دور الجاليات الأوروبية في ترسيخ تغييب العدالة في دبي

كتب بواسطة وليد خليفة


تحرير وتقديم: كلير تولون
حوار مع إيميلي رينارد

يقترب عدد الفرنسيين المقيمين في دبي من الثلاثين ألف مقيم، يشكلون ثاني جالية أوروبية مقيمة في هذه المدينة بعد البريطانيين، كان العدد يتراوح بين 15000 و200000 في عام 2015.
تشغل هذه المدينة، الإمارة، مكانة خاصة بين مدن الخليج في المخيال العالمي ( l’imaginaire hexagonal المخيال السداسي إشارة إلى القارات الست/ المترجم)، ذلك أنها تجذب عددًا متزايدا من المهاجرين. قوة الجذب هذه تدفعها إلى احتضان أطياف واسعة من الخطابات والمشاريع الثقافية، حسب رؤية الجاليات المهاجرة، التي تذهب إلى إدانة هذه “السطحية” المجوفة وغياب “الأصالة” بوصفها ضرورة لحركية المدينة وعدم سكونها.
يذهب الكتاب والباحثون في مجال علم الاجتماع إلى قراءة هذا الجانب الذي يعتبر أن مدن الخليج هي مجرد مختبر لتهيؤات مستقبلية كما تشير إيميلي رينار” عبر مزاعم الدولة الريعية الوهابية، التي تذهب إلى فكرة الوصول بدول الخليج إلى وضع سديمي مطلق” ص29.
يرتكز عمل الكاتبة على ثلاث رحلات بحثية قامت بها إلى دبي بين أعوام 2012 و2015، أجرت خلالها مقابلات مع 98 شخصًا، تتناول من خلالها العناوين التي تهيمن على الاتجاهات الثقافية للفرنسيين في رؤيتهم لأحوال مدينة دبي، ومن خلالها تقدم وجهة نظر اجتماعية عميقة حول هجرة الغربيين إليها في الوقت الذي تستفحل فيه ظاهرة الهجرة، وتأخذ الأولوية في الدراسة، هجرات الجنوب والشمال وتمركزها من خلال البحث عن الخليج.
بالكثير من التركيز على الشعوب المهيمنة التي تسهم في “إخفاء مواقف الغربيين في هذه المجتمعات” ص15، في حقل دراسي على الهجرة ومغتربي الدول الغربية التي تثير اهتمام الإنسان الغربي “الأبيض” كتاب إيمليلي ريينارد يستحضر أيضا أهواء الجاليات الغربية المهاجرة وميولهم في دبي، التي تتناقض مع ميولهم وممارساتهم التي يقدمون عليها في فرنسا.
خلافًا للصورة التي قدمها أبينال عن الهجرة بوصفها ديناميكية ثقافية تسهم في نقل المهارات؛ تشير الكاتبة إلى أن المهاجرين الغربيين ” ليسوا أناسًا بسطاء وعابرين ولا تأثير لهم في الهرم الاجتماعي؛ بل يشغلون مواقع سلطوية” ص26.
وهم في قلب آلية تنفيذ القوانين العنصرية التي تتحكم في سوق العمل، الذي يدار حسب صورة نمطية للإنسان، حسب العرق والعنصر، “المنظمات والشركات الأجنبية كالشركات الفرنسية على سبيل المثال تقوم اعتمادا على القوانين المحلية بترسيخ التسلسل الهرمي المستند على العنصرية في مجتمع دبي” ص52.
عبر هذه الديناميات المهيمنة على سوق العمل، يتم ترسيخ فكرة ” استعمار المعرفة” التي تأسست على صورة الخبير الغربي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في تقديم السكان المحليين المتخلفين. حسب هذه “الرؤية الإمبريالية” تحاكم الباحثة فكرة “الهيمنة الغربية” باعتبارها آلية للتمييز والتعالي على باقي شعوب العالم أو في مواجهتهم “في دبي المشكلة أن الغربي يفكر بأنه الأفضل والأكثر عدلا وإنصافا، ومن ثم أكثر شرعية من غيره” ص186.
تذهب هذه التصريحات المهيمنة التي تقدم صورًا من المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية بين الطبقات باعتبارها ميزة غربية لا تقارن بمثيلتها المحلية، حيث غياب العدالة والتكافؤ الاجتماعي، مع أن الاغتراب بحد ذاته ينطوي على أنماط من الهيمنة تبدأ بالأسرة وتنتهي بأرباب العمل (خاصة في مجال توظيف عاملات المنازل).
” من خلال تصوير دبي على أنها مكان غير حقيقي، مكان مادي، آلي، يذهب هؤلاء إلى اعتبار أن الحب الصادق هو منتج محصور بالغرب ” ص 210، ويعتبرون أوروبا “مرجعية ثقافية وتاريخية أصيلة، فيما طيران الإمارات الحداثي للغاية لا يتناقض مع رؤاهم للشرق” ص 214.
إن “الراتب، الأجر للغربي” الذي يتمتع به المواطنون الغربيون في دبي، الذي يسمح لهم بالحصول على مكاسب مثل المناصب المهنية العليا والحميمية في التعامل؛ يتكئ على شروط هيمنة على شرائح مجتمعية أخرى من المقيمين. تشير إيميلي رينار إلى كيفية ارتهان الأمن الحريص على تأمين الحرية للنساء الغربيات وحركتهن في الأماكن العامة، وكيفية ارتهانه لحساب تعزيز” السيطرة العقابية على حساب بعض الرجال” “المحجمين” “المحددين” كأخطار على النساء مثل عمال البناء” ص 225، وتحديد سقف لحركة عمال المنازل.
كتابٌ يثير الإزعاج لبعضهم، ويدعوننا إلى التشكيك في الربط بين الهجرة الغربية، وبين التاريخ الاستعماري الكولونيالي.
حوار مع إيميلي رينار
أشرت إلى أن الأحاديث والخطابات الناقدة بشكل سلبي لإمارة دبي، تلك الخطابات التي تصم جانبها “المصطنع” و”الخاوي” ومنعدم التكافؤ، واللامتساوي. تشارك هذه الخطابات والأحاديث في تشكيل آليات الهيمنة. تشيرين إلى أنهم يقدمون لهم مبررات تعزز تمامًا التسلسل الهرمي الذي ينتقدونه ويدينوه من خلال القبول بالامتيازات الممنوحة للمهاجرين الغربيين، الاستثناء الغربي، “غربلة مهيمنة” يستند إليها سوق العمل في الخليج في نهاية المطاف. هذا أمر مزعج، يثير الزلازل؛ لأنه يشير إلى أنه حتى أخذ مسافة كافية بينك وبين نظام غير عادل، يمكن – في الواقع – أن يستند على نفس الديناميكية غير المتكافئة؟
نعم إنها ليست توابل استراتيجية، بالأحرى هي أفكار تتلقاها من الخليج، ذات جذور عميقة يصعب تفكيكها، لهذا السبب أخذ مني البحث كثيرًا من الوقت، وفي النهاية لأتخذ بوصفي باحثة مسافة كافية تسمح لي بالخروج برؤيتي الخاصة، فكرة ” بلينغ بلانغ= خواء المعنى في ظل رفاهية مصطنعة”، والمعلومات المزيفة عن دبي كانت تشغلني منذ البداية؛ ولكني لم أكن قد قاربت تلك الأقوال عن المدن، تلك الأقوال التي تذهب إلى أن المجتمعات الأوروبية هي “الحقيقية” و”الأصيلة”، وفي النهاية هي “الأعلى قدرا”؛ لهذا السبب منهج المقاربة يرتبط بـ “المعرفة الموضعية”، هذا النهج الذي تطور كثيرًا على الأخص بفضل الدراسات النسوية لفترة ما بعد الاستعمار التي تستند على إمكان التشكيك بقوة في دوافع أي بحث والآراء الموجودة فيه، إنه نهج ثري.
س: هل القراءات الانعكاسية التي تشكك في دراسات الباحثين قليلة الحضور في دراسات العلوم الاجتماعية في العالم العربي؟
نعم، بعيدًا عن المقاربات النسوية والدراسات الجنسانية؛ تندر تلك القراءات في العالم العربي، وحتى في فرنسا تكاد أن تنعدم في الوقت الراهن، هذه إحدى صعوبات البحث في الشرق الأوسط؛ لأن مخاطر السياسة الخارجية ورهاناتها تأخذ الحيز الأكبر، الكثير من الأبحاث الوسيطة لا تنال القسط الكافي لدراسة الغرض منها والطرق التي يبنى عليها الباحث دراسته.
الكثير من مواضيع البحث والتفكير تأخذ مكانتها وأولوية إجرائها وإمكاناتها من الخارجية الفرنسية ” Quai d’Orsay مبنى الخارجية” وهي الأبحاث الأكثر ظهورًا ولمعانًا، وضع الباحث وجدارته وإمكاناته عادة تكون غير منظور فيها جيدا، ولا تتم مساءلة الموضوعات المعرفية عن الشرق الأوسط عادة، ولا التشكيك فيها.
س: هل نستطيع القول إن الجاليات الغربية تلعب دورًا في إنتاج منظومة غياب العدالة والتمييز بسبب العرق والجنس والمنشأ الطبقي في الخليج؟
في دبي نعم بالتأكيد، هذه إحدى مبررات كتابي، يكفي أن نحلل أحاديثهم، الأحاديث البينية، حين يصف هؤلاء الناس – الغربيون – ذلك النظام الاجتماعي في دبي بأنه “ظالم”، وبذلك يعتبرون أنفسهم ضمنيًا خارج هذا النظام؛ بينما في حياتهم الحقيقية يشغلون المناصب العليا ويبررون اختلاف أجورهم عن الآخرين بمزايا جنسيتهم، يبرؤون أنفسهم بينما يشاركون بشكل فعال في إدامة هذا النظام، يدينونه ويمارسون أفعاله، لا يرون مشاركتهم، ولا يحسبونها مشاركة، ويشكلون أقلية تتمتع بسلطات قوية ومقررة.
س: عبر التاريخ أُنْزِلَ المواطن الإماراتي إلى قاع السلم الوظيفي، وحصرت أماكنه في القطاع العام، هل صعود الأجيال الشابة النشطة والماهرة في سوق العمل بدبي سيغير وجه الهيمنة الغربية في هذا القطاع؟
قابلت عددًا قليلًا جدًا من الإماراتيين في وظائف القطاع الخاص في دبي، معظم المواطنين الإماراتيين يعملون في مؤسسات عامة حكومية أو شبه حكومية “مجال تخطيط المدن على سبيل المثال”، عندما أجريت بعض المقابلات في أحد البنوك في الرياض بالمملكة العربية السعودية، نقل إليّ بعض الموظفين الشباب الذين قابلتهم بأنهم يشعرون بأن سوق العمل يسيطر عليه الأجانب، وهم مستبعدون من بعض الوظائف والقطاعات، خلال المقابلات التي أجريتها مع المديرين التنفيذيين الفرنسيين في البنوك، ألقى بعضهم خطبًا فيها الكثير من الزيف عن المواطنين السعوديين.
س: في أي شيء يكون ” الامتياز الغربي” الذي رويته في كتابك يكون أمراً خاصًا ومقتصرًا على مدينة دبي؟
تتشكل هذه الظاهرة في دبي بديناميات عالمية، حيث تعكس الأجور حالة عدم المساواة بين البلدان التي لا يتم فيها سنّ قانون ينص على الحد الأدنى للأجور، نتيجة لذلك، تتراوح الفروق في الأجور بين 1 و50 ضعف بين مسؤول تنفيذي غربي وعاملة منزلية سريلانكية.
لا تختلف الفروق في الأجور بين دبي وغيرها الكثير من مدن العالم، بما في ذلك تلك التي لديها قوانين عمل أكثر تنظيمًا (حرمان بعض الناس من الأوراق الثبوتية يخلق بالضرورة ظروفا للاستغلال) لكن تتفاقم هذه الفجوة في دبي، وتصبغ بصبغة مؤسساتية بسبب القوانين.
تتشابه أنماط حياة حاملي جوازات السفر الغربية في دبي مع شبيهاتها التي يعيشونها في مدن أخرى يشكلون فيها جالية أقلية؛ لكن خصوصية دبي هنا تتمثل في الخيال الذي تنشطه هذه المدينة، الصور التي تصدّرها دول الخليج نمطية وكاريكاتورية ومقبولة اجتماعيًا.
خصوصية أخرى لدبي، وهي أن عالم العمل تحكمه معطيات جواز السفر؛ لكن النخب التي تحمل جواز سفر غربي ليست من ذوي البشرة البيضاء بالضرورة؛ إنها تعبّر عن نمط من أنماط الطبقات المخملية في دبي، بالنسبة لأصحاب الجوازات الفرنسية من غير البيض، إنه شيء جديد، مثير للتساؤل، في الخواء، حيث في فرنسا تأخذ العلاقة بين المواطنة الفرنسية وبياض البشرة في شكل التقديم والمخيلة؛ بينما تقدم دبي في بعض الجوانب أشكالا من الشمولية التي يجب التأكيد عليها؛ حتى لو كانت مصحوبة بقيود معينة، بين الفرنسيين على سبيل المثال، ما تزال معظم المناصب الأكثر ربحية يشغلها الرجال البيض.
س: يبدو أن شروط الرفاهية التي توفرها دبي للمغتربين من أصول أوروبية وفرنسية بالتحديد، تجذب أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة ليعيشوا حلم حياة الطبقات الغنية هناك؟
بالتأكيد، يعثرون على الاتجاه الذي يؤدي إلى نمط حياة متميزة، خاصة أثناء العام الأول والثاني من إقامتهم هناك، يعيشون هذين العامين وهم يحاولون التأقلم بمتعة لا تنسى للدخول في تجربة حياة الأثرياء، يسمونها “تجربة دبي”، أحاديثهم مختلفة حسب القائل، كان خطاب التفوق الغربي حاضرًا في جلّ الأحاديث التي أجريتها مع الفرنسيين أصحاب البشرة البيضاء، هؤلاء يحوزون أفضل الامتيازات؛ فيما يشعر بعضهم الآخر من الفرنسيين من غير أصحاب البشرة البيضاء الذين ينحدرون من عائلات تنتمي إلى الطبقة العاملة بأن دبي أفضل مواجهة من حيث قيود التمييز والصعوبات الأخرى التي واجهوها في فرنسا؛ فهم في دبي لا يعتبرون النموذج الاجتماعي الفرنسي نموذجًا مثاليًا، بل على العكس، يرون أن ثمة مزايا تتميز بها دبي عن فرنسا، يفكرون أن هجرتهم إلى دبي بمثابة اختيار المكان الأقل تقييدا للحريات بسبب التمييز والصعوبات الأخرى التي يواجهونها في فرنسا. نتيجةً لذلك؛ فإنهم لا يضعون النموذج الاجتماعي الفرنسي في صورة مثالية، ويرون بعض المزايا في دبي بالمقارنة معها، مثل التلاحم الاجتماعي بين أبناء الطبقة الوسطى وطبقة الأثرياء المترفين، أو التسامح حول الممارسات الدينية.
س: ما الوصفة ” الغربية” التي على أساسها تقدم دبي معايير للتجربة المهنية والمساواة بين الجنسين ؟ وهل هي مختلفة عن الأيديولوجيات الاستعمارية الكلاسيكية؟
فكرة تفوق الكفاءات الغربية تشكلت عبر قرون من الاستعمار، العديد من الصور النمطية المنقولة في يومنا هذا عن الخليج من طرف المقيمين الفرنسيين تستعيد الزمن الاستعماري، فكرة الأرض البكر مثلا، حيث لم يكن ثمة شيء هناك، ويمكن إنجاز كل شيء، بعض التصورات هي من وحي دبي اليوم، مثل الفكرة التي تقول إن الأوروبيين سيكونون أكثر إنصافا في دبي من باقي دول العالم، حسب خريطة النوع، وأيضا في العلاقات المهنية، حسب الأحاديث يذهب بعض الأشخاص الذين التقيت بهم إلى أن الإماراتيين حين يوظفون الناس في الأعمال المنزلية الخدمية فهي عبودية، ولكن حين يقلبون المعادلة ويكون التعيين من قبلهم في الأعمال المنزلية فذلك كرم منهم ” ص 185″.
من السمات الخيالية الأخرى للوضع المعاصر هي الحالة الخاطئة التي يتم عرضها باستمرار في الخليج اليوم. هذا التخيل يكشف الاعتقاد بأن المدن الأوروبية ستكون أكثر حجية، ولكن ما المدينة “الخطأ”؟ يتم الكشف عن هذا التخيل أيضًا من خلال نوبات النفاق المزعوم للسلطات (تجاه الكحول على سبيل المثال)، والنزعة الاستهلاكية في دبي، والسطحية للعلاقات المرتبطة بها: هذا النقص في ومن المتوقع أن الأصالة على جميع سكان المدينة.
من الأوهام الأخرى في الوقت الراهن هو ذاك الاستطراد الخاطئ الذي يتكرر عرضه على الخليج اليوم، وهو التصور القائم على أن المدن الأوروبية ستكون أكثر فأكثر حقيقية وواقعية، ولكن ما المدن “الوهمية”؟ هذا الوهم يستند على ثقافة النفاق والمداهنة للسلطات “في مواجهة الكحول على سبيل المثال” من النزعة الاستهلاكية في دبي إلى سطحية العلاقات التي تغرقها، هذا النقص في الأصالة من المفترض أن يشغل جميع مقيمي المدينة.
س: بماذا يتميز المقيمون الفرنسيون عن المقيمين من الجنسيات الأخرى؟
من بين الأشخاص ذوي البشرة البيضاء الذين قابلتهم حضرت كلمة العنصرية أكثر من حضورها لدى الأمريكان على سبيل المثال، هذا لا يمنع من الاعتقاد بفكرة تفوق المواطن الغربي في المهارات.
الفرنسيون الملونون ـ غير البيض ـ مع إدلاءهم بآراء مترددة أثناء الحوارات التي أجريتها معهم؛ إلا إنهم يبرزون الدلائل التي تتحرك في تفكيرهم، والتي تؤكد لهم أنهم متميزون في دبي، ربما بسبب شعورهم بالحط من شأنهم حين كانوا في فرنسا، وربما بسبب المهام التي ألقيت على عاتقهم قبل الانتقال إلى دبي، ردات فعل طافحة: شخص يعبّر على سبيل المثال عن صدمته بمعرفته أنه يكسب من المال أكثر من رئيسه الذي يحمل الجنسية الهندية، يجب ألا تكون ردة فعل الفرنسيين غير متجانسة.
س : تتكلمين عن ” التغريب” و” البياض” و” الفَرْنَسة” ولكن لم تلتفتي للحظة إلى “الهوية”، لماذا لا يبدو لك هذا المفهوم مناسبًا لقراءة إعادة التكون بحكم العمل ( طبيعة العمل تحدد الانتماءـ المترجم) في ضوء الشخوص الذين قمت بإجراء المقابلات معهم؟
الهوية مصطلح لقي انتقادا شديدا من طرف علم الاجتماع بوصفه نظرة ثابتة لعملية متحركة، يجب تجنب ذلك، الأمر كعدم إضفاء مأسسة الذوات، يهدف عملي أولا إلى تحليل تسلسل الهرم الاجتماعي، وشكل تفاعل الذوات معها، كنت مهتمة بشكل خاص بالتوزيع غير المتكافئ للأجور، بحثت في فهم كيفية تبرير الشخوص الذين قابلتهم ( موضوع البحث) للفوائد التي يجنونها، شدتني أيضا المسارات التي تحدد للمرء “أن يعيش” في أحوال متميزة ـ في حالتنا هذه تلك التي يعيشها الغربي في دبي.
وجود فوائد لحاملي جوازات سفر غربية يدفع بالكثير من الناس إلى التفكير بعلاقتهم ببلدانهم، على سبيل المثال، أن يتم الاعتراف بشخص مقيم في فرنسا أخيرًا بصفته مواطنا فرنسيا من أصول أجنبية دونما انقطاع عن ” أصوله” الأجنبية هي تجربة هجرة فريدة.
س: كيف تتحول هذه “الهيمنة الغربية” التي يتبناها المهاجرون الفرنسيون، والتي تحمل معها مظاهر جسدية وسلوكية حين تنتهي تجربة الهجرة؟ ما الاختلافات بينها وبين تلك السائدة في فرنسا؟
كل ما وصفته لا يختلف جوهريا في شيء عن الأحاديث التي نتناولها في فرنسا حول الغرب، لكن يتفاقم الأمر بسب العيش في دبي والاستثمار في مزايا حمل جواز سفر، هناك إجماع لدينا بتفوق غربي، بهذا الصدد، فإن دراسة استقصائية حول الفرنسيين في دبي أشبه ما تكون دافعة للكشف، وفي الوقت نفسه تقول أيضا أشياء عن مجتمع دبي وسوق عملها ومجتمعها ومعاييرها في تقديم الذات.
س: في كتابك تقدمين جانبًا مظلما للعولمة و” للتعددية الثقافية” في بيئة فوضوية غير منظمة، على الأخص تنصبين سلفا الحدود المتينة بين مواطني مختلف الجنسيات القاطنة في دبي “تميلين إلى حجب ووضع حدود تفصل أي تضامن هوياتي بين أبناء الجاليات المغايرة” ص 45، على وجه الخصوص حين تتناولين سيرة الحياة الليلية، تذهبين إلى القول عن ” أطباع الأشخاص إلى فروق لا يمكن التغلب عليها ـ الطبع غلّاب ـ المترجم” أو الطبع يغلب التطبع؟
عدم التكافؤ في الأجور وتحديد الكثير من المهن حسب الجنسية في دبي ظاهرة قوية جدا، أحد الشخوص الذين التقيت بهم كان يعمل نادلا في مقهى، أولئك الذين يشبهوننا في فرنسا لكن ليس في دبي، كلنا مررنا بتلك التجربة في فترة من الحياة ” حيث لا يمكن الفصل في التسلسل الهرمي بين الزبون وبين من يختار هذه المهنة بشكل دائم” : في دبي يعتبر من اللامفكر به أن تعمل نادلا وأنت تحمل جواز سفر غربي، الكثير من فيز الدخول لمواطنين غربيين تم رفضها بسبب المهن المتدنية في سلم العمل التي حصلوا بموجبها على فيزا، التراتبية مركبة حسب الجنسية، هذا جيد لمنح النخب الوطنية في مواقع استراتيجية لحملهم جنسيات غربية، وبدونه لا يحصلون على وظائف بمستوى ومرتب عاليين.
س: أنت تأخذين على دبي دورها ” المرحلي” في إثارة الرأسمالية، وتحريضها مثلما أشار مايك ديفيز في قراءته المعنونة بـ ” دبي ملعب الرأسمالية”؟
الصور الاستثنائية التي تأتي من دبي تزيد من غموض الديناميات الاجتماعية التي تشكّل هذه المدينة، الكثير من الذين لا يملكون جوازات سفر، المقيمون في دبي، يعيشون طوال حياتهم في الإمارات العربية المتحدة، يطورون أشكالا من الارتباط والانتماء مع هذه المدينة، حسب تعبيرneha vora في قراءتها المعنونة بـ ” المواطنة المستحيلة : الشتات الهندي في دبي”.
المقيمون الغربيون في دبي يصورونها باعتبارها مدينة وهمية ” مزيفة” ، لكن الخيارات المتوفرة في دبي تشبه كثيرا تلك المتوفرة في بعض مدن الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يتم اختراع الطرق السريعة أو الاستهلاك في دبي. يعد اختراع حالات الهجرة والتسلسلات الهرمية بين المواطنين والمهاجرين أيضًا خصوصية للعالم المعاصر، كما هو الحال في صلابة الحدود وجوازات السفر البيومترية وعدم المساواة بينهما. تتشكل دبي بديناميات معاصرة تتفاقم، لكنها ليست استثناء.
الطابع المدني السريع لا يقتصر على منطقة الخليج، هو طابع يلف حاضر العالم، طابع شكلته الأيديولوجيات التنموية والنيوليبرالية، ليست صورة قلقة لمستقبل بائس، لم يتم اختراع الطرق السريعة ” الاتوسترادات” والمجتمعات الاستهلاكية في دبي، اختراع حالات الهجرة والتفاوت الطبقي بين المهاجرين والمواطنين أيضا خاصيات يتميز بها العالم المعاصر، كما هو حال صعوبة اجتياز الحدود وصرامة نقط المراقبة وجوازات السفر البيومترية وغياب العدالة بينها، تنمو دبي بزخم ديناميات حداثية ولكنها ليست استثناء أبدا.
• كلير تولون :
صحفية، عملت مراسلة لجريدة اللوموند من القاهرة، تعمل حاليا باحثةً في مبادرة الإصلاح العربي، حاصلة على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية عن أطروحتها “قطر، العائلة المالكة، قناة الجزيرة” نشرت كتابا بعنوان ” قناة الجزيرة وحرية التعبير” في العام 2011.
• إيميلي لو رينار:
عالمة اجتماع وباحثة في المركز القومي للبحوث العلمية، انضمت إلى الفريق البحثي في مركز موريس آلبواكس في العام 2011، حاصلة على شهادتي دكتوراه في العلوم السياسية من معهد العلوم السياسية في باريس 2009 وأخرى باللغة العربية، دكتورة زائرة في جامعة كولومبيا ” نيويورك” ومحاضرة وباحثة في جامعة فرساسي سانت كوينتين، تشغل مقعد الزمالة في جامعة فراي ” برلين” وباحثة زائرة في جامعة بيركلي منذ العام 2016.
تعتمد إيميلي في أبحاثها على الدراسة الاستقصائية الإثنوجرافية في علم الاجتماع المقارن، وتختار مواضيعها عن المسائل بين الجنسين في التجمعات المدنية لتسليط الضوء على القضايا السياسية مثل أطروحتها عن المرأة السعودية في الحيز العام، متخذة أحوال المرأة في الرياض، عاصمة المملكة، بعنوان ” أنماط الحياة المدنية، اختراع الأنوثة، علم اجتماع سياسي، محاولة لفهم مكانة المرأة السعودية في الحيز العام في الرياض”.
شاركت في العديد من الأبحاث والمشاريع الجماعية التي تسائل المعايير” الوطنية” للنوع وللجنسانية. تركز في أبحاثها الحالية على التحولات في التراتبية الوظيفية حسب الجنس والطبقة والعرق والجنسية في المهن المختلفة، وعلى مختلف الجنسيات في الخليج العربي، الرياض ودبي بشكل خاص.
حصلت على جائزة من المركز القومي للأبحاث العلمية CNRS في العام 2015 ومنصب مشرفة من جمعية المرأة في الشرق الأوسط على كتابها ” Opportunities of Place, Power, and Reform in Saudi Arabia (Stanford University Press, 2014).

*وليد خليفة:
مترجم سوري مقيم في باريس.

التاسع والتسعون ترجمات سياسة

عن الكاتب

وليد خليفة