هل يجوز انتخاب غير المحجبة لعضوية مجلس الشورى؟ لستُ في المحل المناسب للإجابة على هذا السؤال بصيغته هذه. فهذا السؤال مما يستحوذ عليه الفقهاء عادةً. فالفقهاء (بحق أو بدون حق) يستحوذون على الجانب الإداري والتنفيذي للدين؛ ظانين ظنا (صقلته الأيام والسنون) أنهم يعرفون الطريقة التي يجب على الإنسان أن يدير بها حياته اليومية، وبالتالي يظنون أن عنعنتهم تنتهي سلسلتها بالله وأنهم المتكلمون باسم الله في الأرض. وهذه الطريقة في التفكير لا تريد (في معظم الأحوال، وإن أحسنا النوايا والطوايا) مضرة الإنسان بل إن هدَفها الرئيس تنظيمُ الحياة بالطريقة المناسبة التي يظن بها فقيهٌ ما أنها الطريقة الحق التي يريدها الله للإنسان. وطبعًا لا يمكن لعقل مفكر إلا أن يُشكّك في مثل طريقة التفكير هذه. فطريقة الفقيه (أيا كان، وأيا كانت) هي مجرد فهم وتأويل وتفسير، ولذلك وُجدت المدارس الفقهية وتعدّدت الآراء وذهبت الاختلافات إلى أقصاها فيما يتعلق بالمسألة الواحدة. ولذا فإن السؤال ذاته عن جواز دخول غير المحجبة إلى قبة مجلس الشورى سؤال ليس في محله لأنه يُدخل القضية في حوزة دينية ثم يطلب رأي الفقهاء وعلماء الدين فيها، فيما يجب أن يكون السؤال بصيغة مدنية.
والَّلبس القائم هنا منشؤه ربما حاصل من أن القانوني (وليس الفقيه) هو من ينبغي أن يُجرَّ السؤال إلى حوزته. فالقانوني هو الفقيه المدني. وعنعنته (أي القانوني) تنتهي سلسلتها بالإنسان؛ الإنسان الذي يتخيله الإنسان، أي أنه يظن أنه إنما يضع القوانين وينفذها باسم الإنسان. والجيد في طريقة التفكير هذه أنها أسرع في التجاوب لحل قضايا الإنسان المستجدة وتنظر للأمام بدلاً من النظر إلى الوراء. ولذا فصيغة السؤال يجب أن تكون مدنية هكذا: هل يحق انتخاب غير المحجبة لعضوية مجلس الشورى؟ ولأن هذا سؤال يمكن لإنسان (مثلي) أن يجيب عليه (مع أني لست قانونياً في نهاية المطاف) فإجابتي له: نعم، يحق، بل لعلي شخصيًا أن أقفز قليلاً في إجابتي وأقول: يجب انتخاب غير المحجبة لعضوية مجلس الشورى. فالفكرة الأصلية لمجلس الشورى إرجاع الأمر (كله مستقبلًا أو جزء منه راهنًا) إلى الناس. ولأن الناس متعددو الوجوه والشخصيات والتوجهات فلا بد أن يحدث تمثيل لهذه التعددية داخل المجلس.
أما الراهن فممثلو مجلس الشورى يمثلون “الوسط المُتوهَّم” (إن صح لي التعبير) فهم ليسوا مختلفين إلا من جهة مكان سكناهم. فهم لا يمثلون تيارات فكرية مختلفة، ولا يملكون رؤى مختلفة أو متناقضة، بل إن المجلس في دوراته الأخيرة كاد ألا يُمثَّل إلا بالرجال. وهناك طبقات كثيرة في المجتمع لا تجد لها منفذا إلى المجلس. وعليه فإن تعدد الآراء في المجلس محدود ونطاق الاختلاف فيه ضيق. وهو بالتالي لا يرقى أن يكون ممثلا حقيقيا وفاعلا للمجتمع الحي (أو الذي يراد له أن يكون حيا)، وإن رقى إلى ذلك فإنه لا يرقى أن يكون مجلسا حقيقيا.
فإذا أتينا بالشق الثاني من مجلس عمان، أي مجلس الدولة، ونظرنا في أعضائه سنرى أن الدولة ذاتها تختار “الوسط المتوهم” هذه المرة. فلكأن مجلس عمان ما هو إلا مجموعة مخففة من الحكومة، بل ربما نشطح بالقول إن تعددية مجلس الدولة أفضل وتمثيله للطبقات (وإن لم يكن ما نرغب به) يظل أفضل من تعددية مجلس الشورى. ولعل المشكلة فيه، أي مجلس الدولة (أي حسب رأيي) أن الدولة بحد ذاتها، بطريقة اختيارها لممثليها ولموظفيها الكبار، تخلت (بعض الشيء لكيلا نقول كله ونسقط في التشاؤم المذموم) عن مشروعها التقدمي، بالاعتماد كلية في جهاتها المدنية والعسكرية المهمة على “الوسط المتوهم”؛ الوسط القبلي الذكوري “الداخلياتي” العاقل المتزن “الذي يمشي جنب الحيطة” حسب أشقائنا المصريين، و”الملكي” أكثر من الملك نفسه.
إن وجود غير محجبة تحت قبة مجلس الشورى دلالة على تعددية صحية. وهو كذلك دلالة على تشكل حالة مدنية في البلاد. ولعل هذا يكون بداية لتعدديات أخرى، فنجد بعد أمد قصير تمثيلا لجميع طبقات المجتمع وشخصياته وأعراقه وتقاليده وعقله وجنونه. إن عقلية “الوسط المتوهم” تلك الشخصية التي أصبحت هدفا مقصودا من قبل الجميع، لا تثري المجتمع ولا تمثله حق تمثيل، فالأفراد ليسوا عبوات مصنعة يجب أن تخرج من خط إنتاج المصنع بمواصفات متماثلة. وإن لم تحدث التعددية في المجلس فلن يكون إلا نسخة مخففة من الحكومة ولن يجدي في دفع البلاد (والعباد طبعا) إلى الأمام.
دائما ما يُضغَط المثقف في زاوية حين الحديث عن مجلس الشورى، فماذا سيحدث (لا قدر الرب) لو أن الحكومة أو الدولة (أو نافذوها) قرروا أن يُعطوا (رغم أن ذلك حق لا عطية) الصلاحيات الكاملة لمجلس الشورى، ألن يتخذ أعضاء الشورى الموقرون قرارات تحجِّم من دور المثقف وتحجب التعددية وتطيح بحرية الإنسان؟ والإجابة: بلى، سيفعلون ذلك، إن كان المجلس بتشكيله الحالي، أي ممثلا لطبقات محددة ومحدودة من المجتمع لا ممثلا عن الجميع. فالمجلس باختياراته الوسطية المتوهمة لن يقوى على أن يخرج قيد أنملة عن “جنب الحيط” و”الحيطة والحذر” المبالغ فيهما واللذين جمَّدا البلاد وجعلاها تتراجع في مقاييس الحريات الإنسانية. ذلك لأن أحد أهداف المجلس حماية أفكار الأقليات ورفع سقف الحريات وتوسيع آفاق الإنسان لا تعليبه في عبوات متماثلة متقنة الصنع.
أتوقع أن علينا قبل أن نطالب الحكومة أو الدولة (أو نافذيها) بإطلاق يد مجلس الشورى، أن نطلق أنفسنا من بعابعنا التي حصرنا فيها أنفسنا بدعاوى المحافظة والتقاليد والعادات والدين والعقل وأبناء القبيلة والزمن الماضي والتراث (المغلوبة على أمرها)، وأن ننطلق للمستقبل (لعمان التي نريد) بعقول وقلوب مُشرَعة الضلفات.