أوللأخلاق علم؟!

كتب بواسطة آن الكندي




وقعت في يدي جوهرة ثمينة منسية، كلما قلبتها بين يدي ازداد إعجابي بها، فمثلها لا يُخفى جماله، توضع في متحف رقي الفكر الإنساني والأخلاقي. بعد بحث طويل وقراءات كثيرة لكتب غربية ضمن ما يُعرف بقائمة “الأكثر مبيعا” كنت أحاول أن أجد فيها ضالتي لتطوير الذات، لأكتشف بعد ذلك أنه مصطلح مترجم ترجمة حرفية ل Self development لا يرقى إلى مستوى عمق مصطلح تهذيب النفس، وأعيد الاكتشاف أكثر لأعرف أنها رياضة النفس.
أي كلمات تلك التي يمكن تُكتب في حضرة ابن حزم، عالم النفس وفقيه المذهب الظاهري المتفرد في فكره الذي أحرقت كتبه، وعاش شريدا في آخر سنوات عمره ليذكرنا بعد ألف سنة من وفاته أن الاختلاف الفكري جريمة عقابها النفي أو الموت. أسرتني كلمات في رسالة لابن حزم بعنوان “الأخلاق والسير في مداواة النفوس”، أعجبت بحكمته ورقي فكره؛ فكل حكمة في هذه الرسالة مفندة بدليل وحجة مقنعة، فهي خلاصة ما أمضى عمره فيه من تجارب شخصية وملاحظات دقيقة.

عامة الناس لا يدققون تدقيق العظماء في نفوسهم؛ فتمر عليهم نوائب الدهر وتقلباته بلا تساؤل، فيبقون دون تغيير يذكر في شخصياتهم إن لم تدمرهم، فالصعاب لا تبني إلا الأنفس العظيمة. بعضهم ينهل العلوم وتبقى له خزانة المعلومة دون أثر في النفس، فما هو سر رقي النفوس كما يذكر ابن حزم؟ يقول العالم الأندلسي:
“طوبى لمن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم الناس منها”، “ولو علم الناقص نقصه لكان كاملا”، “لا يخلو مخلوق من عيب والسعيد من قلت عيوبه ودقت”. “العاقل من ميز عيوب نفسه فغالبها، وسعى في قمعها”، “والأحمق من جهل عيوب نفسه إما لقلة علمه وتمييزه أو أنه يقدر عيوبه خصالا، وذلك من أشد العيوب”. “واعلم أن رياضة النفس أصعب من رياضة الأسد، ذلك أن الأسد إذا سجنته أمنت شره، أما النفس إذا سجنت لم يؤمن شرها”. قولوا لي فيما يفنى عمر الإنسان إن لم يفهم نفسه؟ وكيف ننشغل بغيرنا؟ وما أسهل نقد عيوب غيرنا؟! وما الإنجاز إن لم يكن اليوم أفضل من أمس؟ اقض عمرك في منافسة الغير، وانس نفسك حتى تظل في دوامة “محلك سر”.

تعدى ابن حزم مرحلة ذكر الفضائل والأخلاق إلى فهم تركيبها، فلم يخطر ببالي يوما أن “الطمع أصل لكل ذل ولكل هم، وهو ضد نزاهة النفس، وهي فضيلة متركبة من النجدة والجود والعدل والفهم، والطمع الذي هو ضدها فيتكون من صفات مضادة للأربع وهي: الجبن والشح والجور والجهل”. إن فهم الصفات والعيوب يعني القدرة على فهم النفس ومعرفة الناس. “وتتولد من الحرص رذائل عظيمة منها الذل والسرقة والغضب والزنى والقتل والعشق والهم بالفقر والمسألة لما بأيدي الناس. والحرص متولد من الطمع والطمع متولد من الحسد والحسد متولد من الرغبة، والرغبة متولدة من الجور والشح والجهل”.
لطالما تساءلت، كيف يعد الناس الدهاء ذكاءً؟ فهمت أخيرا من ابن حزم أن الدهاء ليس حكمة. قال ابن حزم: “التحيُل لإنماء المال وتسبيب الجاه بكل ما أوتي من معصية أو رذيلة فذلك ليس عقلا، فهم ممن وصفهم الله لا يعقلون. سائسين لدنياهم مثمرين لأموالهم مدارين لملوكهم، حافظين لرئاستهم، فهذا خُلق يسمى الدهاء وضده العقل أو السلامة”.
وقفت مليا عند قوله: “الجبن يولد مهانة النفس والكذاب مهين النفس، بعيد عن عزتها المحمودة”. سطر ابن حزم قاعدة أخلاقية حين قال:” أول من يزهد في الغادر من غدر له، وأول من يمقت شاهد الزور من شهد له به، وأول من تهون الزانية في عينه الذي يزني بها”.
ابن حزم فليسوف حدد الهدف من سعي الإنسان في الحياة، وأجاب الباحثين عن معنى السعادة. “العاقل لا يرى نفسه ثمنا إلا الجنة، وباذل النفس في عرض الدنيا كبائع الياقوت بالحصى فالعمل لله تعالى فما عدا هذا فضلال وسخف”. يعيش الإنسان حياته كما يرى ابن حزم طاردا للهم، فطالب العلم يطلبه ليطرد به هم الجهل، وطالب الصيت يريد من طلبه طرد هم الاستعلاء عليها، وطلاب المال ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم”. فكيف لا نفهم بعدها دوافع النفس ونوازعها؟!.
هكذا هم علماؤنا الأولون، فأي تراجع نعيش فيه ؟!. لا أريد تلويث ما كتبت عن عظيم الإرث الفكري الذي تركه ابن حزم بواقع التعليم اليوم. بحثت وتساءلت عن المادة الأخلاقية التي تدرس وتغرس في المدارس، وكيف لأجيال تبنى دون تدريس للفلسفة؟ فالمطلوب منك التلقي لا التفكير، فذلك من التكفير والعياذ بالله!
ختاما، أراني الناس أن النصح عداوة، فلم يقول ابن حزم “و ليس كل صديقٍ ناصحاً، لكن كل ناصح صديق”؟!. النصح مرادف للصداقة عند ابن حزم، وما النقد المخلص إلا نصح، فلم العداوة ؟!

السابع والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

آن الكندي