قرأتُ عن فرنسا في الكتب وعن علمائها ومفكريها وفلاسفتها وكتّابها وأدبائها، بل وقرأت لهم؛ قرأت لديكارت “أبو الفلسفة الحديثة”، وفولتير “فيلسوف التسامح والتنوير”، وفكتور هوغو الذي تستشف من روايته “البؤساء” الروح الاجتماعية، كل ذلك ولّد لدي الرغبة في معرفة هذا البلد ومعرفة شعبه والاقتراب منه.
سمعت عن فرنسا والفرنسيين كثيرًا من الأصدقاء والمعارف، سمعت عن بخل الفرنسيين، وعن أنهم غير اجتماعيين، بيد أن هذه الرحلة أثبتت لي غير ذلك، فمن يرى بنفسه يختلف عمن يعتمد على ثقافة سمعنا، ومن يخوض التجربة بذاته يختلف عمن يأخذ الأخبار من ثقافة حدثنا وأخبرنا فلان.
ذهبنا أنا والعائلة في هذا الصيف الحار إلى فرنسا بقصد الزيارة والسياحة، زرنا عائلة فرنسية، وهي عائلة الصديق العزيز مهدي عياشي، والمتكونة من خمسة أشخاص بما فيهم مهدي، والبقية هم: أبوه نور الدين من أصل جزائري، وأمه سابين من أصل فرنسي، وأخوه يونس وأخته نينا، وذلك لأن هذه العائلة زارتنا في منزلنا بعمان، ودعتنا هذا الصيف لزيارتهم فلبينا الدعوة.
هذه العائلة، تتمتع بذوق أخلاقي، وجمال روحي، وأدب جم رفيع، وثقافة مرنة متسامحة، وفكر مستنير واع.
في هذا المقال سأذكر بعض المواقف التي مرت بنا ونحن في فرنسا، وعن قرب من الفرنسيين وبتعايش معهم؛ ركبنا معهم الحافلات والسيارات، والميتروات والقطارات، وسكنا معهم في البيوت، ولعبنا معهم في الحدائق والمنتزهات، وسحنا معهم لرؤية المعالم الأثرية والحضارية والدينية، فزرنا الكنائس وبرج إيفيل ونهر السين وغيرها، واشتركنا معًا في المأكل والمشرب والمنام، فماذا إذن رأيتُ من خلال هذه الرحلة؟
رأيتُ الفرنسيين اجتماعيين، بل يعيشون حياة اجتماعية مفعمة بالحب وروح التعاون وجمال الابتسامة، ومن الأمثلة على ذلك:
في مطار شارل ديغول بباريس استقبلنا الصديق الجميل مهدي وهو طالب دكتوراه في فرنسا، وأستاذ معيد في إحدى جامعاتها، استقبلنا أحسن استقبالنا بوجه بهي نضير، وابتسامة مضيئة ملؤها الفرح والسرور، أشعرتنا بالسعادة وأدخلت في قلوبنا الابتهاج وأنستنا عناء السفر.
ليس هذا فحسب، جاءت أم مهدي سابين من منطقة “نورماندي” وهي تبعد عن “باريس” مائتي كليومتر، مصطحبة معها بشاشة الوجه وابتسامة المحيا وبعض الهدايا للأطفال، جلسنا معاً في حديقة “بيلفيل” نتحدث عن كثير من الأمور، ونتشاور في برنامج اليومين المقبلين لزيارة “باريس”، ونشاهد أطفالنا يلعبون مع الأطفال الفرنسيين دون أن يفهموا حديثهم.
في فرنسا وبالذات في “نورماندي”؛ كنا كلما دخلنا محلاً أو وجدنا بعض الناس في الأسواق والحدائق يبادروننا بالتحية، فيقولون “بنجور” أي صباح الخير أو يقولون “بنسوار” أي مساء الخير.
وعندما زرنا “نورماندي” كان لدى والدي مهدي سيارة صغيرة ذات باب واحد، ولما علم جيرانهم بأن لديهم ضيوفًا أعطوهم سيارتهم ليستعينوا بها فترة إقامتنا معهم.
ذات مرة كنا نستعد للعشاء في نورماندي ببيت نور الدين وسابين، وإذا بسابين تدخل علينا ومعها فتاة شابة قادمة من أستراليا، فسألنها: من هذه؟ فقالت: هذه بنت صديقتي، جاءت للمبيت هنا وستواصل سفرها صباح الغد.
هناك مواقف كثيرة تنبئ عن حياة الفرنسيين الاجتماعية، غير أننا نحن العرب نقيس الحياة الاجتماعية وفق معايير عادتنا وتقاليدنا وإلا فلا نعتبرها حياة اجتماعية، وهذه مغالطة في الفكر، فمن المهم أن نعي بأن الحياة الاجتماعية هي عادات وتقاليد وتواصل وتعايش نسبي يختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن زمن إلى زمن، أما أن نحكم على الناس وفقا لحياتنا الاجتماعية ونقيسهم عليها ونلزمهم بها كما نلزم بعضنا البعض بالرأي الأوحد في الدين والمجتمع فهو من الأخطاء التربوية والفكرية والثقافية والاجتماعية.
رأيت حياة الفرنسيين يحفها الكرم والتعاون، هناك مواقف عديدة تدل على ذلك مرت علينا في “باريس” و”نورماندي” وهما المنطقتان اللتان زرناهما في فرنسا، سأذكر بعضها، وسأضرب صفحًا عن بعضها الآخر لئلا أطيل على القارئ.
لم يألُ مهدي جهدًا في ضيافتنا والاهتمام بنا، إذ استأجر شقة في “باريس” لنا مدة ثلاثة أيام، ورفض أن يأخذ منا قيمة الاستئجار، كانت شقة صغيرة جميلة ونظيفة، تقع في حي “بيلفيل” وتعني “مدينة جميلة”، كان بجوار الشقة حديقة صغيرة، فيها بعض الألعاب والملاهي، والذي بدا لي أن مهدي تعمّد أن تكون الشقة على هذا النحو ليجد فيها الأطفال متنفسًا للعب والمرح، وفعلاً هذا ما كان يحدث كل يوم في فترة العصر، ووضع برنامجًا لرحلتنا في “باريس” واستشارنا فيه، وأخبرناه بأن الأمر بيدك، فما تختاره فهو حسن، في كل يوم يصبّح بنا مهدي بإفطار فرنسي لذيذ دون مقابل، كان يريد منا أن نتذوق إفطارهم، وبعد الإفطار ننطلق في جولة باريسية حول معالمها الجميلة الأثرية والحضارية، كذلك لم يألُ جهداً في الارشاد السياحي والإجابة على كل أسئلتنا بل حتى على أسئلة أبنائنا، وعندما نستقل الحافلات أو الميتروات يدفع أحياناً قيمة التذاكر عنا.
وفي “نورماندي” نزلنا في بيت نورالدين وسابين وسكنا معهم لمدة خمسة أيام، وأعطونا غرفتين، وقالوا لنا: خذوا راحتكم في البيت. شاركونا وجباتهم اليومية، كانت أول وجبة تناولناها معهم وجبة غداء، كانت وجبة لذيذة ودسمة أعدها لنا نور الدين وسابين بأنفسهم، وهم غالباً ما يتشاركون في إعداد الطعام، فأحيانًا يعده نورين وسابين وأحياناً مهدي وسابين وأحيانًا مهدي ونورين، وأحياناً بثلاثتهم معاً، وقد شعرنا أنه من اللائق أن نشاركهم في إعداد الطعام، ولكنهم كانوا يرفضون بشدة، لقد قالوا لنا: أنتم ضيوفنا وفي إجازة واسترخاء فلا ينبغي منكم الاشتغال بهذه الأشياء، لكن في أحيان قليلة جداً استطعنا مع كثير من الالحاح منا أن أشاركهم مع زوجتي سعاد في إعداد بعض الطعام أو في غسل الأواني.
تصادف يوم عيد الأضحى أن يكون في يوم الأحد، وهذا أمر جيد؛ إذ سيحظى الجميع بإجازة وهدوء، إلا أن يوم العيد كان يومًا مختلفًا جدًا عن باقي الأيام، ما فلعناه في صباح ذاك اليوم هو أننا خرجنا معًا إلى السوق المجاور أنا ونور الدين وسابين، اشترينا بعض احتياجات المنزل من هناك، ثم عرجنا على مجزرة اللحم أثناء عودتنا، أراد نور الدين أن يشتري لحمًا طازجا ليطبخه لنا تعبيرًا عن فرحة العيد، وفعلاً كانت وجبة شهية لذيذة دسمة.
في كل يوم تحضر سابين ألعابًا مختلفة للأبناء ليعلبوا بها في المنزل لكيلا يشعروا بالملل، وتحضر لهم حلاوة بعد كل عشاء طيلة إقامتنا معهم، ومن عادة العائلة أنها لا تفطر صباحًا، ولكن بحضورنا كانوا يعدون الإفطار لنا كل صباح.
أخذونا في جولات متعددة في سيارتين وأحيانًا في سيارة واحدة إن لم نذهب كلنا دون أن يسمحوا لنا بدفع يورو واحد لتعبئة بنزين السيارة، مع أن البنزين في فرنسا غال جداً.
تشتهر “نورماندي” بغزارة إنتاج الألبان والأجبان، فالأجبان معهم كثيرة جدًا ومتنوعة الأشكال والمذاق، حتى إنه يقال إن بإمكانك أن تأكل في “نورماندي” كل يوم نوعًا مختلفاّ من الجبن مدة سنة دون أن تكرر نوعاً واحداً منها، فكانوا كل يوم عند الإفطار أو عند العشاء يأتون لنا بنوع جديد من الجبن.
أجل؛ هم اقتصاديون، لكنهم ليسوا ببخلاء، وهناك فرق بين البخل والاقتصاد، فهم يقدمون الطعام المتنوع دون إسراف وتبذير، وما تبقى لا يرمى، ولكن يحتفظ به ليوم آخر، ووجدت مثل هذه العادة في تنزانيا وكينيا، أما معنا فنأكل ثم نرمي، وإن لم نسرف ونبذر في تقديم الطعام فنحن لسنا بكرماء، هذه المغالطة للأسف الشديد يمارسها الكبير قبل الصغير.
هذه الحياة التي يعيشها الفرنسيون ألا تدل على الكرم والتعاون وحسن التعايش وجمال المحبة واحترام الصحبة والنعمة؟ بل هذا ما أتى به الإسلام، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف:31، أظن أن الناس الذين يقولون بأن الفرنسيين بخلاء هم لم يعايشوهم أو أنهم مروا بمواقف عامة مع أناس غرباء، أو كانوا في مواقف الحيطة والحذر، وكما يقال: “لكل مقام مقال”، أو أنهم يتوقعون من الفرنسيين أن يكرموهم بالإسراف والتبذير كما يفعل العرب في أوطانهم، أو أنهم لا يفرقون بين الاقتصاد والبخل.
ورأيت في الفرنسيين روعة الأخلاق الإنسانية والتواضع في القول والفعل وجمال الابتسامة، من ذلك أننا في أول يوم بعد رجوعنا من منتزه “بوت شومون” في “بيلفيل” ركبنا حافلة عمومية مزدحمة بالركاب كان منهم الواقف ومنهم الجالس، وكانت هناك امرأة عجوز جالسة على كرسي، فدخل رجل عجوز أعجز منها يمشي على عكاز، فقامت من كرسيها وأجلسته عليه، بعد ذلك سألت ابنتي أقانيم: لماذا هذه العجوز نهضت وجعلت ذاك الرجل مكانها؟
أجبتها: بأنها الأخلاق الإنسانية.
نعم ذلك جزء من أخلاق الفرنسيين، خلق ينبئ على أنه شعب خلوق وواع ومحترم، عندما نركب المواصلات والميتروات والقطارات لا أرى إلا النظام والاحترام في وسط ذلك الزحام، فلا أسمع ضجيجاً ولا صخباً ولا أرى تدافعاً أمام الأبواب، ولا عزاماً إلى أن يفوت القطار، بل الحركة تجري بسلاسة كما يجري الماء في جداوله.
دعتني أولجا الفرنسية إلى زيارة المعهد العالم العربي بفرنسا، المعهد الذي تعمل فيه، أولجا هي باحثة فرنسية التقيت بها في عمان في معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الرابعة والعشرين ودعتني يومها لزيارة المعهد، لذلك كان علي أن أتواصل معها فتواصلت وأنا في قارب سياحي على نهر السين، سعدت كثيراّ بتواصلي معها، وأعادت توجيه الدعوة لزيارة المعهد، فلبينا الدعوة وزرناه، فالتقت بنا بوجه طلق وابتسامة جميلة ورحبت بنا ترحيبًا حارًا، ثم أخذتنا في جولة تعريفية بالمعهد ومكتبته وأنشطته.
عندما وصلنا محطة القطارات في “نورماندي” أخذنا سيارة أجرة، وبعضنا ركب سيارة والدي مهدي، لما علم سائق سيارة الأجرة بأننا ضيوف رحب بنا بكلمات الترحيب وابتسامة الابتهاج والسرور ثم رفض أن يأخذ كل القيمة لأننا ضيوف في “نورماندي”.
يحب أبنائي المنيب وأقانيم الحيوانات الأليفة، وعندما نمر على أناس فرنسيين معهم كلاب يقف أبنائي ينظرون إليها، فيقف أحياناً أصحابها معهم، فيلعبون ويمرحون مع الحيوان، ويأخذ صاحبه يتحدث معهم بوجه مبتسم.
من صور تواضع أخلاقهم أن سابين تجلس مع الأطفال تشرح لهم الألعاب وتشرح لنا المعالم السياحية والأثرية، بل كانوا جميعهم يفعلون ذلك، وجميعهم نورالدين وسابين ومهدي كانوا يجيبون على أسئلتنا وأسئلة الأبناء دون تأفف، بل بكل سرور وصدر رحب.
رأيت الفرنسيين يستغلون فترات الأكل كالغداء والعشاء في تبادل الحديث الودي والتحاور الثقافي والمعرفي والفكري، وذلك من خلال عدة مواقف مررنا بها معهم، ففي بيت نور الدين وسابين غالباً ما نجلس على مائدة الطعام وطاولة الحوار، فنتحاور في ثقافات الأديان تارة، وتارة أخرى في خلق الإنسان والجان، ومرة عن العادات والتقاليد، أو عن تربية الأبناء وأمور المعيشة، هكذا تستغل موائد الطعام في منازلهم، وفي فترة العشاء في الجو الطلق أحياناً إن لم يكن هناك برد أو مطر مع إضاءة خفيفة تنثر جواً رائعاً، يعزف لنا مهدي على الجيتار عزفاً هادئاً، وأحياناً البيانو في صالة الطعام.
ولا أريد القول بأن المجتمع الفرنسي مجتمع ملائكي، بل هو مجتمع كباقي المجتمعات البشرية، فيه الكرم والبخل، والجيد والرديء، والحسن والقبيح، والخير والشر، هكذا هي سنة الحياة، بيد أنه من الخطأ أن نبخس مجتمعاً ما حقه من الجمال والصفات الحميدة، ومن الخطأ أن نعمم الصفات القبيحة على مجتمع ما وفق تصوراتنا وعاداتنا وثقافتنا وأهوائنا، بل من الجمال أن ننظر إلى الوجه الجميل في المجتمعات الجميلة التي نزورها، أن نقرأها قراءة إنصاف، وقراءة جمال ومحبة وتعارف وتعايش، وفق إمكاناتنا العقلية والمادية والمكانية والزمانية.
السفر مدرسة وحياة وتعايش؛ هذا الجمال والأدب والأخلاق والود الذي عرفناه من العائلة الفرنسية وممن التقينا بهم في المجتمع الفرنسي هم أنموذج جميل يجذبنا إلى محبتهم جذباً، ويأسر قلوبنا، ويعلمنا دروساً من الحياة، فنحن مدينون لهم وممتنون لكل ما قدموه لنا من جمال الأخلاق وحسن التعامل وكرم الضيافة وأدب الثقافة والمعرفة والحوار، فشكراً أيها الصديق الخلوق مهدي، وشكراً للرجل الحليم نور الدين وشكراً للمرأة الطيبة المتواضعة سابين، بل شكراً لفرنسا، شكراً “باريس”، شكراً “نورماندي”.