للكاتب: نيثان تايلر پمبرتون
كتبت الفيلسوفة حنا أرندت في عام ١٩٦٩ حول تجاهل العنف بوصفه موضوعًا لدراسة جادة، والإهمال الشديد الذي طاله من قبل العلماء والمثقفين. تقول: ”لا أحد يدرس أو يتساءل عما هو بادٍ للجميع“. كانت أرندت تناقش هذه القضية خلال واحد من أكثر الامتدادات التاريخية تصدعاً في التاريخ البشري، وقتٌ أصبح فيه العنف والاغتيال سلاحاً سياسياً منتشرا بين كبرى الخلافات التكتونية أثناء الحرب الباردة. وقد أدى ظهور التلفاز وبثه لحوادث العنف المتفرقة في تلك الفترة إلى خلق إحساسٍ ينبئ بأن العنف شيء عالمي. سيحتاج الأمر إلى أكاديميّ غريب أطوار يتمتع بشخصية جامحة لكي يُلقي نظرة فاحصة على هذا الموضوع الذي لم يطرقه أحد من قبل.
ظهر بعد ثلاث سنوات من تصريح أرندت المربك، عالم أنثروبولوجي مكسيسي يدعى سنتياغو جينوڨيه Santiago Genové، وأخذ هذه القضية على عاتقه. يبلغ هذا الباحث من العمر خمسين عاماً، وهو متمرس في عدة تجارب طواف طويلة المسافة (أمر كان يحدث في سبعينيات القرن الماضي، على ما يبدو)، قام بابتكار تجربة تناسب جموح تلك الحقبة. أبحر عبر المحيط الأطلسي، مع أربعة رجال وستة نساء، على متن طوافة صلبة بلا محرك، تشبه الصندوق، حتى يتمكن من دراسة الصراعات الإنسانية عن قرب. صراعات كان يعتقد أن فتيلها لابد وأن يشتعل تحت ظروف سيئة تشيب العقل. يمكن دراسة طبيعة العنف على متن الطوافة في بيئة محدودة مكونة من مختبر سلوكي عائم. ”هل يمكن أن يكون العنف شيئاً مغروساً في جيناتنا؟“ دوّن جينوڨيه ذات مرة عندما أصبحت الطوافة في عرض البحر، ”أم هل هو شيءٌ نكتسبه؟ وهل ستتعاون مجموعة معزولة على متن طوافة لأجل البقاء؟“.
غير أن فتيل الصراعات التي خطط لها جينوڨيه لم يشتعل. أمر مثير للدهشة إذا أخذنا في الاعتبار أنه صمم الطوافة التي أسماها أكالي (على غرار كلمة تعني ”منزل على الماء“ في لغة نواتل Nahutal)، لتكون صندوقًا عائمًا سريع الاشتعال.
بالنسبة لأفراد الطاقم الذين تم اختيارهم بناء على جاذبيتهم الجنسية، فقد قضوا وقتاً أكثر في درء دوار البحر من الوقت الذي قضوه في المضاجعة. مرحى للغيرة الجنسية!
أما بالنسبة للرجال الذين لويت أذرعهم من خلال زجهم في الأعمال الحقيرة على متن السفينة، فقد أطاعوا أوامر قبطانتهم البارعة عن طيب خاطر. وقد منع أفراد الطاقم من إحضار أي كتب؛ لذلك فقد أضاعوا الوقت في ترنيم الأغاني وتبادل الحكايا، غير مبالين بالحواجز اللغوية العديدة (عائق آخر رتبه جينوڨيه)، وطحنهم اليومي بالاختبارات النفسية. مع هذا، ومع أن السفينة كادت أن تغرق ثلاث مرات، ومع أنها كادت أن تصدم مرة بعاصفة ومرة أخرى بناقلة نفط تزن سبعة عشر ألف طن، ومع انكسار دفتين، وحدوث حالة التهاب الزائدة الدودية، مع كل ذلك؛ إلا أن أكالي وصلت إلى وجهتها في كوزوميل في المكسيك، بعد مائة يوم ويوم من إبحارها، بدون أي شيء يذكر للإبلاغ عنه، سوى أن أفراد طاقم قد سفعتهم الشمس بشدة. إذاً ما الذي جعل قصة هذه التجربة وما استنتج منها بشق الأنفس عن العنف والسلطة والسلوك الإنساني، تبدو بعد أكثر من أربعين عاماً وكأنها ما زالت ضائعة في عرض المحيط؟
في فيلم ”الطوافة“، وهو فيلم وثائقي جديد من إخراج ماركوس ليندين Marcus Lindeen، جُمع المتطوعون، الذين ما زالوا على قيد الحياة، من أجل الشروع في رحلة سيكولوجية للبحث عن أي إجابات محتملة لهذا السؤال. ليندين هو صانع أفلام ومخرج مسرحي سويدي، مأخوذ بالرحلات الجامحة، وقد بنى أكاليه الخاصة من خشب الأبلكاش، صنعها بحرفية عالية قد تصل إلى درجة التماثل مع أكالي الأصلية، ثم وضعها على الأستوديو.
يعد الفلم الوثائقي من الناحية الفنية طموحًا، مثله مثل تصميم تجربة جينوڨيه- حيث أدرجت فيه لقطات فلمية (١٦ ملم 16-mm)، حافلة بتأثيرات خلفية محيطية، من الرحلة الأصلية. وأضيفت له صور إرشيفية، ولقطات إخبارية، وإضاءات متفرقة من لقاءات مع المتطوعين في التجربة الأصلية، الذين قد غزاهم الشيب الآن. انخرطوا في مغامرة جريئة لمحاولة إيجاد مغزى من تلك الدراسة وآثارها على حياتهم بعد سنوات طوال.
حاول ليندين توجيه اهتمام المشاهدين نحو الاعتقاد بعجز العلم عن تقدير الطبيعة البشرية البدهية، سواء كانت صالحة أو طالحة. ولكن مع استعادة الملحمة، وتأليب الطاقم لوضعهم تحت التجربة للمرة الثانية، كشف فلم ”الطوافة“ عن حقيقة أخرى: بغض النظر عن النوايا الحسنة التي تدفع لمثل هذه التجارب أو الوثائقيات، فإن الطابع الذي يغلب على هذه المشروعات من انعدام توازن القوى في تفاعل الناس مع بعضهم، يعمل على تلويث نتائجها – أو كما حدث في تجربة جينوڨيه الجريئة، التي خلفت وراءها أشخاصًا أسيء فهمهم، وأصبحوا محط سخرية العالم من حولهم.
وتتضح أكثر الأمثلة جسامة على هذا الأمر ما إن يبدأ المرء بمشاهدة الفلم؛ إذ سيدرك المشاهد أن ما وصفه جينوڨيه بـ“مشروع السلام“، قد أطلقت عليه الصحافة فوراً ”طوافة الجنس“، وجعلت من مجرد فحص إضافي على التجربة الأساسية (حول السلوك الجنسي)، كومة هائلة من العناوين الرئيسة ليعتلف عليها القراء، وقد أذاعت قناة يو.بي.آي الإخبارية عن وصول أكالي إلى المكسيك مستخدمة تعابير شبِقة لتصف أفراد الطاقم بأنهم ”رجال عراة، ونساء بالبكيني“ يسافرون على متن مركب ”تقوده شقراء سويدية ممتلئة الجسم وناهدة الصدر“. (وقد أثبت الملصق تأثيره الكبير في العالم الرقمي، حيث يستعصي مقاومة إغراء النقر على إعلانات الفلم أو المراجعات الأخيرة التي كتبت عنه).
لسوء حظ جينوڨيه أصبح هذا اللقب الفج، هو مرجع الجمهور الأساسي للدراسة. وقد قدر جينوفيه في ورقة نشرها عام ١٩٧٧ أن حوالي ٨٠٪ من الأسئلة التي تصله حول التجربة كانت ذات توجه جنسي.
قام الباحثون المشاركون مع جينوڨيه، بعد أن عادوا إلى البر، بتعقب إشارات الصحافة المستمرة إلى الحرية الجنسية والجنس الجماعي على متن الطوافة، فلاحظوا مدى تأثيرها المتزايد على كيفية استيعاب أسر المتطوعين للتجربة. حتى المؤسسة الراعية لجينوڨيه (الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك)، قد أقصت نفسها عنه، وقد وصله الخبر عبر البث الإذاعي عندما كان في منتصف الرحلة البحرية.
تستدعي هذه الوصمة التي وصُمت بها تجربة ”مشروع السلام“، تجارب جماعية أخرى كانت معروفة في تلك الحقبة، كتجربة سجن ستانفورد مثلاً. بالرغم من افتقار تلك التجربة لأي إغراء جنسي، وكذلك لأشعة الشمس، فقد اشتهرت تجربة ١٩٧١ سيئة السمعة لأسباب غير حقيقية، بالتحديد بسبب الافتراض القائل أن الرجل مولع بالسيطرة العنيفة، وليس لما أشارت إليه ماريا كوننيكوڨا في مقالة كتبتها لمجلة نيويوركر، وهي سطوة بيئة السجن على سلوك الإنسان.
ما حدث عند الباحث الرئيس لهذه التجربة: فيليب زيمباردو، حدث كذلك عند جينوڨيه؛ إذ أصبح وجوده النافذ على متن أكالي استبدادياً؛ سعياً منه لافتعال صراعات من أجل صيانة تجربته. فقد أعفى القبطانة ماريا بيورنستام من مهامها، عندما أصرت على الانسحاب والتوقف عند مرفأ حتى يتجنبوا عاصفة آتية. وعندما خاب أمله بسبب انعدام الغيرة الجنسية بين أفراد الطاقم، بدأ بلعب ”لعبة الصراحة“، حيث تلا بصوت عالٍ رغبات الطاقم الجنسية، في محاولة منه لخلق ردات فعل عاطفية. وزعمت واحدة من الأميركيتين على متن الطوافة تدعى ماري جيدلي، بأن جينوڨيه قد ألقى بدلو من الماء على وجهها بدون سبب. ”كان الأمر بمثابة علاج بالصدمة“ قالت جيدلي، وهي تعصف بمروحة عالية الطاقة من أجل التأثيرات الفنية. ”ربما كان يريد أن يعرف ما الذي يستطيع الإفلات منه“.
تبين أن جلّ ما غذّته هذه الأساليب كان تقريباً عصيانا وتمردا. بعد أن برهن جينوڨيه على أنه قبطان أخرق حين أصابته نوبة ذعر خلال اصطدام وشيك بناقلة نفط؛ قام الطاقم على عجل بإعادة تنصيب بيورنستام في دفة القيادة، فتنحى الحمش المكسيكي مذعناً إلى القمرة. جعل ليندين من هذه الأحداث عقدة الحكاية، تماما كما ينبغي لها أن تكون. حالت المناورات البارعة والمرنة من قبل الطاقم، خصاصاً النساء منهم، دون نشوب صراعات كبيرة أو حوادث مميتة. وحتى في أقسى لحظات الظلم، وُضعت أسوأ دوافع الطاقم تحت الفحص.
بالنسبة للأميركية الأخرى التي كانت على متن الطوافة وتدعى فيه سيمور، فقد روت خيالاتها حول ارتكاب جريمة قتل في حق جينوڨيه، الذي تتهمه بالعنصرية. (كانت واحدة من ضمن اثنين من ذوي البشرة السوداء على متن الطوافة). يبدو أن الصراعات التي كان جينوڨيه متحمساً لها خلال تجربته، قد مرت أمامه دون أن يعلم بها، لا أثناء التجربة، ولا الآن (توفي عام ٢٠١٣، قبل البدء في إنتاج الفلم الوثائقي).
كانت استنتاجات سيمور الشخصية بمثابة إجابة الفلم الوحيدة على أسئلة جينوڨيه حول العنف: ”أليس الحب حلاً لمعضلة العنف“ سألت سيمور ”كان معنا على متن الطوافة .. لكن [جينوڨيه] كان مأخوذاً بالعنف والصراع فنسي أن [الحل] كان تماماً بين يديه“.
لكن تبقى مسألة إدراك جينوڨيه لهذا الأمر من عدمه محط شك. فمع أن الفلم يقدم دليلاً واضحاً على أن تفكيره كان يتطور تدريجياً نحو الاستنتاجات ذاتها التي توصلت إليها سيمور؛ والتي تخلص إلى أن البشر ميالون إلى إبداء التعاون، إلا أن ليندين حَرَم جينوڨيه من هذا الإبراء. كتب جينوڨيه في مذكراته بعد أن أعفي من كافة أنشطته على الطوافة: ”شخصٌ واحد فقط أبدى نوعاً من العدوانية، رجلٌ حاول السيطرة على الجميع بما فيهم نفسه، وهو أنا“، وادعى جينوڨيه أنه بكى لأول مرة منذ الطفولة.
يفضي هذا الأمر إلى التساؤل فيما إذا كان ليندين يريد من المشاهد أن يبرح الفلم باستنتاجاته الهزيلة، أم باستنتاجات عالم من المرجح أنه قد تعلم من أساليبه الخاطئة، على غير العادة. عنى هذا الأمر في حالة جينوڨيه، تكريس ما تبقى من حياته الأكاديمية في التأكيد على أن العنف ليس نزعة إنسانية غريزية، وعلى ما يبدو فإن الرجل الذي جاء إلينا بما يدعى ”طوافة الجنس“، قد رُشح لنيل جائزة نوبل للسلام في عام ١٩٨١. وسيصبح لاحقاً الكاتب الأساسي في ”بيان إشبيلية حول العنف“ وهي عريضة موقعة من قبل عشرين عالمًا من مختلف أنحاء العالم، في أول إعلان عالمي لرفض ” التشاؤم البيولوجي“. حتى أرندت كانت على يقين أن توق الإنسان إلى العنف لا بد وأنه وراثي، ناهيك عن فرويد وسبينوزا والقديس أوغسطين. يقول البيان: ”إن ذات النوع الذي افتعل الحروب، قادرٌ على افتعال السلام، وتقع هذه المسؤولية على عاتق كل فردٍ منا“.
نستسقي من الفيلم الوثائقي، أن مصمم أي تجربة قد يصبح بكل سهولة وعفوية موضوعاً لها. في حالة فلم ”الطوافة“ مثلاً، يبدو أن التشوهات ذاتها التي أصابت تجربة جينوڨيه، من عجرفة، وإثارة جدل، وتسلط، وتلاعب، جميعها غمرت رسالة ليندين. لا يتضح من خلال معاينة الفلم ما إذا كان ليندين يحاول إزالة اللغط عن التجربة، أم أنه يقدم تحديقةً بلهاء إهداءً لمشروع علمي غير تقليدي (كنوع من الإعادة، معجونة بتردد مخدر في عصر المحتوى المرئي والمسموع)، أم هل أنه يقدم توبيخًا نسويًا، محتفى به، للعلم الأبوي؟ يبدو أحياناً كما لو أنه يقدم الثلاثة معاً.
على ما يبدو فإن ليندين يصبح قادراً على تأويل النتائج بعينٍ جلية فقط عندما يسترجع المسألة بعيداً عن نموذج أكالي الذي صنعه بنفسه وبعيداً عن سلطته عليها. روى في مقالة جديدة كتبها، كيف أن أحد أفراد الطاقم قد نعته ساخراً خلال الإنتاج بـ“سنتياغو رقم ٢“. فأتاه الوحي على هيئة موجات: ”لقد صنعت طوافة ضخمة، تماماً كما فعل هو. عملت على جمع الأموال ثم قمت بجمع أناس من مختلف أنحاء العالم، ليركبوا على متن الطوافة، تماماً كما فعل. وتماماً كما أراد من المشاركين خلال السنوات الماضية أن يتصرفوا وفق طريقة معينة تخدم تجربته، حاولت أنا نفسي أن أتلاعب بالأشخاص عينهم، لكي يتصرفوا وفق طريقة معينة تخدم فلمي الوثائقي. لقد انتقم مني فلمي الذي صنعته بنفسي“.
يبدو أن الكثير من الدروس والعبر ما زالت في جعبة الطوافة!
المصدر: نيويوركر،
https://www.newyorker.com/culture/culture-desk/the-raft-chronicles-an-extreme-experiment-with-human-nature