صفحات من حياة لويس – فيرديناند سيلين

كتب بواسطة أحمد الزناتي

كتب الثوري الروسي ليون تروتستكي مقالًا شهيرًا عن رواية “رحلة إلى أقاصي الليل”، وصف فيها عبقرية سيلين بالعبارة الآتية:” بينما يمضي فيرديناند سيلين في طريقه إلى الأدب، يمضي الآخرون إلى منازلهم”، وذلك في إشارة إلى الثورة الأدبية والأسلوبية التي أحدثها سيلين برائعته الروائية، التي رفعته إلى مصاف كبار الأدباء الفرنسيين مثل مارسيل بروست وغيره.

سيلين هو اسم مستعار للكاتب الفرنسي لويس فرديناند ديستوش (27 مايو 1894 – 1 يوليو 1961)، الذي يُنظر إليه في تاريخ الأدب الفرنسي ليس باعتباره مجرد روائي مثير للجدل فحسب، بل مشاركا ناشطا في بعض الأحداث الكبرى في القرن العشرين، ولا سيما الحربين العالميتين. كما أتاحت له رحلاته الواسعة في ثلاث قارات، وبصفة أساسية بصفته طبيبًا صحيًا في الأمم المتحدة بمشاهدة آثار الاستعمار في الدول التي زارها، ولا سيما في الدول الإفريقية.
كان سيلين كاتبًا ذا نزعة إنسانية، مصابًا بخيبة أمل فادحة، فتحول إلى ناقم على الوجود البشري بأسره؛ بعدما رأى عالمًا طافحًا بالوحشية البشرية الغبية. يُقال إنّ سيلين أذاع الأساطير عن نفسه؛ لكنه عاد ليهاجم علنًا من كرروا هذه الأساطير عنه باعتبارها حقيقة. كان محبًا لفنّ الباليه، والحيوانات، وربما كان في فترة حياته أكثر من نُظر إليهم باحتقار في فرنسا، رآه البعض تجسيدًا خالصًا للشرّ، بينما رآه آخرون إنسانًا غارقًا في الجنون التام. مع ذلك كان سيلين واحدًا من أهم كتاب القرن العشرين وأبلغهم تأثيرًا. إذ حطّم القوالب السردية، وأعاد صوغ تقاليد الكتابة والسرد القصصي. لولا كوميديا سيلين السوداء المريرة، واسعة الأفق المغرقة في الفانتازيا، لما كان ثمة وجود لهنري ميللر، ولا حركة “البيت”، ولا جان كوكتو، ولا كورت فونيجت، ولا ناثانيل ويست، ولا هوبرت سيلبي، ولا توماس بينشون، ولا وليام جاديس ولا غيرهم من آلاف الكتاب.
لم يتوقّف سيلين سواء في حياته أم بعد وفاته عن إثارة إعجاب الأوساط الأدبية داخل أوروبا وخارجها. ففي يومٍ هتف الروائي الأمريكي الكبير فيليب روث قائلًا: “سيلين هـو نسختي الخاصة من بروست، حتى ولو كانت معاداته للسامية قد صنعت منه شخصًا لا يُطاق ولا يستحق الصفح. لكي أقرأ سيلين ينبغي لي تعليق العمل بضميري اليهودي، لكني أجد نفسي مدفوعًا لفعل ذلك، إذ إنّ معاداة السامية ليست في صلب أعماله، فسيلين مُخلّص عظيم”.
الإرادة القوية هي كلمة السرّ لفهم مفتاح شخصية سيلين، إذ أُجبِرَ بسبب ظروفه الاجتماعية المتواضعة، على ترك المدرسة في فترة مبكرة للعمل بالتجارة؛ لكن طبيعته لم تتلاءم مع المهن الوضيعة. ولم يحرّره من ذلك المستقبل البائس، سوى انضمامه إلى صفوف الجيش متطوعًا في الحرب العالمية الأولى، التي أصيب خلالها بجروح بالغة، ليواصل بعدها بعزم لا يلين تعليم نفسه بنفسه، عاقدًا النية على دراسة الطبّ بعد انتهاء الحرب.
اشتغل سيلين طبيب نساء وتوليد في مستوصف عام لعلاج الفقراء، فكانت نتيجة هذه الظروف أن أفرزت لنا عقلية متحدية، بذيئة، قاسية، تتعمد استفزاز الآخرين، لكنها تخلو من أي غرور. لم يسعَ سيلين إلى كتابة روايات عن الأفكار، ولا تربطه صلة تقريبًا بأعمال معاصريه ألبير كامو أو سارتر، متحديًا بضراوةٍ توقعات الخيال التقليدي القديم، إذ تخلو أعماله تمامًا من إشارات إلى البطولة أو التعالي على الآخرين أو الهروب من الظروف.
الحقيقة أن القارئ وهو يطالع أعمال سيلين عليه أن ينظر إليها من منظور لا يسعى للتعرّف على تصوراته، بل ليتفاعل معها؛ ليشعر بإيقاعه النثري، وبلهجته العامية، وبإفراطه في الحذف واستخدام الضمائر الغائبة، أسلوب سيلين يزجُّ بك إلى مستنقع الكتابة.
كتابة سيلين كتابة توظف العالم المادي ومجازاته توظيفًا أسلوبيًا بديعًا، نقرأ مثلًا تعبير:” قطار أنفاق نيويورك عبارة عن مدفع مليء باللحم المرتعد”، أو حين يصف:” واجهات المنازل الطويلة النائمة لضواحي باريس الفقيرة”، “الأطفال المنهكين الذين تنضح أيديهم برشح أنوفهم”. وربما ساعدته خبراته بصفته جنديا وطبيبا في التشخيص الحيوي على رسم صوره المجازية في الكتابة، ووجهة نظر موضوعية لا تشوبها شائبة. نقرأ له المقطع الآتي وهو يصف فعل الكلام:
“حينما نتوقف عن فحص ودراسة الطريقة التي تُشكّل من خلالها الكلمات وتُنطَق بها، فمن الصعب على عباراتنا أن تنجو من كارثة أصولها الخبيثة. فالجهد الآلي المبذول أثناء الحديث هو أقذر وأعقد من عملية التغوّط ذاتها” (رحلة إلى أقاصي الليل).
تجسد الفقرة السابقة الكوميديا العميقة عند سيلين أصدق تمثيل،من خلال استخدام اللغة في تدمير نفسها، بمعنى أنه يستخدم زخم الكتابة وطاقتها في مواجهة الخواء المطلق الذي ينقله إلينا.
فالحماسة الأسلوبية الهائلة التي تحرّك شخوصه الروائية تتناقض تناقضًا مزريًا مع خططهم في الحياة. ولا أدلّ على ذلك من شخصية “كورتيل دو بيري” المحرّر، والكاتب والمخترع الذي تشكّل تفاصيل جنونه وهوسه بجمع المال نحو ثلث رواية سيلين “موت بالتقسيط” على نحو ما نقرأ في الفقرة الآتية:
” لم يتوقف “كورتيل دو بيري” عن الإلحاح في الجري وراء طلبات الحياة، أو تخيلها أو حلّها. كانت العبقرية تصدح داخل رأسه آناء الليل وأطراف النهار، حتى حينما يهبط الليل لم يكن رأسه يهدأ دقيقة واحدة… كان عليه أن يتماسك جيدًا لمواجهة سيل الأفكار الهادر، التي كانت عذابًا لا يُحتمل، وبدلًا من أن يسلم عينيه للنعاس مثله مثل بقية البشر، كانت تبقيه متيقظًا الأوهام ونوبات الجنون الجديدة، والهوايات التي هبطت على رأسه توًا”. كانت موهبة سيلين الفنيّة تصنع مثل هذه الشخصيات، لتصوغ حلقةً وراء الأخرى من حلقات العبثية، التي يبدو أنها كانت تشكل جزءًا من طريقة وصفه لتناقض عالمه الروائي: “…بالنسبة لي لا يحق لك الموت إلا إن كانت لديك قصة جيّدة تستحق أن تُروى. للدخول إلى الحياة، عليك أن تحكي قصّتك وتمضي”.
هذا هو جوهر رواية “موت بالتقسيط” لسيلين، الموت ما هو إلا مكافأة رمزية على الحياة. يستمدّ سيلين حيويته ووجوده اللغوي من المتعة التي تتيحها له مسألة الكتابة عن أفعال البشر التي مآلها العدم في النهاية. عند سيلين لا مجال للشفقة الإنسانية، التي ربما كان يخشاها بوصفها “تساهلًا في كتابة الأدب”. مع أنه كان يصف أكثر المشاعر الإنسانية بؤسًا وإثارة للشفقة، لكنه سرعان ما يكون يقوّض من تعاطفنا كقرّاء معها.


في سنة 2012 أصدر ناشر مغمور من مقاطعة كويبيك الكندية، طبعة محدودة من ثلاث كتابات حظيت بسمعة سيئة (أطلق البعض عليها التشدّق)، كان سيلين قد كتبها سنة بين عامي 1937 و1941، وحُظر بيعها أو توزيعها خارج حدود كندا. وبقيت أعمال سيلين غير متوافرة باللغة الإنجليزية، اللهم إلا روايتين وأعمال مغمورة أخرى (مسرحية ومجموعة من الأعمال النثرية)، في حين بقيت آلاف من المقالات والخُطب والمراسلات غير مُترجمة حتى اليوم.
الطريف في الأمر أنّ ظاهرة جنون الاضطهاد التي كانت محيطة بسيلين أثناء حياته صارت انعكاسًا مرآويًا لتفشي ظاهرة الجهل والإيمان بالخرافات التي كان يناصبها سيلين عداءً شديدًا طوال حياته (في الذكرى الخمسين لوفاة سيلين سنة 2011، حذف وزير الثقافة الفرنسي اسمَ سيلين من قائمة تضمّ أهم خمسمائة كاتب في الثقافة الفرنسية، واصفًا إياه بأنه رجل بغيض. وإن كانت روايات سيلين تعكس حياته الخاصة على نحو ما نرى في “رحلة في أقاصي الليل”، و”موت بالتقسيط”، وثلاثيته الراوئية التي رسمت سنوات هروبه من فرنسا وسجنه في كوبنهاجن، فإن مراسلاته تلقي الضوء على جوانب جديدة مختلفة، ومناطق غير مطروقة، تقرّب إلينا الأحداث والخبرات والوقائع التي سردها في أعماله الروائي.
في نوفمبر من عام 2011 ، عثر موظفو الأرشيف بجامعة جوزيف فورييه الفرنسية على كنز دفين من رسائل سيلين المجهولة، التي لم يسبق لأي مصدر الإشارة إليها. خضعت الرسائل إلى الفحص والتمحيص بمعرفة الباحثين وخبراء الخطوط والكتابة، قبل أن تُعرض على ألواح عرضٍ كبيرة، ثمّ أعيدت بعدها على الفور إلى مكتبة جامعة فورييه، وهي الآن قيد الحفظ في صندوق من الكرتون المقوّى في أحد أجنحة المكتبة.
نتعرّف في رسالة بعث بها سيلين إلى دار نشر جاليمار الفرنسية الشهيرة، التي توّلت نشر روايته الأشهر “رحلة إلى أقاصي الليل”، على الظروف المحيطة بالعمل.
“عزيزي السيد جاليمار..
أقدم لك مخطوط رواية “رحلة إلى أقاصي الليل” (استغرقت مني خمس سنوات من العمل). سأكون ممتنًا إذا أخبرتني في أقرب وقت ممكن برغبتك في نشر العمل، ووفقًا لأية شروط”. تطلب مني ملخصًا موجزًا حول العمل. في الحقيقة هو طلبٌ غريب، لم يخطر ببالي مطلقًا، لا أعرف لماذا لكني أشعر بالعجز عن أداء تلك المهمة (الأمر أشبه بالغواصين الذين نراهم في الأفلام يضربون في الماء وصولًا إلى المرفأ). سأحاول تنفيذ طلبك دون أن أتخيل ذلك. أظنّ أن الملخص سينفرّكَ من قراءة العمل. الحقيقة أنّ الرواية حدوتة متخيّلة مكتوبة من صيغة فريدة الطابع، وهي صيغة قلما تجد نظيرًا لها في الأدب بوجه عام، مع أن ذلك لم يكن ذلك ما كنتُ أريده، لكن هذا ما حدث. إنها أقرب إلى السيمفونية الأدبية العاطفية منها إلى الرواية بالمعني الفعليّ، لا أظنّ أن روايتي مملة. فأثر الرواية شعوريًا قريب من الأثر الذي الذي يصل إلينا، أو من المفترض أن يصل إلينا ونحن نسمع الموسيقى. لكن ذلك الأثر يبقى على تخوم الكلمات والعواطف والوصف التفصيلي للأحداث، أستثني من ذلك لحظات مميزة تتدفق منها نغمات إيقاع الدفرتمنتو [ نوع من الموسيقى الخفيفة يتكون من عدة حركات للوتريات وآلات النفخ] تدريجيًا نحو ثيمة الرواية، فتجعل الرواية تعزف عزفًا متناغمًا مثل فرقة آلات موسيقية. لكن كل هذا الكلام يظلّ لغوًا سخيفًا إذا ما فشل العمل. سأترك الحُكم بين يديك، شخصيًا أرى أنني نجحت، فهذه الطريقة التي أشعر بها إزاء الناس والأشياء. الحبكة بسيطة ومعقدة في آن واحد، تنضوي تحت راية الأعمال الأوبرالية. العمل لوحة جدارية عظيمة، عمل غنائي مشبع بروح شعبية، شيوعية تتنفس نفساً صوفياً، رواية خبيثة لعوب، مفعمة بالحياة”.
في سنة 1934 وبعد أن تواصلت معه المؤرخة الفنية الشهيرة إيلي فور، لإدانة أعمال الشغب الفاشية الأخيرة في فرنسا، كتب سيلين ما يأتي، مقتطعًا من رسالة لم تُتترجم مسبقًا:
“أرفض رفضًا قاطعًا الاصطفاف خلف هذا المعسكر أو ذلك. أنا شخص فوضوي من رأسي حتى أخمص قدمي. أنا فرد ولن أصير أي شيء آخر. الجميع يبصق على وجهي: من أول جريدة إرفيستا الروسية، مرورًا بالنازيين، وم. دي ريجنييه ، كوموديا ، وستافيسكي، وصولًا إلى الرئيس دولين، جميعهم أعلن في نفسٍ واحد أنني غير مقبول ولا يمكن الحدث إليّ. الحقيقة أنني لم أفعل هذا عن قصد، حقيقة. ولاضير في ذلك ، لأنني على حق.
كل نظام سياسي هو مؤسسة نرجسية طافحة بالنفاق، تسعى إلى إسقاط الخلاف الشخصي لأتباعها على هذا النظام أو ذاك، أعترف أنني أعيش عيشة جيدة، أعلن بصوت عالٍ وعاطفي وبكل ما أوتيت من قوة كل ما يثيره اشمئزاز البشر، في جناح اليمين واليسار، سواءً بسواء، ولن يسامحني أحدٌ على هذا. منذ وفاة الكهنة، لا يحكم هذا العالم سوى الغوغاء، والقذارة ترفرف باستمرار ، يرفض الجميع تحمّل المسؤولية، متوارين خلف الإيديولوجيا والخُطب. ليس هناك المزيد من الندم. لا يوجد شيء سوى هتافات التمرد والأمل. لكن الأمل في ماذا؟ أن تفوح رائحة عطرة من القذارة؟”
المفارقة أنه حتى سنة 1937 ومع صدور اثنتيْن من روائعه (رواية رحلة إلى أقاصي الليل ورواية موت بالتقسيط) كان يُنظر إلى سيلين بوصفه ثروة قومية. وأشاد به القُراء والنقاد على حد سواء ووصفوه بأنه عبقرية أدبية ثورية. أحبّ الناس التدفق المتقطع لشاعرية أدبه المظلم اليائس، ورح الدعابة السريالية، وحزنه الدفين.
في سنة 1941 عاد سيلين مرّة أخرى إلى الأدب مرة أخرى مع كتابة رواية Guignol’s Band، إلا أنه لم ينشر شيئًا طوال سنوات عديدة، حتى بعد منفاه في سجن كوبنهاجن الذي حُبس فيه، منتظرًا تسليمه إلى فرنسا لتنفيذ الحكم الصادر بحقه. وحينما عاد سيلين إلى النشر مرة أخرى في أوائل الخمسينيات، كان التجاهل والكره الشديد يحيطه من كل جانب بسبب مواقفه السياسية ورسائله وأعماله التي كتبها أثناء الحرب العالمية الثانية، إلا أنه لم يعر أدنى اهتمام بالأمر، وأعرب صراحةً في مراسلاته مع الأصدقاء والصحفيين أنّ مواقفه وآراءه السياسية لم تتغير، ورفض رفضًا قاطعًا الاعتذار عن أي شيء كتبه أو صرّح به.
في هذه الفترة أنجز سيلين ثلاثيته الروائية التي رسم فيها وقائع فراره من فرنسا إلى السويد، وتكونت هذه الثلاثية من: رواية “من قلعة إلى قلعة” 1957، ورواية “شمال” 1960، ثم أتمّها برواية “ريجادون” التي لم تُنشر إلا سنة 1969، أي بعد نحو ثماني سنوات من وفاته.

المصادر:

  • مقال مجلة نيويوركير بتاريخ 27 مايو 2013
  • كتاب Mitchell Abidor, Louis-Ferdinand Celine, Selected Correspondence
الثامن والتسعون ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي