السيابي: الإسلام جاء لعمارة الحياة والكون، وجاء ليحارب الانعزالية والرهبنة

فالمتصوف المسلم هو قبل كل شيء مسلم، فهنالك مشتركات بين الخطوط العامة للإسلام وبين ما قاله المتصوفة، وإنما المبالغة من المتصوفة عندما حصروا هذه المفردات السامية في التصوف، فأنا المسلم غير الملتزم بالتصوف ألتقي مع المتصوف في الالتزام بتوجيهات الإسلام السامية، ولكن مع بعض التهذيب في بعض هذه التوجيهات، فالإسلام عندما قال لي: إن الحياة لعب ولهو، لم يقل لي بأن أتخلى عنها، وإنما قال لي ذلك حتى لا أجعلها كل شيء.

sufism3

مدارسة حول التصوف في عمان

مع فضيلة الشيخ أحمد بن سعود السيابي

خميس بن راشد العدوي

مسقط؛ صيف 2010

مجلة الفلق الإلكترونية تعرض الجزء الأول من المدارسة التي يقدمها خميس بن راشد العدوي حول التصوف مع الشيخ أحمد بن سعود السيابي. وقبل أن نبدأ بطرح المدارسة فإننا نستعرض السيرة الذاتية للشيخ أحمد بن سعود السيابي.

Ahmed bin saud

أحمد بن سعود السيابي: فقيه ومؤرخ ومفكر عماني، له رؤى تجديدية في بعض القضايا الإسلامية، شغل العديد من الوظائف في سلطنة عمان، ويشغل الآن فيها منصب الأمين العام بمكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، له عضوية في بعض المؤسسات الإسلامية ومنها: مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، شارك في الكثير من المؤتمرات والندوات في بلاده وخارجها.

نشر بعض الدراسات منها:

1. أصول بيت المال في عمان وأثرها الحضاري في عهد دولة آلبوسعيد.

2. الرفع والضم في الصلاة.

3. الرحمة المهداة محمد صلى الله عليه وسلم.

4. الحديث القدسي.

5. المولد النبوي نظرة تصحيحية.

6. الحب في القرآن الكريم: العلاقات الأسرية نموذجاً.

7. الصحابي الجليل مازن بن غضوبة.

sufism

الحلقة الأولى

العدوي: ما هو التصوف؟.

السيابي: التصوف له عدة تعاريف، أما المتصوفة أنفسهم فيقولون: إنه اشتقاق لغوي من الصفاء، فصوفي مأخوذ من صفاء الضمير والوجدان والتصور والسلوك. هذا تعريف الصوفية بأنفسهم.

ومنهم من يسند ذلك ويرفعه –وهو أيضاً اشتقاق لغوي– إلى أن أصولهم أهل الصفة، وهم جماعة من الصحابة كانوا فقراء يقيمون في صفة في المسجد النبوي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يأكلون من بيت النبي ومن عنده. فهذا أيضاً تعريف صوفي للتصوف.

وبعض العلماء يرى أن لقب الصوفية أخذ من لباس الصوف، أي أنهم كانوا يلبسون الصوف. وهذا تعريف عدد من العلماء من خارج نطاق الصوفية، ولكنهم متصلون بالتصوف فقط.

العدوي: أي أنهم دارسون للتصوف؟.

السيابي: دراسة، أو تجلياً؛ إن صح التعبير الصوفي هنا.

هناك تعريف استشراقي للتصوف وهو أن كلمة صوفي مأخوذة من كلمة يونانية هي “سوفست”، أطلقها اليونانيون على زهّاد الهند وعبّادهم، وهم مجموعة من الزهاد الذين كان لديهم التأمل والخلوة والانعزال وممارسة عبادات معينة وفقاً لدياناتهم.

العدوي: هل نستطيع أن نقول: إن هذا المصطلح في مقابلة مصطلح “فلسفي”، وهو التأمل العقلي لدى اليونان أنفسهم؟.

السيابي: هو لقب يوناني أطلقوه على أولئك الهنود الذين لاحظوا منهم ذلك السلوك، وأنا أميل إلى هذا الرأي، لأن هذه الأمور جاءت من خارج الدائرة الإسلامية، فهذه الممارسات كانت فعلاً موجودة عند غير المسلمين؛ أعني السلوك التعبدي والتأملي عند الهنود والمسيحيين، وعند الديانات السابقة؛ سواء كانت ديانات ربانية في أصلها أو ديانات وضعية، وهنا أعبر عن قصد بالديانات الربانية وليس بالديانات السماوية، لأن الديانات ربانية، والله تعالى ليس هو في السماء فقط، وإنما هو أينما كنا فهو معنا، فأنا دائماً أعبر بالديانات الربانية بدلاً من الأديان السماوية.

فالذي أميل إليه هو التعريف اليوناني للتصوف وهو التعريف الأقرب، لأننا لو جئنا إلى الاشتقاق اللغوي نجده لا ينطبق على ما ذكرنا من تعاريف سابقة، فمثلاً لا ينطبق التصوف على الصفاء، فالصفاء لا يمكن أن يشتق منه كلمة التصوف.

وإذا قلنا إنه نسبة إلى أهل الصفة فكذلك سيكون الاشتقاق صُفيين، والمفرد صفوي.

ثم إن لباس الصوف ليس ميزة أصلاً لأن هناك الكثيرين يلبسون الصوف، والصوف في فترة من الفترات ليس لباس الناس العاديين، وإنما لباس أهل الغنى واليسر، وليس بالضرورة لباس الفقراء، فالآن على سبيل المثال يعتبر الصوف أرقى لباس الدفء.

فيبقى التعريف الاستشراقي هو الذي أراه وأميل إليه.

العدوي: إذا خرجنا من تعريف المصطلح، وأردنا أن ندخل إلى التصوف بكونه ممارسة عملية أو منهجاً متبعاً، يحاول المسلمون المشتغلون بالتصوف أو حتى المتصوفة أنفسهم أن يرجعه إلى ممارسة نبوية قبل أن يكون ممارسة عند بقية الناس، فمثلاً موسى عليه السلام عندما ذهب أربعين يوماً إلى ميقات ربه، ومحمد عليه السلام كما يرفع عنه في التاريخ والسير كان يتحنث الليالي ذوات العدد، فهذا الانقطاع والتبتل يراه البعض أنه هو مصدر المشروعية لهم، وليس التأثر من خارج الحقل الإسلامي، فما هو رأيكم؟.

السيابي: قلتُ سابقاً إن هذا جاء من ديانات سابقة، وهي إما ديانات ربانية المصدر وإما وضعية، وما فعله موسى عليه السلام لعله مما شرع في دينه، ولم يشرع للمسلمين، وأما ما فعله النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهذا ليس فيه مشروعية على الإطلاق، لأنه فعله قبل البعثة، أما بعد البعثة –وهنا تكون المشروعية– لم يمارس النبي عليه السلام الخلوة والانعزال والتحنث.

العدوي: ولا أوصى به أصحابه؟.

السيابي: ولا أوصى به أصحابه، ولم يمارسوه، وهنا يتبين عدم المشروعية.

وعندما كان يفعله النبي عليه السلام –وأعني الانعزال عن المجتمع– فلأن المجتمع مختلف، لعله كان يتأمل في الديانات السابقة كالديانة الإبراهيمية التي وجد بعض ملامحها عند قومه قريش في مكة.

وبعد أن أكرمه الله تعالى بالنبوة لم يمارس التحنث ولا الخلوة ولا الانعزال، وبالعكس شن حملة على الانعزال عن الحياة ونهى عن الرهبانية قائلاً: (لا رهبانية في الإسلام).

العدوي: هل نستطيع القول إن هذا نسخ؟.

السيابي: بل هو أكثر من نسخ، هو قطع كامل وفصل تام بين عهد ما قبل الرسالة الإسلامية وعهد ما بعد الرسالة الإسلامية، فقبل الرسالة لم يُوح إليه بشيء من قبل الله تعالى في الأمور الدينية، إنما كان ذلك بمحض إرادته، وذهب يتحنث مفارقاً مجتمعه في مكة؛ مجتمعه الصاخب في الكفر والفجور والوثنية، ولكن بعد أن بُعث لم نره يختلي ويتحنث، ولم نره يذهب إلى الكهوف والجبال، ولم نره يذهب بعيداً، بل على العكس بنى حياة أخرى بالإسلام، حياة الجد والعمل والعبادة، وكل ما كان من معنى الاشتراك في الحياة، وفي المقابل نهى أمته عن الرهبنة، والرهبنة هي الانعزال عن الحياة، إذن نبينا قال: لا رهبانية في الإسلام. طالما أنكم مسلمون لا يمكنكم أن تكونوا منعزلين عن الحياة والناس، فلا رهبانية في الإسلام، صحيح أنه بصيغة الخبر، إلا أنه في معنى النهي.

العدوي: لكن؛ أليس الإسلام ذاته جاء بالملامح التي يمكن أن يسلكها المتصوف: كالزهد في الحياة، واعتبار الدنيا لعباً ولهواً، والحث على فعل الخير، وهضم الذات، وكل ما ينبغي أن يناله الإنسان فعليه أن يناله في الآخرة وليس في الدنيا، كل هذه من مؤشرات التعلق بالله تعالى، والانسلاخ من الحياة الدنيا، والانعتاق من البشر، لا ضار ولا نافع إلا الله، وكل الربط بالله تعالى وليس بالأسباب، أليس هذا الطرح هو الذي جاء به الإسلام؟.

السيابي: هناك أمور مشتركة بلا شك، أولاً أن التصوف الإسلامي رجاله مسلمون، فالمتصوف المسلم هو قبل كل شيء مسلم، فهنالك مشتركات بين الخطوط العامة للإسلام وبين ما قاله المتصوفة، وإنما المبالغة من المتصوفة عندما حصروا هذه المفردات السامية في التصوف، فأنا المسلم غير الملتزم بالتصوف ألتقي مع المتصوف في الالتزام بتوجيهات الإسلام السامية، ولكن مع بعض التهذيب في بعض هذه التوجيهات، فالإسلام عندما قال لي: إن الحياة لعب ولهو، لم يقل لي بأن أتخلى عنها، وإنما قال لي ذلك حتى لا أجعلها كل شيء.

العدوي: ليست مقصودة لذاتها.

السيابي: نعم، إنما أعتبرها وسيلة، ولكن أمرنا بعمارتها، وأن نعيش فيها، ونضرب في الأرض، هذا كله سعي في الحياة، لكن يجب أن لا يكون على حساب الآخرة، وإنما يجب أن يكون موصلاً إلى الآخرة، وهنا تكمن الفلسفة في الفرق، طالما أكسب هذا الرزق من الحلال ومن الطريق الذي شرعه الله تعالى، مبتعداً عن الظلم والجشع وعن كل ما يخالف المنهج الإسلامي، فهذا الذي أمرني الله به، المهم أن هنالك أموراً مشتركة بين الإسلام والتصوف، وهذه الأمور تجدها عند المسلم المتقي بشكل عام سواء كان متصوفاً أو غير متصوف.

ولكن الصوفية نجدهم يحصرون هذه المعاني في التصوف، وهنا الخطأ يكمن، هذه أمور مشتركة، وهي مبادئ إسلامية.

التصوف الذي نتحدث عنه هو تلك الممارسات الطقوسية والانعزال عن الحياة، واستعمال بعض التعابير مما طرأ على التصوف من الإتحاد والحلول مع الله تعالى، والقول بوحدة الوجود، مثلما قال بعض المتصوفة، هذه الأمور هي ما تميز بها التصوف، وإن كان ينكرها الكثير من الصوفية على كثير من المتصوفة الذين يقولون بتلك الآراء.

فكأن التصوف أصبح يتوجه إلى ذلك التوجه، وزاد على المعاني الإسلامية الصحيحة زيادات قد لا يقرها الإسلام.

العدوي: إن صحت العبارة تم تسيسها لأجل منظومة التصوف.

السيابي: ليس تسييساً وإنما هو تأطير، لأنهم لم يشتغلوا بالسياسة.

العدوي: لا أقصد السياسة المعروفة، وإنما حمل المعاني الإسلامية باتجاه منظومة التصوف.

السيابي: أحب أن أعبر بالتأطير، تم تأطيرها لصالح المتصوفة.

العدوي: أو أدلجتها.

السيابي: من باب الدعاية للتصوف وكسب الناس أخذوا تلك المعاني الإسلامية فنسبوها للتصوف، وكأنهم حصروها في التصوف، وكأن غير المتصوف لا يطبق تلك المعاني، وهذا خطأ كبير.

sufism2

العدوي: دعني أقول لك نقطة أخرى في الموضوع، وهي أن الإنسان عندما يخالط الحياة -شاء أم أبى- سيقع في أخطاء، وقد تتطور إلى انحرافات أو اعتداءات، وهذا شيء طبيعي وملحوظ، فجاء البديل الصوفي لينتشل الإنسان من هذه الانحرافات، ومن هذه الحياة عموماً ليكون نقياً، فلأكن لا أتمتع بهذه الحياة ولا أخدمها ففي الأخير سأموت وأدخل الجنة، وهناك أجد المتعة في الآخرة، أما الدنيا فهي –بحسب الطرح الصوفي– هي دار فساد وانحراف، فالأصل أنك تنتشل منها نفسك حتى تصل الجنة، وهذه هي الغاية التي يريدها الإنسان، فلماذا لا نترك الدنيا ونكون متصوفين؟ لماذا لا يعيش المتدين منا حياة الزهد والتقشف، وما عليه من الآخرين شيء، إذا اهتدوا إلى ما اهتدى هو إليه فهذا المطلوب، وإن لم يهتد فما عليه من منهم.

السيابي: الإسلام يختلف في منظومته عن هذا الطرح، الإسلام جاء لعمارة الحياة والكون، وجاء ليحارب الانعزالية والرهبنة، الإسلام أمرنا بالإنفاق؛ فمن أين ننفق إذا لم يكن عندنا قوة مادية؟ وأمرنا بالزكاة؛ فمن أين نزكي إن لم يكن لدينا أموال نزكيها؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى. قالوا: ما هي؟ قال: العليا هي المنفقة والسفلى هي المستجدية والآخذة. فكيف تكون هذه اليد العليا قوية إذا كان المسلم يبقى منعزلاً في الكهوف والجبال، ويلبس خَلِق الثياب، ويأكل القوت اليسير، إلى غير ذلك، والإسلام يقول: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. المؤمن القوي بقوته المادية والجسمية وقوته في الحياة.

هذه كلها تختلف عن التوجه التصوفي حسبما ذكرتَ الآن، فأنا من وجهة نظري أن الطرح الإسلامي يختلف، لذلك الإسلام لابد له من قيادة الحياة، ودعامته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا يمكن أن يقوم به الإنسان المنعزل عن هموم الناس ومشاغلهم ومجتمعهم.

المهم؛ الزهد في الحياة هو أن يبتعد الإنسان عن الحرام، ليس معنى الزهد أن يجوّع الإنسان نفسه، ويلبس شر الثياب، وليس من الزهد أن يقتل الإنسان نفسه أو يمرضها، الزهد هو أن يبتعد الإنسان عن الحرام، ويستعمل الحلال ويأكل الحلال ويلبس الحلال، هذا هو الزهد الحقيقي في الإسلام.

العدوي: سيقول البعض: إن الزهد هو مفردة من مفردات منظومة التصوف.

السيابي: لكن تختلف معانيه، الزهد مثلما أخبرتك هو الابتعاد عن الحرام، والسعي في كسب الحلال، أما التصوف فيطرح الحياة ويتخلى عنها تماماً، لكي يصل إلى الجنة.

كلمة الزهد موجودة، لكن أنا أؤولها بما ذكرتُ، و المتصوفة يؤولونها بما ذكرتَ، إذاً هنا هو الخلاف، الزهد بكونه مفردة في الخطاب الإسلامي موجود ومطلوب، لكن كيف نطبق هذا الزهد؟.

العدوي: الملاحظ –على الأقل حسب رؤية المتصوفة– أن الإنسان عندما يسلك مسلك التصوف تزداد عنده الروحانية واتصاله بالله، وتزداد حساسيته ضد الانحرافات الموجودة، تأتيه في الحياة فيوضات وإمدادات لا تأتي الإنسان الذي تذكره أنت، وتنكشف له أمور في الحياة لا تنكشف لغيره، وتنفعل له الأسباب والمسببات ما لا تنفعل للآخر.

السيابي: قد يكون مع مَن يجرب هذا الأمر، ولكن وجهة نظري في هذا الأمر تختلف عن الكثيرين حتى من غير المتصوفة، لذا فأنا أتحدث عن رأيي الشخصي، أقول: إن لم يكن جميع تلك الأحاسيس والشعور والوجدانيات أوهاماً، وإلا فالكثير منها، فالإنسان عندما يتجه إلى أمر ما يحس بهذه الأحاسيس، عندما يتجه إلى التأمليات يحس أن لديه كشوفات وصفاء نفس، وعندما يتجه إلى أمور أخرى يحس ان لديه نجاحات معينه فيما يتجه إليه، المهم في ذلك رغبة الشخص نفسه؛ سواء كان متصوفاً أو غير متصوف، إذا اتجه إلى ذلك التوجه فيحس بهذه الإحساسات شعوراً نفسياَ لا أكثر ولا أقل، لأن علوم الشريعة واضحة، فعندنا القرآن الكريم والسنة النبوية، وعندنا الثروة الفقهية التي استنتجت منهما، وكل هذا قاض بالعمل في هذه الحياة وبتأطيرها إسلامياً، لكن الإنسان عندما يتجه ذلك التوجه فربما يحس بشيء مما تقول.

طبعاً قد يكون الذين يدخلون في هذا التصوف يحسون بتلك الأحاسيس، لكن في الحقيقة أعتبرها أشياء وجدانية، والوجدانيات دائماً تفرز أوهاماً أو تتلقفها الأوهام.

لأن مسائل الدين والعبادة والاتصال بالله ومسائل الإيمان بالغيب كلها تثبت من العلوم الشرعية، وهي علوم منقولة، لا علاقة لها بهذه الفيوضات والوجدانيات، لكن طالما الإنسان يمارس شيئاً ما يحس في نفسه وكأنه حقق نجاحاً فيما يقصده، ويبقى أمراً نفسياً يفسره الإنسان وفق ما يتوهمه.

العدوي: هل التصوف في نظرك تيار عام يضرب الإنسانية ولا يتعلق بدين، ربما حتى الماديون الذين لا يؤمنون بالله التصوف عندهم عميق، مثلاً البوذية لا تؤمن بالله، ولكن بعض البوذيين أساتذة في التصوف ، بمعنى لا علاقة للتصوف بالدين، وإنما هو شعور وجداني يفيضه الإنسان بنفسه على نفسه وعلى الآخرين بشعوره في التعامل مع الحياة.

أو التصوف مدرسة، فعندنا نحن المسلمين مدرسة اشتغلت على التصوف، وهي جزء من مدرسةأهل السنة، وبقية المدارس إنما اغترفت منها، وبالتالي هي تلتزم بدلائل شرعية ودينية ومسلكية.

أو أنه –مثلما تفضلتَ– لا علاقة له بتيار وإنما هو شعور فردي، يعني كل متصوف هو مدرسة للتصوف؛ ما لها مسالك محددة تلتقي عندها.

برأيك أين تضع التصوف؟ تياراً، مدرسة، سلوكاً فردياً، أو ممارسة فردية.

السيابي: التصوف مر بمراحل في تكونه، بدايته كان سلوكاً فردياً.

العدوي: نتكلم عن التصوف في المنظومة الإسلامية.

السيابي: نعم بدايته في الإسلام كان سلوكاً فردياً، وإنما كان في الديانات قبل الإسلام سلوكاً تدينياً.

العدوي: نابع من الدين؟.

السيابي: نعم، لذا أنا لا أعتبره تياراً، وإنما أعتبره سلوكاً جماعياً عند الآخرين، بالنسبة في الإسلام كان سلوكاً فردياً، لكن لما نشأت الطرق الصوفية، وبدايتها كان من القرن السادس الهجري، حيث بدأ التصوف يتأطر في شكل طرق تصوفية تمارس فيه طقوسيات معينة، بدأت من عبدالقادر الجيلاني في القرن السادس الهجري.

أنت أشرت إلى أن التصوف سني، وبالفعل التصوف سني، نشأ عند أهل السنة، ثم ذهب إلى الشيعة في عهد نصير الدين الطوسي حوالي القرن السادس الهجري، إلا أنه متأخر باعتبار أن الطوسي تأثر بابن سينا، وأخذ من كتبه وعلّق عليها، فدخل التصوف إلى المذهب الشيعي.

العدوي: لكن دخل إلى المذهب الشيعي متقدماً مقارنة بغيره.

السيابي: هنالك أهل السنة والشيعة والإباضية، الإباضية هم من جاءهم في وقت متأخر، التصوف بدأ سنياً سواء كان في سلوكه الفردي أو في سلوكه الجماعي الطرقي، ثم دخل إلى مذهب التشيع، أما عند الإباضية فقد جاء في بداية القرن العاشر الهجري.

الظاهر عند الشيعة أنه مر بمراحل أيضاً، يظهر فيها ويقوى حسب التوجه لدى الشيعة لكن بداية دخوله المذهب الشيعي من نصير الدين الطوسي تقريباً.

العدوي: إذا قسمنا المدرسة السنية –والأمر يرجع إليك بعد التقسيم– إلى مدرسة روائية حديثية سلفية ومدرسة صوفية، كانت المدرستان تتغالبان، كل مدرسة تحاول أن توهن الجانب الآخر، لكن ألا ترى بعد ذلك أن كثيراً من منظوماتهما أصبحت متصالحة؟ بمعنى أوجدت المدرسة السنية ما يسمى بالتصوف السني الذي يمتح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم بحسب رؤيتهم، وبالتالي خرجت المدرستان بصورة تصالحية.

السيابي: أتوقع أنه كان في البداية تصالح بين المدرسة الروائية الحديثية وبين التصوف، ثم في الفترة الأخيرة حدث شيء من التضاد بينها، وهذا في المرحلة الوهابية ، حيث حدث التصادم والتضاد بعد مجيء الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وصارت الحركة الوهابية وريثة المدرسة الحديثية أو الروائية.

العدوي: فالانفصال جاء متأخراً وليس متقدماً.

السيابي: نعم.

إنتهى الجزء الأول، وفي الحلقة الثانية سيكون محور الحديث عن دخول التصوف إلى عمان.

العدد الخامس ثقافة وفكر

عن الكاتب

خميس بن راشد العدوي

كاتب ومفكر اسلامي