من أيقظ نرجسيتنا ؟

كتب بواسطة فاطمة إحسان


“نحن نُحدقُ في شاشات أجهزتنا بالحرارة والدأب نفسيهما الذين كانا لنرسيس وهو يتملّى في بركة الماء.”
‏- ألبيرتو مانغويل

منذ ما يقارب ألفين ونصف عام، كتب سقراط أن “الفعل” هو شرط الوجود، في حين يبدو أن شرط الوجود اليوم هو الحضور المكثف في شبكات التواصل الاجتماعي، ولعل ذلك لا يعد شذوذًا عن حاجة الإنسان الأزلية لأن يكون مرئيًا، ومن ثمّ أن يحظى بشاهد على وجوده وبمعنى يمنح قيمة لهذا الوجود.
إعجابات وتعليقات وعداد لا يتوقف عن إحصاء المتابعين، الجدد والسابقين الذين قرروا إلغاء متابعتك دون سابق إنذار، لينشغل بالك بتقدير الأسباب والاحتمالات، قد يجعلك كلُّ هذا مهووساً بمتابعة كيف تبدو للآخرين على شبكات التواصل الاجتماعي، ويجعل رضاك عن هذه الصورة الافتراضية التي كونتها لنفسك، على المحك طوال الوقت. أنت في مضمار المنافسة مع الجميع ولا أحد.
قد نتساءل لوهلة، متى تتجاوز الحاجة للظهور، والرغبة في نيل إعجاب الآخر حدها الطبيعي، لتكون عرضًا من أعراض نرجسية صاحبها؟
تطلق صفة النرجسية على الأفراد الذين يملكون شعورًا متضخمًا بالذات، يبالغون في وصف ميزاتهم ومهاراتهم الشخصية، ولديهم حاجة ملحّة لحصد الاعتراف والإعجاب من الآخرين.
يقول عالم النفس كريج مالكين، المحاضر بكلية الطب في هارفارد، ومؤلف كتاب “إعادة النظر في النرجسية”: “إنها القدرة على رؤية أنفسنا والآخرين عبر عدسة وردية اللون”.
ويعتقد أنّ ما تشترك فيه جميع فئات النرجسية هو ‘تعزيز الذات’. فأفكار النرجسيين وسلوكهم وعباراتهم تفصلهم عن الآخرين، ويسكنهم الشعور بتميز آلامهم واختلافها عما يواجهه الآخرون؛ لأنهم يعانون -إلى جانب ذلك- من مفهوم غير مستقر عن الذات، ويضيف عالم النفس التطوري إدي بروميلمان: “يشعر النرجسيون بالتفوق على غيرهم؛ لكن هذا لا يعني بالضرورة رضاهم عن أنفسهم”.

سمات شخصية
لم يعد سرًا أنّ تكرار نشر الصور الذاتية (السيلفي) بكثرة، يعد سلوكًا نرجسيًا على شبكات التواصل الاجتماعي، لكنّه مع الوقت لم يعد السلوك النرجسي الوحيد، إذ تختلف أنماط السلوك النرجسي تبعًا لاختلاف الشخصيات واختلاف السياق الاجتماعي.
غالبًا ما يكون الحرص الدؤوب لأحدهم على الإشارة لكل امتياز يحظى به في حياته مهما كان بسيطًا، مؤشرًا على نرجسية طاغية، وليس بالضرورة أن تكون الامتيازات مادية بالطبع، لن يفوّت النرجسي أي فرصة ليخبرك بمدى شعبيته بين الأصدقاء وجاذبيته للجنس الآخر على سبيل المثال، وبصورة ملتوية غالبًا، مثل تناول موقف عابر يشرح السمة الشخصية التي يرغب في عرضها. هذا ما سيفعله النرجسي ذو الشخصية الانبساطية المنفتحة؛ لكن هذا ليس الشكل الوحيد للنرجسية.
على الضفة الأخرى هناك النرجسي ذو الشخصية الانطوائية الخافتة، وهو مثل النرجسي الانبساطي من حيث الشعور الدائم بعدم الأمان، والعجز عن تشكيل صورة متماسكة للذات؛ لكنه حين يتعرض لهجوم يهدد تصوره لذاته، يغرق في موجة من الإحباط والاكتئاب، عوضًا عن الدفاع عن نفسه.

جيل الألفية
كُتب الكثير عن الارتفاع العام في معدلات النرجسية بين أبناء جيل الألفية، الجيل المولود في الثمانينيات والتسعينيات، وهو عصر أطلق عليه البروفيسور جان توينجي في عام ٢٠٠٧ “عصر الاستحقاق”. في الدراسة التي قام بها توينجي مع كيث ماكبيل على عينة مكونة من ٣٧٠٠٠ طالب جامعي، وجد أن سمات الشخصية النرجسية ارتفعت منذ الثمانينيات وحتى الآن بشكل مطّرد، تمامًا مثلما حدث مع معدلات السمنة في العالم. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن جملة من الدراسات الحديثة التي تقارن السمات والأهداف الحياتية للشباب في المدارس الثانوية والكليات اليوم، وتلك المتعلقة بالناشئة أيضاً، تظهر زيادة ملحوظة في تقدير القيم الشكلية والظاهرية بدلًا من القيم الجوهرية؛ هكذا يبدو أن جيل الألفية هم أكثر عرضة لتقييم المال والصورة والشهرة على المجتمع والانتماء وتقبل الذات بما هي عليه.

صورة ضد الحقيقة
الترويج للذات، هذا ما تسهم شبكات التواصل في التشجيع عليه، يبين كيث كامبيل (المختص في أبحاث النرجسية) أن الناس يستخدمون “فيسبوك” في كثير من الأحيان لكسب الاهتمام وتعزيز المكانة واحترام الذات، وهو أمر إيجابي إذا توقف عند هذا الحد؛ إلا أن ما يحدث عادةً هو أن كل شخص تقريبًا يقدم صورة غير واقعية عن نفسه. مثلما يختار الأشخاص الصور الأكثر جاذبية لأنفسهم لاستخدامها كصور للملف الشخصي ، فهُم يميلون إلى نشر الأخبار المتعلقة بأكثر الجوانب إشراقًا في حياتهم. بالطبع، ليس هذا هو الحال دائمًا؛ لكن الصورة المشمسة غير الواقعية التي ترسمها العديد من الشبكات الاجتماعية يمكن أن يكون لها تأثير نفسي مقلق على أصدقائهم أو متابعيهم.

محيط تنافسي وفرص ضئيلة
يصعب على الوالدين غالبًا التخلص من هاجس أفضلية أبنائهم على أبناء الآخرين، ينبغي أن يكون أبناؤهم الأشد ذكاء، وجاذبية، وحظًا في فرص التعليم والوظائف، قد يسهم هذا في تحقيق نتائج عكسية لسوء الحظ حين يواجه الابن عالمًا تتصاعد فيه وتيرة التنافس بلا رحمة، وحتى أولئك الآباء الذين يملكون من الوعي ما يجعلهم يراعون قدرات أبنائهم ويحفزونها دون مبالغة، سيضطر أبناؤهم يوماً ما إلى المنافسة على دخول الجامعة أو الفوز بمنحة أو الحصول على وظيفة، ونتيجة لذلك سيجدون أنفسهم بحاجة إلى استعراض كل ما يملكونه والتسويق له بغرض الوصول إلى الفرص التي تكفل لهم حياة كريمة. لعل الفرص المتناقصة هي ما تنتج كل هؤلاء النرجسيين الغاضبين من الشباب.
ولعله من غير المنصف أن نلقي الحِمل بأكمله على الشباب، في الوقت الذي يحصد فيه النرجسيون من حولهم، الفرص الأفضل في العمل والحياة.
لهذا يشذب الشباب سيرهم الذاتية على موقع “لينكد إن”، يضيفون طبقات من فلاتر الصور الجذابة على صورهم الشخصية الملتقطة بأفضل الوضعيات والمعدلة بعناية. يقول البروفيسور ديفيد لودين: “نتمتع اليوم بفرص لإظهار ميولنا النرجسية أكثر من أي وقت مضى”. فلعل كثيرًا من الشباب المتواضع، ممن التقينا بهم في مكان أو زمان آخر، يحاولون اليوم مجاراة الوضع الجديد، وقد يستحق ذلك شيئا من التعاطف.

لماذا نتابع النرجسيين ونعجب بهم؟
مثل الفراشة المتجهة إلى الضوء، ننجذب تلقائيًا إلى هؤلاء الذين يتحلق حولهم الناس بسهولة في التجمعات، من يملكون مظهرًا لامعًا وتغمرهم الثقة بشأن جاذبيتهم، لديهم أصدقاء كثر – بالرغم من سطحية علاقتهم بهم- ومعارف كثر جداً.
يتفوق النرجسيون عادة في لفت النظر بسبب تركيزهم العالي على صورتهم أمام الآخرين، وهذا يتضمن العناية الكبيرة بالمظهر الخارجي، والذكاء الاجتماعي الذي يمكنهم من محاورة الآخرين والوصول إليهم، كما أن حرصهم على الحصول على انطباع جميل من الجميع، يمكنهم من إخفاء الغطرسة والثقة المبالغ فيها في بعض الأحيان؛ إلا أن ما ينبغي الحذر منه هو مبتغى النرجسي من اقترابه من الآخرين، وهو تغذية “الأنا” الخاصة به، وهو ما يجعله جاهزًا لإلحاق الأذى بك، وفي أحوال أقل سوءًا، الاستغناء عنك، أو مقايضتك بهدف آخر أكثر جدوى.


المصادر:

Firestone, L. (2012, November). Is Social Media to Blame For the Rise In Narcissism?. Retrieved from https://www.psychologytoday.com/intl/blog/compassion-matters/201211/is-social-media-blame-the-rise-in-narcissism

Forsythe, F. (2018, September). 5 Signs of Social Media Narcissism You May Not Even Notice in Yourself. Retrieved from https://www.learning-mind.com/social-media-narcissism-signs/

Hoffman, B. (2015, November). Research Reveals New Risks for Daily Social Media Users. Retrieved from https://www.psychologytoday.com/intl/blog/motivate/201511/research-reveals-new-risks-daily-social-media-users

Webber, R. (2016, September). Meet the Real Narcissists (They’re Not What You Think). Retrieved from https://www.psychologytoday.com/intl/articles/201609/meet-the-real-narcissists-theyre-not-what-you-think

التاسع والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

فاطمة إحسان