خرصات هوليود:
لم يحدث بالفعل !
محمد عبدالله العليان
” حدث بالفعل” هو اسم برنامج سينمائي أسبوعي يبثه تلفزيون حكومي في بلد عربي أتردد عليه منذ عام 2005. و حسب ما يشير الاسم فانه يعرض بعد مقدمة موجزة من مذيعته الشابة فيلما مبنيا على أحداث حقيقية. و خلال زيارتين شاهدت فيلمين الأول اتفاقا بدون طلب مني و أنا في غرفة الفندق المتواضع و الثاني بطلب حيث أني لا أذيع سرا إذا قلت أني من هواة مشاهدة الأفلام الوثائقية و الأفلام الروائية المبنية على أحداث حقيقية. الفيلم الأول كان Elizabeth عن ملكة انجلترا إلزابث. أما الثاني فكان فيلم Enigma، أحجية.
الفيلم الأول التزم الخطوط العريضة لحياة ملكة انجلترا البروتستانتية الحافلة بالانجاز و المأساة لكن فيلم Enigma كان بالكامل قصة خيالية و إن وضع في سياق تاريخي. لكن المذيعة التي لا يبدو انها تجري أي أبحاث عن أفلامها قدمته على انها قصة حدثت بالفعل. و لا يشي هذا فقط بعدم أهليتها و لكن يكشف عن مرض أوسع عمت به البلوى في منطقتنا العربية حيث ذكر لي أستاذ فاضل ثقة مطلع في تلك البلاد عن رجل نافذ في تلفزيونها انه قال له لما شفع لخريج إعلامي كفؤ ” أنا لا أوظف إلا بالواسطة ” موضحا، أي رجل التلفزيون هذا، أن من قبل شفاعته يستفيد هو منه و هذا ما لا ينطبق على هذا الأستاذ الجامعي!
فيلم إنجما مبني على قصة خيالية للروائي روبرت هارس و يحكي قصة بوليسية شائقة عن عالم رياضيات بريطاني شاب يتمكن من فك شفرة إنجما التي استعملها الألمان في الحرب العالمية الثانية و ذلك أثناء عمله في ضيعة بلتشلي المقر الرئيس لمكتب الشفرات البريطاني. و أثناء عمله هذا يقع في حب سيدة تختفي فجأة يتبين لاحقا انها عميلة لضابط استخبارات بريطاني يطارد بولنديا يعمل في الضيعة على وشك تسريب سر فك الشفرة للألمان بعد ما وجد في برقية ألمانية فكت شفرتها اسم أخيه ضمن أسماء الضباط البولنديين الذين قتلهم الروس في مذبحة كيتين.
و رغم أن البريطانيين تمكنوا من فك الشفرة الألمانية إنجما ( في الواقع بمساعدة جليلة من ثلاثة علماء رياضيات بولنديين تم غمط حقهم في الذكر) و رغم أن الجيش الروسي يوم 5 مارس 1940 قتل بالفعل 8000 ضابط بولندي في كيتين، بموافقة الرفيق ستالين نفسه، و رغم أن الجيش الألماني أذاع خبر المذبحة بعد اكتشافه القبور الجماعية عام 1943 في غابة كيتين، برغم كل هذا فان الفيلم برمته محض خيال مثله مثل مسلسل (الغريقة) الذي قدمه التلفزيون العماني في رمضان المنصرم: فبرغم أن حادثة غرق السفينة (الفوز) في إعصار الشلي عام 1959 و معها مئتي مسافر جلهم من سكان ظفار حادثة حدثت بالفعل، إلا أن المسلسل برمته من نسج الخيال. و هذا يقودنا إلى أفلام أخرى أنتجتها هوليود و قدمت للجمهور على أساس انها مبنية على أحداث حقيقية لكنها تخالف الحقيقة يبلغ عددها المئات. نعم المئات!
أفلام أخرى
من هذه الأفلام التي قد تهمنا نحن أبناء العالم العربي فيلم Black Hawk Down ، سقوط مروحية بلاك هوك ، الذي يحكي قصة سقوط مروحيتي بلاك هوك أمريكيتين في شوارع مقديشو و مقتل 18 عسكريا أمريكيا أثناء محاولة قوة أمريكية من النخبة إلقاء القبض على رجال ميليشيا صوماليين. هذه الخلفية صحيحة لكن اغلب تفاصيل الفيلم غير صحيحة خاصة فيما يتعلق بمقتل رجال المليشيا الصوماليين بدون مقتل مدنيين و إخفاء حقيقة أن جثة طيار واحد سحبها الصوماليون الغاضبون في الشوارع. روبرت أوكلي الممثل الأمريكي الخاص للصومال حينها قال أن ما بين 1500- 2000 صوماليا سقطوا بين قتيل و جريح بما فيهم نساء و أطفال لان “الأطفال و النساء استعملوا كدروع بشرية و في بعض الحالات كانت النساء و الأطفال يطلقون النار” حسب قوله. و الحقيقة أن 315 صوماليا مدنيا و عسكريا قد قتلوا في تلك المعركة غير المتكافئة جدا تبين لاحقا أن 133 منهم كانوا من المليشيا. الفيلم يتجاهل مشاركة القوات الدولية الباكستانية و الماليزية ( قتل ماليزي واحد و جرح سبعة باكستانيين) في فك الحصار عن الجنود الأمريكيين في احد موقعي سقوط المروحيتين. كما انه، كعادة هوليود في تصوير العرب و المسلمين، لا يصور الأبعاد الإنسانية للصوماليين في حين يحفل بإبراز المشاعر الأمريكية (هذا إذا ما تغاضينا عن صور الفيلم الأخيرة التي تصور وصول أفراد قوات النخبة عدوا إلى قاعدتهم وسط تصفيق و هتاف المدنيين الصوماليين و الصوماليات كبارا و صغارا و هو ما لم يحدث بالفعل).
فيلم آخر لفت انتباهي هو فيلم The 13th Warrior ، المحارب الثالث عشر، المبني على رواية (آكلو الموتى) لمايكل كرشتون و التي تزعم انها تستند على وقائع رحلة ابن فضلان إلى ارض الصقالبة ( جمهورية التتار في روسيا الاتحادية حاليا) و أطراف اسكندنافيا في عهد الخليفة العباسي أبو الفضل جعفر المقتدر بالله سنة 920 ميلادية. و رغم انها المرة الأولى التي أرى فيها فيلما روائيا من إنتاج هوليود يصور العربي في صورة ايجابية جدا إلا أن أحداث الفيلم لم تحدث بالفعل و إن كانت مصبوغة بما وصفه ابن فضلان في رسالته عن طبائع الشعوب التي أشار إليها بالترك و الروس.
يصور الفيلم مشاركة ابن فضلان فرقة من الفايكنج الشجعان في رحلة إلى مملكة صغيرة من ممالك شمال اسكندنافيا للتصدي لغارات قوم همج، يتقنعون بجماجم الدببة و يجتبون جلودها، تسودهم امرأة ساحرة تعيش في كهوف في باطن الأرض. و الرحلة التي أصابت نجاحا بقتلهم تلك الساحرة و هزيمة قومها كانت بناء على نبؤه عرافة قالت انه لا بد من 13 محاربا لهذه المهمة على أن يكون المحارب الثالث عشر غريبا من ارض أخرى ليس من الفايكنج و هو الشرط الذي وفره وصول ابن فضلان وهو يحمل رسالة و هدايا الخليفة إلى ملكهم الذي وجده قد مات و وجدهم يحرقونه في سفينة كعادة الفايكنج مع كبرائهم إذا ماتوا. و يدعي الفيلم في بدايته أن إرسال ابن فضلان إنما كان نوع من النفي بعد أن اشتكى رجل نافذ في بغداد إلى الخليفة غرام ابن فضلان بامرأته! و هو ما لم يحدث بالفعل و إنما هو إسقاط ثقافي غربي. السبب الحقيقي للرحلة يفصله ابن فضلان في رسالته الباقية إلى يومنا هذا بقوله:
” لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدا وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له فأجيب إلى ما سأل من ذلك وكان السفير له نذير الحرمي فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه وتسليم ما أهدى إليه والإشراف على الفقهاء والمعلمين وسبب له بالمال المحمول إليه لبناء ما ذكرناه.”
و تقع الرسالة في نحو 15 صفحة تصور تصويرا أمينا بدون أحكام أو ازدراء طبائع تلك الشعوب و عوائدها. و قد أكد المؤرخون الاسكندناف، الذين يكنون لابن فضلان الاحترام على نزاهته التاريخية، أن وصفه لآخر بقعة ارتحل إليها يطابق وصف ثقافة شعوب اسكندنافيا في ذلك الوقت أو النورس Norse في فترة الفايكنج. كما إني أرى أن وصفه التالي يطابق وصف ظاهرة أضواء الشمال أو الشفق الشمالي :
” ورأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها كثرة من ذلك: أن أول ليلة بتناها في بلده رأيت قبل مغيب الشمس بساعة قياسية أفق السماء وقد احمرت احمرارا شديدا وسمعت في الجو أصواتا شديدة وهمهمة عالية فرفعت رأسي فإذا غيم أحمر مثل النار قريب مني وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه وإذا فيه أمثال الناس والدواب وإذا في أيدي الأشباح التي فيه تشبه الناس رماح وسيوف أتبينها وأتخيلها وإذا قطعة أخرى مثلها أرى فيها أيضا رجالا ودواب وسلاحا فأقبلت هذه القطعة تحمل على هذه كما تحمل الكتيبة على الكتيبة ففزعنا من ذلك وأقبلنا على التضرع والدعاء وهم يضحكون منا ويتعجبون من فعلنا. قال: وكنا ننظر إلى القطعة تحمل على القطعة فتختلطان جميعا ساعة ثم تفترقان فما زال الأمر كذلك ساعة من الليل ثم غابتا. ”
و حيث انه وصل وجهته في الصيف فان وصفه التالي يطابق أيضا طول الليل الصيفي في خطوط العرض القريبة من شمال الكرة الأرضية :
” ورأيت القمر لا يتوسط السماء بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر وحدثني الملك أن وراء بلده بمسيرة ثلاثة أشهر قوم يقال لهم ويسو الليل عندهم أقل من ساعة.”
فيلم آخر قد يهم أبناء العالم الثالث هو فيلم The Last King of Scotland، آخر ملوك اسكتلندا، الذي يزعم انه يستند على وقائع من حياة الرئيس الأوغندي الراحل عيدي أمين. و يصور الفيلم العلاقة بين أمين و طبيب اسكتلندي شاب جاء إلى أوغندا ضمن بعثة تبشيرية و لاحقا يقترف الزنا مع إحدى زوجات صديقه الطاغية فتحمل منه. يبلغ الصراع ذروته بإعدام الزوجة و هروب الطبيب. و كل هذا لم يحدث بالفعل. فلم يكن هناك طبيب غربي مقربا من أمين عندما أصبح رئيس أوغندا بل كان هناك رجل بريطاني يدعى الميجر بوب استلس كان مستشارا للنظام الذي انقلب عليه أمين فعذبه أمين وسجنه زهاء ثلاثة أشهر ثم رده إلى وظيفته الأولى و بقى إلى جانب أمين حتى سقوطه فحاكمه النظام الجديد و سجنه من جديد. أما أمر الزوجة الزانية فالذي زنى بها كان طبيبا أوغنديا قتل نفسه عندما ماتت الزوجة من النزيف أثناء محاولة الطبيب إسقاط حملها.
الدراما الوثائقية: وقعة من اجل حديثة
و في غمرة أفلام العنتريات الأمريكية في العراق (عندما تروع دولة عظمى دولة من العالم الثالث تحت غطاء جبل من الأكاذيب و يستلذ جنودها القتل العشوائي و القتل بالجملة) فإننا يمكن أن نقول أن أفلامLive from Baghdad ، مباشر من بغداد، و Home of the Brave، وطن الشجعان، لم تحدث بالفعل. لكن فيلم الدراما- الوثائقية Battle for Haditha، وقعة من اجل حديثة، حدث بالفعل. و الفيلم إعادة سرد أمينة لأحداث يوم 19 نوفمبر 2005 عندما فجر مقاومون عراقيون عبوة ناسفة في رتل من المارينز في بلدة حديثة ( قضاء الرمادي ) مما أسفر عن مقتل عريف محبوب جدا . فما كان من باقي الجنود إلا أن صبوا جام غضبهم على سكان البلدة فقتلوا 24 مدنيا بينهم ثلاثة أطفال و سبع نساء . و يتبع الفيلم قصة كتيبة المارينز كيلو و عائلة عراقية و رجال المقاومة.
البيان الذي صدر من قيادة الكتيبة في الرمادي كان كاذبا إذ أكد أن المدنيين العراقيين قتلوا جراء انفجار العبوة. و لولا أن مجلة Time ، تايم، الأمريكية كشفت عن حقيقة المذبحة في عددها الصادر 19 مايو 2006 (استنادا- من بين أشياء أخرى- على شريط فيديو صوره احد طلاب الإعلام العراقيين الذي وافق وجوده في قريته ذلك اليوم المشئوم، حصلت عليه المجلة من مؤسسة حمورابي الحقوقية لظل البنتاجون وقيادة الجيش في العراق مستمران في إنكار المذبحة التي أكدت التحقيقات اللاحقة وقوعها. و هذا وصف الطفلة (إيمان وليد) – التي كان عمرها حينها تسع سنوات- لما حدث في بيتها ذلك اليوم كما نقلته مجلة تايم، و التي كانت مع أخوها الأصغر الناجيان الوحيدان من عائلة بكاملها:
” سمعت الكثير من إطلاق النار لذا لم يخرج احد إلى الخارج. ثم أن الوقت كان مبكرا و كنا ما زلنا في ثياب النوم. عندما دخل المارينز بيتنا كانوا يصيحون باللغة الانجليزية. دخلوا أولا إلى غرفة والدي حيث كان يقرأ القران فسمعنا صوت إطلاق الرصاص. ثم دخلوا غرفة المعيشة و رأيتهم يقتلون جدي أولا في الصدر ثم في الرأس. ثم قتلوا جدتي (و بدأوا يطلقون النار إلى زاوية الغرفة حيث اختبأت هي و أخوها الأصغر عبدالرحمن الذي كان عمره ثمان سنوات فتلقى الكبار الرصاص و قتلوا أثناء ذلك). أصبت في رجلي بشظية و أصيب عبدالرحمن قريبا من كتفه. كنا مستلقين هناك ننزف و نتألم بشدة. بعد ذلك دخل جنود عراقيون و حملونا على أذرعهم. كنت ابكي و أقول لما فعلتم هذا بعائلتي فرد احدهم: نحن لم نفعل هذا إنما فعله الأمريكيون”.
و رغم أني احي الشجاعة الأخلاقية لمنتجي هذا الفيلم الوثائقي و مخرجة و قبلهم مجلة تايم، الأمر الذي يشي بما يتمتع به القوم في بلادهم من حرية و احترام و هو ما يفتقده صناع الأفلام الوثائقية في منطقتنا العربية، و رغم أني أيضا احي الشجاعة الأخلاقية للأمريكيين الذين ساهموا في الكشف عن فضائع سجن (أبو غريب) سيء الذكر، فاني اختم بالقول انه لا يجب أن نفرح إذا سمعنا أن هوليود تريد أن تصورا أفلاما في السلطنة، كما قرأت في الصحف المحلية، فإنها ربما تذهب فتسبنا لان كل الأفلام التي أنتجتها و فيها إساءة شديدة للعرب و المسلمين قد صورت اغلبها في تونس و المغرب و مصر! أما الفيلم الأخير الكاذب The Hurt Locker ، خزانة الألم، الذي منح جوائز الأوسكار مؤخرا فقد صور في الأردن.
لن يحترمنا الآخرون، خاصة هوليود الخراصة، حتى نبدأ أولا باحترام أنفسنا.