لماذا نقلق بشأن ظهور النسوية والخطاب النسوي؟

كتب بواسطة فاطمة الساعدي

في أقل من ٤٨ ساعة على إنشاء أول حساب نسوي داعم لقضايا المرأة في سلطنة عمان على منصة تويتر، وهو حساب نسويات عمانيات، اجتاحت موجة متباينة الآراء، لا تخلو من كمية من المبالغة والتحامل والاتهام، التي تعرض لها أصحاب الحساب. وقت مبهر وقياسي تفاعل فيه الكثير من المغردين بين من رفض وبين من دعم وبين من يراقب بصمت ليقرر لاحقًا أي الفريقين ترجح كفته. ويبدو أن الأمر متصل بعلاقة المنطقة بالحراك النسوي والحراك النسوي الخليجي على وجه الخصوص.

لقد تأخر ظهور الموجة النسوية الخليجية عن أقرانها في العالم العربي والعالم كافة؛ ففي مصر بدأ الحراك النسوي عام ١٩١٩م عندما خرجت النساء في أول مظاهرة شعبوية نسوية تندد بالاستعمار البريطاني لمصر، وبدأت بعدها أسماء وشخصيات مهمة بالظهور على الصعيد الثقافي والسياسي المصري والعربي على حد سواء، تهتم بالمرأة وقضاياها. مصر لم تحتكر هذا الحراك؛ فتلتها سوريا ولبنان وتونس والمغرب.
شخصيات وأسماء كثيرة تباينت في طرحها وفهمها الخاص للنسوية بتعدد موجاتها الأربع على مدار المائة العام المنقضية؛ إلا أنها قوبلت بهجوم وقذف وتشنيع من كل صوت رافض للتقدم والتحضر، أصوات ما انفكّت عن التمسك باستماتة بمقاليد الأعراف والعادات البالية والسائدة في العالم العربي. واليوم نعيد استحضار أسماء شامخة في كتب التاريخ وذاكرة الأجيال كقاسم أمين وصفية زغلول وهدى شعراوي والدكتورة نوال السعداوي والعظيمة فاطمة المرنيسي والمصرية ليلى أحمد وهاله شكر الله، وغيرهم الكثير من المتقدمين والمتأخرين بمختلف جنسياتهم العربية. شخصيات ساهمت في إبراز خطاب نسوي تمكن من أن يدفع بالمرأة إلى حيز النقاشات العامة بعد أن كانت حبيسة قالب التهميش والقمع الذي فرض عليها عنوة دوراً أمومياً وتربوياً، وأقصاها من الساحة العامة الثقافية والسياسية؛ فجردها من ممارسة إنسانيتها ودورها الشمولي في المجتمع مثلها مثل الرجل.
ولنا في الحراك النسوي السعودي عبرة وعظة لحداثة عهدنا به، فالمرأة السعودية كانت وما زالت تحمل هم النضال والتحرر من القيود المفروضة دينيا وعرفيا، ومن أنظمة الولاية والرقابة التي تحمل طابعا عقائدياً متطرفا بحدة. فبعد الإدارة الحديثة التي تحاول أن تقدم صورة برّاقة ومشرقة عن السعودية الجديدة تمكنت المرأة السعودية بعد جهاد سنين طوال من أن تنتزع بعضاً من حقوقها، كحق قيادة السيارة والسفر والعمل بدون وصاية نظام الولاية، حقوق نعتبرها في بلادنا حقوقاً بدهية كفلها لنا القانون.

وإننا بعد هذا السرد التاريخي لا ننفي اتفاقنا بشأن الاختلافات الجندرية والفسيولوجية الحادة بين الرجل والمرأة. تلك الاختلافات التي باتت محل تأكيد لا ينكره أحد، فلماذا إذا يتداعى الخطاب النسوي كل مرة منصاعا لحجج شعبوبة ودينية تصفه بالعهر والفساد وإحباط التقدم وتخريب المجتمعات وكره الرجل وكينونته الخلقية وغيرها من الوسوم التي تجرد النسوية من معانيها الحقيقية، وعلى رأسها الرفض التام للمنظومة الأبوية القاسية.
لماذا لا يفهم المنتقدون رفض النسوية للمنظومة الأبوية ؟ ولماذا دائمًا يقومون بربط هذا الرفض برفض الذكر ذاته؟ هل هو جهل باللغة وبمعنى المفردات؟ هل هو إقحام للأجندات التخريبية وتخويف العامة من الناس؟ أم هل هو محاولة بائسة للاستفادة من موجة النسوية وتلميع الصورة عند جهات معينة؟

عمان المرأة والسلطان

أعطى جلالة السلطان قابوس بن سعيد المرأة العمانية حريتها في أن تجد مكانها في بناء دولة عمان الحديثة، فدفعها دفعاً لكي تمارس دورها الوطني كشقيقها الرجل جنباً إلى جنب -رغم سطوة الأعراف وقتها – وعليه فقد سُنّت القوانين ووضعت الخطط التي تكفل للمرأة قانونياً بعض فرص المساواة التي وللأسف في السنوات الحالية نراها تتعرض للقمع والتنكيل من بعض من يدعون الوطنية والتدين الخادع، الذين ينفثون وساوسهم كالشياطين في مجتمعنا العماني.

ما سطّره جلالة السلطان قابوس نراه اليوم يتعرض للتهميش والتجاهل عندما تتعرض المرأة لكافة أنواع القمع والوصاية التي تمارس عليها نتيجة تسرب معتقدات طائفية ومذهبية هجينة على سماحة الفكر العماني، أدت إلى ظهور مجموعة من الأصوات الذكورية المتطرفة- ومناصريها من النساء غير العارفات بحقوقهن- ، أولئك الذين يعيشون على قمع حريات الآخرين واستعبادهم وفرض وصاية مرفوضة عليهم تحت غطاء شرعي وديني مبالغ في حدته، وهو ما لا يتناسب مع وسطية الإسلام.
الوطن يحتاج إلى قوانين تمنع انتشار التعسف المبني على النوع الجندري، كما يحتاج الوطن إلى فرض العقوبات على كل من يستغل الضعيف لكي يغرر به ويستغله ذكرًا كان أم أنثى. ومع وجود هذه القوانين التي نادى بها مثل المرسوم السلطاني رقم ٢٠١٩/٣ الذي ينص على التصديق على تعديل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وسحب بعض تحفظات السلطنة عليها الصادر في الثالث عشر من يناير لهذا العام ٢٠١٩؛ إلا أننا نرى تجاوزًات على هكذا قوانين بيّنة وواضحة في مجتمعنا.

الحساب الإلكتروني والوسم الذي أثار كل هذه الضجة طرح قضية طالبات السكنات الجامعي #عمانيات ـ نطالب ـ بإلغاء ـ التصاريح، لم يأتِ بالجديد؛ ولكنه أثار عش الدبور؛ فاستفاقت أصوات الفتنة والتخلف معًا، وبدأت تدير حجر رحاها مستغلة بذلك ضعف الوعي المجتمعي في هذه القضايا، وقبضة العادات والتقاليد البالية التي حاربها وما يزال يحاربها قائد نهضتنا والمثقفون أصحاب الضمائر الحية الذين لا ينجرون خلف أعداد المتابعين والداعمين على منصات التواصل الاجتماعي.

دبابير الفتنة

هل تحتاج المرأة العمانية وغيرها من شقيقاتها إلى وصي أو ولي يدير حياتها ويمنعها من ممارسة حقوقها الطبيعية من عمل وتعليم كفلها لها الشرع والقانون؟ وهل يجوز تخوين المرأة العمانية في وطنيتها وتحقير صوتها عندما تناقش واقعها الاجتماعي وتطلب تحسينه؟ وهل نقبل أن نتجاهل معاناة بناتنا وأخواتنا ونسمح لأصوات من خارج الوطن بأن تطعن في مصداقيتهن وتدعي معرفة نواياهن وخفايا صدورهن فتتعرض لشرفهن وأخلاقهن؟ وهو ما فعله تمامًا صاحب مقال وطن الدبور الذي لم نسمع به من قبل، بل ظهر لنا كالفطر المسموم بكل غرابة يناقش قضية داخلية خاصة بهدف نشر الفوضى والفساد يحمل عنوان: حساب يثير الفتنة بين الفتيات في سلطنة عمان يطالب بتحريرهن. ولعل ما يحز في النفس أكثر هو التأييد الذي حصل عليه الكاتب والمقال من بعض الأصوات العمانية الشبابية على منصات التواصل الاجتماعي.
يحتاج بعض المثقفين في وطني إلى أن يقفوا وقفة حق مع أنفسهم أولاً من مصارحة ذات وفهم أسباب هجومهم على كل نقاش تتمحور مركزيته حول المرأة، لماذا يقلقهم أن تكون المرأة مساوية للرجل في حقوقة وواجباته القانونية؟ ولماذا يخاف بعض المناصرين من دعم قضية النسوية جهارًا؟ ما الذي يمنع المرأة العمانية عن أن تكون مسؤولة عن نفسها وقراراتها؟ ولماذا لا تتوقف الادعاءات التي تمس كيان المرأة فتصفها بالإنسان الفاقد للأهلية، وتجعلها كائنا خفيف العقل ومن السهل أن يقع ضحية الخداع والكذب؟
وكيف يعقل أن يوجد في مصاف صناع القرار في بلادي من يؤمن بدونية المرأة عن الرجل، ولكن يؤمن في الوقت ذاته بأن المشرع الإسلامي يقرر وضع الجنة تحت أقدام أمهاتهم؟ وما يزال يعيد تكرار الحديث الذي يشير نصه إلى أن من يربي بناته تربية صالحة فهو يضع بينه وبين جهنم ستراً ووقاية من النار ولكنه يأمر .. ما هذا الازدواج في المعايير؟
جاءت اتفاقية سيداو – الصادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ابتدأ العمل بها من ديسمبر ١٩٨١ – بهدف القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وهي بذلك تلزم الدول الأعضاء بتنفيذ قراراتها في حالة رغبت الدولة بأن تستمر عضويتها بمجلس الأمم المتحدة، وسلطنة عمان تُعنى كغيرها بتنفيذ أحكام هذا القرار بما لا يتعارض مع قوانين السلطة والسيادة للبلاد. وعليه فقد التزمت السلطنة بتنفيذ مجمل هذه القوانين والأحكام، مع التحفظ على مجموعة منها، كتلك التي قد لا تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية. والجدير بالذكر أن هذه التحفظات ليست ثابتة، بل تحتمل التغيير بما ترتئيه السلطة في مصلحة عمان والعمانيين، وهو ما حدث في بداية هذا العام عندما صدر مرسوم سلطاني برفع التحفظ على الفقرة (٤) من المادة (١٥) التي تنص “على أن تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم” وعليه فإن نص القانون يلزم جميع مؤسسات الدولة بالعمل به وفق صدوره.

السلطة الدينية والقانون.. تماهٍ أم تناهٍ ؟
ومن هنا كان من الضروري توضيح العلاقة بين السلطة الدينية والقانون المعمول به في سلطنة عمان. فمع بدء التعامل بالجواز الإلكتروني الجديد منذ بداية عام ٢٠١٥، أصدرت الشرطة السلطانية – وهي الجهة المسؤولة عن إصدار وثائق الهوية والجوازات- قرارا بأن من حق المرأة العمانية ارتداء الحجاب من عدمه في الصور الشخصية، وما زال الموقع الإلكتروني لشرطة عمان السلطانية إلى اليوم، بعد ٤ سنوات من تاريخ صدور ذلك القرار يدرج شرطًا واحدًا فقط في مواصفات الصورة الشخصية بالنسبة للإناث، وهو: وجوب ظهور ملامح الوجه كاملة بدون ذكر صريح للفظة “الحجاب” لا مباشرة ولا مضمونًا. وهذا ما تم تطبيقه هذا العام أيضًا عندما جاء مرسوم سلطاني يسحب التحفظ عن الفقرة المذكورة في الفقرة السابقة أعلاه.

ولا شك أن القارئ سيتساءل عن وجود تعارض بين القانون وبين الشريعة الإسلامية، الشريعة التي ” تحث” المرأة على ارتداء الحجاب وتعده من الواجبات الشرعية، وبين إسقاط هذا الشرط قانونيا، وبالمقابل أيضًا إسقاط شرط الولاية والوصاية على اختيار المرأة لسكنها وحرية تنقلها الذي عارضته وتحفظت عليه السلطنة في بداية ظهور اتفاقية سيداو، والسبب مخالفته للشريعة، ولكن القانون الآن يسقط هذا التحفظ، ويلزم مؤسسات الدولة بسرعة التنفيذ وإلغاء ما يخالف هذا النص، فهل هناك فعلا تضارب بين السلطتين؟ أم أن الأمر أبسط في الشرح مما نعتقد؟
ولكي نجيب عن هذا التساؤل فلنعرج قليلاً على حديث “تأبير النخل” بمختلف نصوصه المذكورة في الصحاح، وسنركز على الحديث الثالث، إذ إن لفظه أكثر انتشارا بين الناس. “عن ثابت، عن أنس بن مالك وعن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة ” أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: (لو لم تفعلوا لصلح)، قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: (ما لنخلكم؟) قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم). وفي تفسير الحديث فبحسب ما أورده موقع الإسلام سؤال وجواب في تفسير الحديث ذكر عدة نقاط نورد منها ” الحديث لا يتعارض مع قوله تعالى: (وماينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) النجم/٣-٤. لأن ما أخبر به النبي في حادثة تلقيح النخل صرح بأنه كان ظناً وتقديراً منه على حسب ما يعلمه من أمور الدنيا.
يقول الطحاوي: لم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم إخبارا عن وحي، وإنما كان منه على قول غير معقول ظاهر [يعني أنه أخبر عن أمر حسي مشاهد للناس] مما يتساوى فيه الناس في القوم، ثم يختلفون فيتبين ذوو العلم عن سواهم من غير أهل العلم به، ولم يكن الرسول ممن كان يعاني ذلك، ولا من بلد يعانيه أهله: لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بلده مكة ولم تكن دار نخل يومئذ … ” إلى نهاية النص.
وما يعنينا هنا من ذكر هذا الحديث هو أن التشريع النبوي أباح للناس تغيير الأحكام التي قد تكون ذات فائدة ومنفعة على أهل البلاد بالمطلق، فالنبي محمد أعطى رأياً شخصياً بأمر من أمور دنيا أهل مجتمع المدينة، وعندما لم يصب رأيه؛ حث الناس على أن يعملوا بما فيه مصلحتهم بعد أن يتشاورا و يتجاوزا عما قدمه لهم من رأي بدون تعنت، وبين لهم أن أمور الدنيا وهي ما نعرفها بقوانين المجتمع المدني والحياة العامة إنما هي شؤون أصحاب البلاد فهم أكثر إدراكاً وفهماً لها من أن يتحكم بها التشريع الديني الذي قد لا يكون متخصصاً في هذا المجال.
وعليه، فإننا عندما نقيس ونسقط مسألة الحجاب وعدمه عند إصدار الجواز للمرأة أو إلغاء التصاريح التي تفرض الوصاية؛ فالدولة والقانون لا يعتديان على الدين بأي شكل كان؛ إذ إن رأي المشرع والأحكام الفقهية تختلف بين طائفة وأخرى، وتوجه فكري ثقافي ديني وآخر؛ لأنها تتعلق بأمر يمس الحياة المدنية ومن يعيشها. فالحجاب جاءت تفاسيره مختلفة، والقارئ يستطيع البحث وإيجاد العديد من الفتاوى المختلفة بهذا الصدد، كما سيجد عند البحث عن تصاريح السفر واستقلال المرأة وحركتها العديد من الآراء الفقهية من مشايخ وقضاة اختلفوا في زاوية النظر للأمور، وهذا يدل على اتساع دائرة الحرية الفكرية في الشريعة الإسلامية، وما تدل عليه مقولة أهل العلم أن اختلاف العلماء رحمة، كما قال ابن قدامة في المغني: “وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة”.
وهذا يقودنا لطرح سؤال أعمق. عندما تتمكن الدولة من وضع قوانين تسهل الحياة العامة لشعوبها، وعندما يأتي الدين سمحاً، والأصل فيه الإباحة المرنة التي لا تروج لفكرة التحجر والتشدد، فيتغير الحكم الفقهي -الذي لا يمس العقيدة- بما يتناسب مع فائدة الأمة بكل زمان ومكان؛ لماذا ما نزال نسمع ونرى من يعارض أي حركة للتغيير والتطوير في أمور المرأة؟ ولماذا ما يزالون يستخدمون الحجج والذرائع الواهنة، كمثل أن الشرع يرفض هذه القضية أو تلك بدون أي حق، يروجون لفكرة يرفضها الشرع في أصله وهم يلصقونها به عنوةً!
كيف نرفض ترشح محامية مثقفة ومتعلمة ومتنورة كالمحامية الأستاذة بسمة الكيومي لمجلس الشورى، ونقيم عليها الحجة بالبهتان والطعن في الأخلاق فقط لأنها لا ترتدي الحجاب؟ مع العلم كما ذكرنا أنه لا يسقط أهليتها ولا مسؤوليتها أمام القانون، ولا ينقص من قيمتها بوصفها إنسانا بالغا مساءلا ! كيف نختزل إنسانًا في قطعة قماش، ونتناسى؛ بل ونتجاهل كل ما عداه؟ وندعي أنها لا تمثل مجتمع عمان ونحن نعلم أن المجتمع العماني مجتمع ذو تعددية عرقية ودينية وثقافية فريدة جدا؟ ما هو يا ترى هذا المجتمع الذي يتحدثون عنه؟ والقانون والشرع في صفها وصف من مثلها؟ وكيف نرمي على من يطالب بقضية إلغاء تصاريح السكنات دعاوى العهر والتفلت الأخلاقي والقانون، والشرع مرة أخرى أعطى كلمته فيها وهي بينة وواضحة؟ ويستمر مسلسل التأليف بما يناسب أصحابه بالتضخم والنخر في عقلية الشارع العام وزرع الخوف فيه؟ وتستمر الجهات والمؤسسات الأكاديمية في الدولة بتجاهل القانون والمراسيم السلطانية مستخدمة الحجج نفسها، ومتدثرة بدثار قلة الوعي الذي يحكم للأسف العديد من أفراد المجتمع الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المتاهات الفلسفية والقانونية والشرعية على حد سواء؟

خطاب التجريم والتخويف

القضية بعد كل ما ناقشناه تعيد طرح ذاتها بأن كل هذا الرفض الذي تقابله الحركة النسوية العمانية الشابة إنما ينبع من خوف المنظومة الذكورية الأبوية المتغلغلة في فكر أصحاب الامتيازات من الذكور والنساء على حد سواء، التي تعمل على قمع أي صوت ينادي بحرية أو فكرة لا تناسبها، ولا تعمل على توثيق سلطتها في المجتمع بكل جشع وقسوة، ولا علاقة لهذا الرفض والهجوم لا بشرع ولا بقانون كما ذكرنا أعلاه، هي أنانية بحتة خائفة من أن تفقد امتيازاتها ببساطة.
المنظومة الذكورية لا تهتم بتربية الفتاة كما تربي الفتى، فهي تخلع الدلال والامتيازات غير المنطقية على الذكر، وتنزعها عنوة من المرأة، والحجة كما عهدناها الوصاية والحماية؛ ولكن المنطق يفرض نفسه ويقول ممن نطلب الحماية؟ فالتربية لا تعنى فقط تربية الفتيات وتخويفهم من ثورة المجتمع وغضبه، التربية تعني أيضاً أن تربي ابنك الذكر على أن يكون إنساناً يحمل أخلاقاً ومبادئ عاليةً، بدلاً من أن ننشئ أجيالا من الذكور تستبيح الُحرمات بما نشأت عليه من سنوات تجيز لها ما تمنعه على غيرها، وهنا نجحنا في خلق ذكورية سامة تأكل صاحبها، وتفسد في المجتمع، ذكورية هشة وضعيفة تلجأ إلى الترويع والتخويف عندما تفقد حجتها، وتلجأ إلى التهديد بالاغتصاب للفتيات في حال خروجهن من سكناتهن بدون تصريح، كما فعلها مغرد رداً على فتاة تطالب وتدعم وسم عمانيات نطالب بإلغاء التصاريح، فهذا ما يحدث عندما نعزز وجود وحوش كاسرة عابثة ترى في ذكوريتها تميزاً وفوقية تسمح لها بممارسة كل أنواع التعنت والانحلال الأخلاقي بدون عقاب أو حساب، ونمنع بالمقابل طرفاً آخر من ممارسة حقوقه المدنية والقانونية بسبب هذا المنطق المعوج.

بداية الغيث

قضية تصاريح السكنات ليست قضية يستهين بها أي خفيف عقل يطرح فيها رأيه، قضية تصاريح السكنات تحمل خلفها واقعًا وحقيقة مرة وبالغة الأهمية يجب أن نناقشها كما يجب أن نناقش كل قرار لا ينصف المرأة معه، كقضايا الزواج والطلاق والحضانة والولاية والدية والميراث والرواتب والمراكز الإدارية في الدولة وغيرها الكثير. قضية السكنات قضية قيدت الطالبات العمانيات ومنعتهن من ممارسة حياتهن بطبيعية يعيشها كل طالب جامعي في كل دول العالم المتقدم. يكفي القارئ أن يبحث قليلًا خلفها، ويسائل من يعرفه من فتيات جامعيات، ويفهم صعوبات ما يمر بهن، ونحن لا نبالغ في تضخيم الأمر كما يقول بعضهم عندما يطالب الفتاة بأن تجد سكناً خارجياً في حال رفضها للقوانين الموضوعة، متناسياً بذلك أنها في حال قررت الخروج فهي تفقد حقها في استلام مبلغ الإعاشة كما تفقد حقها في إيجاد عمل يساعدها على الحصول على مردود مادي تستقيم به حياتها؛ إذ إن المجتمع ما زال لا يتقبل التعاون مع مفهوم الطالب العامل، وكيف أنه يحتاج ساعات مرنة يكسب بها لقمة عيشه، ويتفوق فيها دراسياً أيضاً، وهي معضلة حقيقية للطالب الجامعي.

عندما نطلب من المرأة التعلم، بالأخص متابعة التعلم الجامعي العالي؛ فنحن هنا نتحدث عن مرحلة مهمة من عمر الفتاة، تستوجب استقلاليتها وتحملها مسؤولية نفسها وإدراكها لقيمتها وذاتها وتحملها للأخطاء، تأهيلا لها نحو أدوار أكثر أهمية مهنيا وأسريا ومجتمعيا؛ فلا يجوز أن نطلب كل هذا، ثم نقيدها بقيود الممنوع التي تتراكم فوقها جبلاً لا تقوى على تحمله، بينما نعامل الشاب بتساهل عالٍ يصل إلى تجاهل جرائم بعضهم، وننشر فكرة أن فساد المجتمع يبدأ بفساد المرأة، ونسقط من الأساس تهمة الفساد على مطلب إنساني بحت، ونقصي الذكر من تحمل هذه التهمة أيضاً، إن مارسها هوى ونهوي بسياط اللوم والتنكيل على المرأة كما فعلت العديد من الأصوات على منصات التواصل الاجتماعي في الأسبوع المنصرم، التي وصلت إلى حد القول بعصمة الذكر من وقوعه في الفتنة، وإلقائها على المرأة، والقارئ له حرية الاطلاع بدون تحيز.
وختاماً، أن نتقدم في العلم والمعرفة والفلسفة والثقافة وننشر البحوث ونتوج العلماء ونخترع تقنيات جديدة، ولدينا المرأة في بلادنا يتم قتلها وحرمانها من العلم والعمل بحجة عادات بالية لم تزل تنهش في نسيج مجتمعنا؛ لهو أمر مخزٍ، وأن تلام المرأة بسبب عادات وأخطاء يتشدق بها بعض المستشرفين؛ بينما هم يرمون خلف غطاء الخصوصية والظلام كل ما له علاقة بالشرف، ويمارسون عهرهم بسكون وصمت؛ لهو فعل عجيب يحتاج بحثًا ونظرًا عميقين لجذوره (أفلا تعقلون)؟

مقال مجلة وطن الدبور:

التاسع والتسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

فاطمة الساعدي