تدري إن كان ثمّة إله أم لا. لا تدري هل لحياتكَ معنى أم إنها عبثية في المطلق، لا تدري إن كان ثمّة معنى للوطن أم لا، تقول إنك لا تعرف أيجدر بكَ تحصيل الزاد الروحي والفكري، أم الاكتفاء بملء بطنك بالطعام وكفى فالعالم ممتلئ بالشرور ولا سبيل لإصلاحه. أعتقد أنّ الإطار الذي تدور في فلكه روحك الآن هو الإطار الصحيح. أقصد كونك لم تعد تعرف إن كان ثمّة إله أم لا، وأنك صِرت لا تميّز الخير من الشرّ أفضل بكثير مما لو كنتَ على يقين من كل شيء، مُنفذًا ما كنتَ تعتقده “خيرًا” آنذاك، لكنك الآن تكتشف أن الخير الذي ارتكبته لم يكن خيرًا، وأن الله الذي آمنتَ به لم يكن هـو الإله الحقّ. أفهمتَ ما أقصد؟ تقول إنك تحبّ نيتشه. اقرأ السطور الأخيرة من كتابه “تأملات في غير أوانها”، التي تتحدّث عن مساوئ التاريخ ومنافعه. ستتعلّم. لكن لا تقف عن نيتشه، ولا عند غيره من الأنبياء والمُصلحين. ليست وظيفتنا أن نلقن الشباب دروسًا، ولا أن نوفر عليهم مشقّة السعي وبذل الجهد لاكتشاف الحقيقة، ولا أن نشير عليهم أي طريق يسلكون. مهمتنا أن نذكّرهم أنّ هناك إلهًا في هذا الكون، وأن هذا الإله يسكن في قلوبهم، وأن عليهم البحث عنه، والحديث إليه”.
“يحاول الله أن يقول لكل واحدٍ منا شيئًا محددًا، شيئَا مقصودًا، وسوف نصير أعداءه إن لم نحاول تقبّل ما يقوله لنا، وإن لم نساعده على تحقيق مراده مِنا..هذه حقيقة، نعرفها في أعماقنا، ونحن لها مُنكرون”.
كان هسّه دائمًا ما ينفر من تبجيل الناس المبالغ فيه، ومن النظر إليه كمُخـلَّص” أو “نبيّ. ففي رسالة مؤرخة في 4 مايو 1931 إلى السيد إر. ب [أغلب الرسائل تخلو من أسماء مُرسليها] يقول:”..لا أملك تعاليم ثابتة، مقولبة، جاهزة لكي أقدمها إلى الآخرين، أنا ابن التحوّل والصيرورة. لا تحدوني أية رغبة في أن أبيّن للناس طريقهم في الحياة، طالما جرّبتُ دروبًا كثيرة في الحياة، ورسمتُها داخل أعمالي، إما بشكل ساخر أو بشكل جادّ”.
أحيانًا كانت ترد إليه رسائل يصفها بأنها نزقة، لم يكلف مُرسلها نفسه عناء القراءة والبحث والجهد، فكان يقسو في ردّه أحيانًا كما نقرأ في الرسالة الآتية التي وردتْ من طالبة تدرس الفلسفة بإحدى الجامعات الألمانية، مؤرخة في 15 يوليو 1930 (من الآنسة جي.دي – طالبة فلسفة)، يقول هسـّه:
“يغلب عندي انطباع بأنكّم جيل الشباب تستخفون دائمًا بالأشياء، تسخرون من كل شيء. تتحدّثين عن البوذا وتقولين إنك تحبينه بسبب أفكارٍ لا علاقة لها بالبوذا من قريب أو بعيد، بينما لاتريْن فيه المبادئ التي عاش من أجلها وسعى إلى نشرها. تقرأين كل شيء بسرعة، الأديان ورؤى المفكّرين إلى العالم، كل شيء خاضع للاستهلاك السريع. لا أستطيع أن أجيبَ عن أسئلتك، لأني شخصيًا ما زلتُ في طور البحث عن إجابات عن أسئلتي الخاصّة، أقف على الدوام حائرًا أمام قسوة الحياة على البشر، لكن على يقينٍ من أن عبثية الحياة أمرٌ طارئ عابر، يمكن تجاوزه من خلال السعيّ إلى أن أمنح حياتي معنى وغايةً ما. لستُ مسؤولًا عن تبرير جدوى الحياة أو إثباث عبثيتها، فحدود مسؤوليتي تبدأ وتتوقف عندي أنا، أنا مسؤول عن نفسي، لا عن البشرية كلها، حدود مسؤوليتي تنتهي عندما فعلته بحياتي التي سأعيشها مرّة واحدة فقط، يبدو لي أنكم أنتم -أيها الشباب- تتملصّون من مسؤولياتكم، وهنا مكمن الخلاف بيننا”.
كما تبادل هسّه خطابات مطوّلة مع أبنائه، وعلى الأخص مع ولديْه برونو وهاينر. اخترتُ من بينها الرسالة الآتية: خطاب إلى ابنه هاينر، مؤرخ في 10 يوليو 1932:
عزيزي هاينر.. أشاطركَ الرأي فيما قلته عن الشيوعيين الذين يتسم سلوك بعضهم في الحياة اليومية بالنُبل، وبذل المساعدة، والشجاعة وإنكار الذات. لدَيّ بعض الأصدقاء الشيوعيين، من بينهم من يتمتع بهذه الخصال النبيلة. لكن هذه الأخلاق لا علاقة لها بالحزب ولا بالأفكار التي يعتنقونها. الحقيقة أنّ أي مناصر للشيوعية عليه أن يسأل نفسه سؤالًا واحدًا :”هل غايتي هي إشعال الثورات فقط؟ هل أريد حقًا أن يقتتل “بعض الناس”، لكي يحظى “بعضهم الآخر” بحياة أفضل (نسبيًا)؟ هذا هو بيت القصيد”.

كثيرًا ما كانت تصل هسّه رسائل كثيرة متعلقة بتوصيات الكتب والأعمال التي ينبغي قراءتها، نقرأ منها الرسالتيْن الآتيتين الكاشفتيْن عن رؤية هسّه لموضوع الكتب. ردًا على استفسار من قارئ شاب حول توصيات الكتب، فيقول ردًا عن كاتب شابّ:” “لا أومن بقائمة أفضل مئة كتاب أو أفضل ألف كتاب، فلكل إنسانٍ منا مجموعة كتب جميلة وقيّمة ينتقيها بعناية، هي المجموعة القريبة إلى نفسه وعقله. لا يُمكن لأي قارئ تكوين مكتبته الشخصية بمجرد شراء الكتب وتكدسيها فوق الرفوف، والأولى بالقارئ أن يصغِي لصوت احتياجه المعرفي، وشغـفـه الشخصيّ، فيكّون مكتبته الشخصية مثلما يكون صداقاته”.
أما عن طريقته في تناول الأعمال الأدبية فيقول في رسالة أخرى: “تكتسب أحكامنا على الكتب أهميتها حينما نمدح كتابًا ما، أما الأحكام التي تنتقص من شأن كتاب ما، فهي أحكام جائرة، وأغلب ما يتبادله الناس من آراء حول الكتب هي أحكام من هذا النوع. فحينما أقول عن شخصٍ ما – مثلًا- إنني لا أفضّل صحبته، فهذه مقولة موضوعية، لأنني بذلك لا أُقـيَّـمه ولا أصدر عليه حُكمًا، بل أترك القرار إلى مَن يسمعنا، فإن شاء صاحبَ هذا الشخص، وإن لم يشأ لم يفعل. إما إذا وصفتُ شخصًا بأنّه “وضيع أو سكّير” مثلًا، فهذا سلوك يجافي الأخلاق. الأمر ذاته ينطبق على الكتب؛ فتـرصّد الأخطاء داخل رواية أو كتاب لا يُعدّ مراجعة، بل نميمة بغيضة لا تليق بمثقف حقيقي”.
وردًا على رسالة من فتاة شابّة سألت هسّه توضيحًا وشرحًا لروايته الشهيرة ذئب الأحراش، وهي مؤرخة في مارس 1951: يقول هسّه:” يؤسفني إخباركِ أنني لا أستطيع تقديم شرح أو تفسير لرواية ذئب الأحراش. ففي مقدمة الطبعة الجديدة للكتاب ألمحتُ إلى المغزى العام للرواية. دون الحاجة إلى تلقين دروسٍ أو غيره، أودّ أن أهمس في أذنك بنصيحة: إذا رفض قارئ كتابًا أو عملًا فنيًا، فلا جدوى من محاولة المؤلف للدفاع عن عمله أو تبريره. أعمال الفنانين لا تحتاج تفسيرًا ولا دفاعًا، فهي صبورة وستنتنظر، ومتى كانت على درجة عالية من الجودة والقيمة، فسوف تعيش عُمرًا أطول بكثير من أعمار مَن اختلفوا حول قيمتها”.
من بين الرسائل المتأخرة رسالة وردتْ إلى هسّه بتاريخ 9 يناير 1956 من شاب يُدعى (ب)، يلتمس فيها من هسّه تأويلًا وشرحًا لأعمال فرانتس كافكا. نعرف أن هسّه كان من كبار داعمي فرانتس كافكا، بل يمكننا القول إن هسّه كان أحد مكتشفي “كافكا”، وعـدَّه كاتبًا موهوبًا، ووصف أعماله بأنّها واحدة من أكثر الظواهر الأدبية إثارة للدهشة والإعجاب في عصرنا.
يقول هسّه ردًا على خطاب الشاب: “لا تعالج قصص كافكا مسائل دينية أو ميتافيزيقية أو أخلاقية، لأنها أعمال فنيّة خالصة بالإساس. والقادر على قراءة أعمال كاتب، دون إقحام أسئلة أو محاولة استخلاص نتائج أخلاقية أو فكرية منها، مستعد ببساطة لقبول ما يودّ الكاتب قولَه، فسوف يعثر داخلها على إجابات شافية عما يشغل باله. كافكا كان يرسم لنا أحلامه ورؤاه حول حياته الوحيدة القاسية، وكان يقدّم إلينا قصصًا شبيهة بمعايشاته، ومسّراته وأوجاعه، ومطلوب منا [كقرّاء] قراءتها وقبولها، لا تحميلها بتأويلات جامحة”.
أما الرسالة الأخيرة في الكتاب، فكانت مؤرخة في ديسمبر 1961، أي قبل شهور من وفاته في أغسطس 1962، بعث بها إلى طالبة أمريكية اسمها سوزان برومبيرج.
استرعى انتباهي أن هذه الرسالة -على إيجازها- حملتْ روحًا عرفانية رهيفة، رسالة قصيرة لوداع طويل. تقترب كثيرًا من فكرةٍ أوردها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في كتابه “العبادلة”، الذي كتبه في أواخر أيامه وألمح فيه إلى فكرة “البُدلاء”، إذ يقول الشيخ الأكبر:” ونور الشمس على صفة واحدة، فيضرب الزجاج المتلوّن، فينعكس، فيظهر فيه من الألوان ما عليه الزجاج في رأي العين. الزجاج القلوب والألوان الاعتقادات، والحق لا يتغير، ولكن هكذا تراه”.
بينما يقول هيرمان هسّه في رسالته الأخيرة: “عزيزتي آنسة برومبيرج.. خالص الشكر على خطابك الرقيق المُفرح، لكنكِ عثرتِ عليَّ بعد فوات الأوان، فأنا شيخ هرِمٌ في الرابعة والثمانين، وأدنو للانسحاب من هذه الدنيا. عاجلًا أم آجلًا ستجدين بديلًا يحلّ محلي. الحقيقة لا تتغير، والحق لا يتغيّر، حتى وإن رأيناه بوجوه متبانية”.

السابع والتسعون ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي