عندما تغيب النزاهة العلمية

كتب بواسطة سميرة المحروقي



لما تغيب النزاهة الأكاديمية تغيب معها القيم والأخلاق والمبادىء والحقوق؛ فقد انتشرت في الآونة الأخيرة – مع كل أسف- عملية الانتحالات والسرقات الأدبية وغيرها، مع أنه سهل اكتشافها خاصةً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فما سمعناه وما قرأناه مخز ومؤسف وصادم؛ لكن من الغرائب أن يسطو أحد الأكاديميين جهد طالبته، وبما أني لا أريد أن أشهر بأيِّ إنسان بصفته الخاصة، ولا بأيِّ مؤسسة؛ فسأذكر في السطور الآتية قصتي المريرة التي عايشت لحظاتها بنفسي، لعل ذكرها يساعد في وضع حدٍ لمثل هذه التصرفات المشينة، وسيبصر من جاء بعدي بما يلزم اتخاذه للحيلولة دون الوقوع فيما وقعت، إذ إن الهدف هو إظهار الحقيقة فقط، وليس التشهير والنكاية.
فقد أكرمني الله بتلقي جميع مراحلي الدراسية في عُماننا الحبيبة، حتى نيل الشهادة العليا؛ إذ كان طموحي الأول والأخير ردّ الجميل لوطني، وقد وفقني الله لأكون من مخرجات إحدى المؤسسات العلمية العريقة في السلطنة، وكنتُ أول خريجة دراسات عليا في مجال تخصصي، وهو ما أفتخر به- ولله الفضل في ذلك- وأعمل حاليًا في إحدى الدوائر الحكومية، التي تُعدّ أيضًا دائرة مرجعية في إقليم الشرق المتوسط، والمعروفة بإنجازاتها الدولية بين دول الإقليم، وكنتُ وما أزال عضوة فعالة – بفضل الله ومنّه- في تحقيق هذه الإنجازات.
في يوم من أيام عام 2013م قبل تخرجي لنيل الشهادة العليا، قمت بنشر ورقتين علميتين «بصفتي مؤلفًا أول» في دوريتين دوليتين؛ لما توصلت إليه من نتائج أولية في أطروحتي العلمية، وهذا النشر هو متطلب أساسي لتخرج أي طالب دراسات عليا، كما هو معروف عالميا، والهدف منه هو استمرارية إثراء الوسط العلمي من قبل الباحثين في جميع مراحل أبحاثهم. وبعد التخرج في يناير ٢٠١٤م كانت لي محاولتان لنشر خلاصة نتائج الأطروحة في دوريات دولية، باعتباره حقًا طبيعيًا مكفولًا لمن قام بالبحث، لأيِّ طالب دراسات عليا، ولكنني لم أوفق لأسباب تقنية تتعلق بصغر حجم عيِّنة البحث وفق متطلبات هذه الدوريات. وإلى هنا كانت الأمور كلها على ما يرام؛ فجميع محاولات النشر سواء أكانت قبل التخرج أو بعده، تمّت حسب أخلاقيات النشر المعروفة، وبعلم جميع أعضاء الفريق البحثي ومتابعتهم.
وفي نوفمبر ٢٠١٧م، قدّمتُ ورقة علمية للنشر في دورية محلية، وتفاجأت حينها برد من رئيس تحرير الدورية عبر البريد الإلكتروني المرسل إليّ وإلى جميع أفراد الفريق البحثي، باتهامي بالسرقة العلمية، وصعقتُ حينها. وبعد المتابعة ظهرت الحقيقة الغائبة؛ إذ اكتشفت قيام المشرف على أطروحتي بالتعاون مع أكاديمي آخر – لم تكن له صلة تذكر بدراستي لا من قريب ولا من بعيد- بالنقل الحرفي، ونشر المقال الذي حاولت نشره بالإضافة الى أجزاء كبيرة من مقدمة أطروحتي لنيل الشهادة العليا، دون أيِّ تغيير يذكر ولا حتى الإشارة إلى المرجع المقتبس منه، ودون الإشارة إلى اسمي أو حتى إلى بحثي الذي واصلت العمل فيه ليلي بنهاري طيلة أربع سنوات ونصف. والأشد إيلامًا من ذلك أن أكون الجانية في حين أنني المجنيّ عليها؛ فقد اتهمتني إدارة الدورية بالسرقة العلمية من المقال المنشور باسم مشرفي وزميله، وهو في الأصل خلاصة جهدي في أطروحتي العلمية؛ بل أحرم من نشر مجهودي البحثي والعلمي للأبد؛ مما أفقدني مصداقيتي بصفتي باحثة لها تطلعاتها وطموحاتها. ولأني صاحبة حق، فبدون تردد قمت بنفي التهمة عن نفسي، ورددت على رئيس تحرير الدورية بكل إيجاز بأنّ هناك إساءة للفهم؛ إذ إن الورقة العلمية التي أرسلتها للنشرمتعلقة بالأُطروحة الخاصة بي، التي على إثرها حصلت على الشهادة العليا وما يترتب عليها من امتيازات. ولأني أكنّ كلَّ الاحترام لهذا المشرف؛ لم أصدق ما حدث، فكان بيني وبينه تواصل للاستيضاح منه عن حقيقة ما حدث؛ ولكن للأسف بدأ يتضح لي وجهه الآخر؛ فقد طالبني بسحب رسالتي الإلكترونية الموضحة للموقف، التي وجهتها إلى رئيس التحرير، وبالاعتذار له؛ وإلا فإنه سيقوم بتصعيد الأمر، ولن يكون ذلك في صالحي.
بعد أسبوع من التهمة الزائفة، وردتني رسالة طويلة بالبريد الإلكتروني من المشرف مع نسخة لرئيس تحرير الدورية ولجميع أعضاء فريق البحث، متضمنة افتراءات، منها أنني تنكرت لجميله وفضله عليّ خلال فترة دراستي، ولكل من أسهم في نجاحي ونيلي للشهادة. وذكر أنني لم أتبع أخلاقيات النشر العلمي المعروفة. وتمادى المشرف بأن قال لا يحق لي العمل أو المشاركة مستقبلًا مع فريق البحث أو أي محاولة نشر مستقبلية إلا بإذنه. ومع كلِّ ذلك لم يتطرق المشرف للموضوع الأهم، وهو كيف له أن يخون الأمانة بأن ينقل حرفيًا من أطروحتي دون تغيير ودون أخذ إذن سابقٍ؛ بل دون تثبيت الأطروحة بوصفها مرجعا للمقال الذي نشرهُ هو زميله، وهذا يخالف قواعد النشر العلمي ويتعارض تمامًا مع أخلاقيات النشر المعروفة؛ بل مما يدعو للدهشة أكثر أنه فوق هذا طالبني باعتذار رسمي!
ولأنني أعتبر نفسي ابنة لتلك المؤسسة العريقة؛ لم أتردد في محاولة حل الأمر سلميًا؛ فطرقت أبوابًا عدة، ولجأت إلى شخصيات بتسميات مختلفة، يُفترض أنها مختصة بفض مثل هذا النزاع، ولكن للأسف لم أجد الأذن المصغية؛ بل أغلبهم نسجوا قصصًا عدة للتملص من المسؤولية. وهنا بدأت رحلة اسكتشاف مدى قصور القوانين الموضوعة، وضعف الصلاحيات المعطاة للجان المختصة في هذا الشأن داخل المؤسسة وخارجها. وقد انتهى بي المطاف بإرسال شكوى رسمية إلى رئيس المؤسسة، على أمل الإنصاف، وكلي أمل أن ينتهي هذا الكابوس المزعج، وأن يرد الحق لأهله، ولكن بلا جدوى! فبعد ثلاثة أشهر من رفع الشكوى، وبدون مقابلتي، وردني اتصال من الخبير القانوني لحضور جلسة استجواب، وهنا تم استجوابي كتابيًا وكأنني المتهمة ولست الشاكية، ولم يكن الهدف من هذا الاستجواب البحث والتقصي في موضوع الشكوى، وإنما كان الغرض منه تهديدي والحصول على طريقة للإيقاع بي، فقد أخذ الخبير القانوني بالتلميح بأنّ لشكواي عواقب وخيمة، وأنّ المؤسسة قد تتخذ إجراءات لسحب شهادتي! وبعدها بشهرين، وردني اتصال من المسؤول القانوني للمؤسسة لمقابلته، وهنا اكتشفت بأنّ الخبير القانوني الذي قام باستجوابي سابقا ذكر في تقريره بأنني قمتُ بمخالفاتٍ عدة، أبرزها سرقة مقدمة أطروحتي من مقال سابق قام بنشره المشرف، وبأنه لا يحق لي النشر بتاتًا، لأنني كنت أعمل كمساعد باحث عند المشرف، وأتلقى راتبًا شهريًا طيلة ثلاث سنوات، وبذلك فإنه لا يحق لي النشر أو الإفصاح عن نتائج البحث الخاص بأطروحتي.
ولم يكتفِ المشرف بالافتراء عليّ بسرقة مقدمة أطروحتي وإعطاء الجهة القانونية في المؤسسة هذه المعلومات الكاذبة؛ وإنما تمادى وقام – بعد أربع سنوات من تخرجي- بإرسال رسالة رسمية إلى رئيس المؤسسة، مطالبًا بسحب شهادتي، والمؤسف أنّ الرسالة كانت موقعة من عميد الكلية ورئيس القسم وأعضاء قسمه، ما عدا المشرف المساعد، الذي امتنع عن التوقيع ورفض أن يكون ضلعًا في هذه الانتكاسة المخزية، وأيضًا قامت إحدى العضوات في القسم بسحب توقيعها لاحقًا، بعدما اتضحت لها الحقيقة.
مع مرور الأيام، بدأت معالم المكائد بالاتضاح؛ فقد قام المشرف قبل تخرجي ودون علمي بنشر مقدمتي للأطروحة التي كنت أرسلها له للمراجعة، ونشرها على هيئة فصل في كتاب دولي، وقام بوضع اسمه مؤلفًا أولا، واسمي مؤلفًا ثانيا، وأضاف اسم زميله الذي شاركه سرقة المقال لاحقا، بوصفه مؤلفًا ثالثًا. ومن هنا جاء ادعاء الخبير القانوني بأنني سرقت مقدمة الأطروحة من الفصل المنشور قبل تخرجي. فهل يستقيم أن يكتشف المشرف هذه السرقة بعد أربع سنوات من تخرجي؟ وأين كان المشرف حينما أعطيته الأطروحة النهائية للمراجعة وحين ناقشتها في حضوره أمام اللجنة الممتحنة، ولماذا آثر الصمت لمدة أربع سنوات ولم يفضحني ويكشف هذه السرقة؟
وأود أن أشير إلى أنه مع حصولي على منحة في المؤسسة بصفتي طالبة دراسات عليا لمدة أربع سنوات؛ إلا أنّ التمويل الخاص ببحثي لم يكن كافيًا لتغطية تكاليف السفر إلى إحدى الدول الأوروبية للحصول على مهارات تحليل النتائج الأولية التي حصلت عليها في بحث الأطروحة، وكان هذا خلال السنة الثالثة من الدراسة، فأشار عليّ المشرف بتوقيع عقد مساعد باحث (مدته ثلاثة أشهر) لتغطية تكاليف السفروالإقامة. وبموجب هذا العقد حصلت على مبلغ زهيد بالكاد غطى تكلفة التذكرة ولمرةٍ واحدة فقط، وليس كما ادعى الخبير القانوني بأنني كنت أستلم راتبًا شهريًا مدة ثلاث سنوات، وهو ما لم يستطيعوا إثباته فيما بعد؛ إذ إن لدي كشف حساب بنكي يثبت بطلان هذا الادعاء الزائف. والسؤال الذي يجب أن يطرح الآن، أين الرقابة المالية على مثل هذه المشاريع البحثية في هذه المؤسسة؟ وأين ذهبت المبالغ الشهرية التي كان يفترض أن أستلمها طيلة ثلاث سنوات؟ وكما يقال وراء الأكمة ما وراءها..
وهنا يتوجب عليّ توضيح بعض النقاط المهمة، التي تخص هذه القصة المؤلمة:-
١- لقد قمت بنشر ورقتين علمييتين كمؤلف أول، بعلم المشرف وتوجيهه وعلم جميع فريق البحث بعد توقيع عقد مساعد الباحث المشؤوم، علمًا بأنّ اسم البحث والمهام المذكورة في هذا العقد مطابقة تماما للمهام المذكورة في المقترح الخاص بالأطروحة الخاصة بي، فهل يعقل أن أكون مساعد باحث في أطروحتي!؟
٢- لقد تواصلت مع أعضاء من اللجنة الوطنية لأخلاقيات البيولوجيا الذين تعاطفوا معي، ولكن للأسف ليس بمقدورهم فعل شيء؛ فاللجنة ليست لديها صلاحيات للنظر في مثل هذه النزاعات، ولكن تفضلت مشكورة بإقامة ندوة عن إخلاقيات النشر العلمي، ورفعت توصياتها في هذا الصدد، وأشكر لهم هذا الموقف الذي جعلني أتشبث بحقي أكثر، كما أنه سيساهم مستقبلًا بإذن المولى في حفظ حقوق الطلبة والمشرفين على حد سواء (إن تم الأخذ بهذه التوصيات).
٣- الجهات المختصة بالنظر في مثل هذه النزاعات البحثية الأكاديمية اعتذرت عن الإفتاء في الموضوع بحجة عدم وجود خبير مختص، وعدم امتلاكها برامج المطابقة الإلكترونية، التي تكشف الحقيقة. وخير ما يقال في مثل هذا الرد بأنه ”المضحك المبكي“، فشخصٌ واحد مثل الكاتب سليمان المعمري، يكشف انتحالات الكتاب في صفحته على الفيسبوك، ولا أظنه يملك مثل هذه البرامج.
٤- ومن المفارقات العجيبة، أنّ مشرفي قال – مع وجود شهود على ذلك- بأنه هو من أعدَّ لي البحث كاملًا وأعطاني إياه لأمتحن فيه فقط، وأنّ هذا متعارف عليه في الأوساط العلمية على حد قوله! وهذا الكلام طبعًا لا أساس له من الصحة ولا يقبله العرف ولا المنطق ولا دليل على ادعاءاته، فكيف لي أن أجتاز لجنة مناقشة مكونة من خمسة أكاديميين يشغلون مناصب أكاديمية وأكلينيكة من داخل السلطنة وخارجها؟ وقوله هذا فيه طعن جريء لمصداقية المؤسسة العلمية المرموقة، وتشكيكٌ لكلِّ مخرجات هذه المؤسسة العريقة.
٥- لقد أقرّ زميل المشرف الذي شاركه سرقة المقال، بأنه لا علاقة له ببحث الأطروحة، وأن المشرف أضاف اسمه تشريفا وتكريما على حد قوله. وهذا رد فعل مستغرَب من أكاديمي على علم تام بأبجديات النشر العلمي وأخلاقياته. أهكذا تنشر المنشورات العلمية من قبل الأكاديميين في السلطنة ؟ وما رأي المختصين في هذا القول، وقد قامت السلطنة بالتوقيع على معاهدات دولية مع المنظمة المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) WIPO التي تتعلق بحفظ حقوق الملكية الفكرية.
إنّ المشرف وزميله قاما بعدة انتهاكات في حقي، وهما على رأس عملهما وفي صرح علمي مرموق في السلطنة، وإن لم يتم ردعهما فهي مصيبة على رأس العلم وطلاب العلم في هذا البلد المعطاء، وستستباح بحوث الطلبة وأطروحاتهم، وسيؤدي ذلك حتما إلى عواقب لا تُحمد عقباها.
ولأن التجربة خير برهان على التعلم؛ فإني لا أود أن يقع طلاب الدراسات العليا في مثل ما وقعت فيه، فكما يقال: نوم الحارس هو مصباحٌ للسارق؛ لذا كان لزاما على المختصين النظر في تنفيذ خطوات عملية لتلافي الوقوع في مثل هذه المصائب مستقبلا:

  1. – المطالبة بسن قوانين واضحة في المؤسسات الأكاديمية العلمية، تحمي حقوق طالب العلم والمشرف على حد سواء، وخلق آلية واضحة لحفظ هذه الحقوق.
  2. إلزامية حضور دورات تمهيدية تتعلق بحقوق الملكية الفكرية وأخلاقيات البحث والنشر العلمي عند الانضمام لأي برنامج من برامج الدراسات العليا.
  3. عدم التوقيع على أي مستند خلال دراستكم دون معرفة تفاصيله وتبعاته الدقيقة.
  4. اتخاذ الإجراءات الملائمة لضمان حماية أسلوب كتابتكم و طرحكم للفكرة منذ اللحظة الأولى لكتابة أطروحاتكم.
  5. مناشدة الجهات المختصة بوضع أطروحاتكم على الشبكة العنكبوتية لضمان عدم سرقة محتواها من قبل ذوي النفوس المريضة.
  6. الإلحاح بوضع آلية واضحة وإنشاء جهة محايدة ومستقلة تتضمن أكاديميين وفنيين وخبراء في الملكية الفكرية، للنظر في مثل هذه القضايا مع أهمية إعطاء هذه الجهة الصلاحيات القانونية الكاملة لفض مثل هذه النزاعات.
  7. عدم الرضوخ للضغوطات من قبل المسؤولين في المؤسسات العلمية أو غيرها للتنازل عن حقوقكم الأدبية فمسؤولية الباحث أعظم من مجرد الحصول على شهادات عليا؛ فهناك وطن عظيم لنبنيه، وسلطان أعظم لنفيه حقه.
    إنها صرخة مكلومة علّها تصل؛ فقد دخل هذا الكابوس عامه الثاني، ولم يتم إنصافي بعد. وللقارئ أن يتصور مدى الضغوط النفسية التي أمرّ بها، ومدى صعوبة الإيفاء بمسؤولياتي تجاه عائلتي وعملي، جراء هذه القصة, التي نشرتها حتى لا تتكرر للآخرين.
الثامن والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

سميرة المحروقي